بقلم: حسين مجدوبي* طغت خلال العقود الأخيرة خاصة منذ بداية القرن الجاري أطروحة ضرورة تعلم اللغة الإنجليزية كشرط إجباري لمواكبة العصر وتفادي التخلف. ويذهب عدد من الدراسات إلى تأكيد صحة هذه الأطروحة إلى مستوى هوس العديد من الحكومات بتلقين طلابها هذه اللغة. وعلى ضوء التاريخ: هل الرقي الحضاري يقوم على لغة عالمية أو توظيف حقيقي للمعرفة وتوفيرها باللغة التي يتقنها شعب معين أي لغة الأم؟ وهكذا كثفت وزارات التعليم في مختلف دول العالم من مستوى تعليم اللغة الإنجليزية وبدأت الدراسات تتناسل حول أهمية هذه اللغة وتمنحها التاج على حساب لغات أخرى ومنها الفرنسية. وانتقل هذا النقاش من دائرة التعليم والتلقين إلى دائرة السياسة من خلال مقارنة بين العالم الفرنكفوني والعالم الأنكلوسكسوني وتسقط بعض التحاليل في نوع من السذاجة الفكرية عندما تتعامل مع اللغة من باب الموضة على شاكلة المنتوجات المخصصة للاستهلاك من ملبس ومأكل وترفيه. اللغة الإنجليزية لغة رئيسية في الوقت الراهن ومفهوم رئيسية لا يعني حاسمة بل قد تكون مضرة للكثير من الشعوب التي تعتقد في ارتباط المعرفة بلغة شكسبير. وتجدها تجتهد في تعلم هذه اللغة وفي آخر المطاف لا تنتج علماء ولا خبراء بل ربما عددا من التجار والعاملين في السياحة. ويحضر هاجس تعلم اللغة الإنجليزية في الدول المتخلفة ومنها العالم العربي وهو في العمق وعي بخطورة التخلف لكن هل اللغة الإنجليزية هي العلاج المناسب؟ من خلال استعراض تجارب الحضارات منذ القدم ودراسة تقدم الدول في وقتنا الراهن سينتهي المرء إلى خلاصة رئيسية تتجلى في اعتماد أي نهضة علمية وحضارية على إبداع الإنسان والبيئة المناسبة التي يعيش فيها وعلى رأسها مدى توفر المعرفة. وتسعفنا بعض التجارب التاريخية النهضة العربية الإسلامية ثم النهضة الغربية انطلاقا من النهضة الأوروبية إلى يومنا هذا ثم نتطرق إلى نهضة دول جديدة في وقتنا الراهن. لقد تقدم العالم العربي الإسلامي بفضل تظافر الإبداع في رقعة جغرافية كبيرة تمتد من حدود الصين إلى الأندلس والمغرب حيث جرى تبادل التجارب الثقافية وانصهارها حيث تمت ترجمة المعارف إلى العربية من شتى الحضارات والثقافات وعلى رأسها معارف الإغريق ونسبيا الثقافة الرومانية التي تعرف بالثقافة اللاتينية نسبة إلى اللغة اللاتينية. واعتمدت النهضة الأوروبية على توفير المعرفة من خلال ترجمة العلوم التي كانت باللغة العربية إلى اللاتينية ولاحقا إلى اللغات التي ظهرت في أوروبا من فرنسية وألمانية وإنجليزية وإسبانية. ولعبت إسبانيا دورا رئيسيا في هذا المسلسل المعرفي من خلال مدرسة طليطلة التي تولت ترجمة العلوم التي كانت مزدهرة في الأندلس وشكّلت أرقى مظاهر الحضارة العربية الإسلامية. وإذا تأملنا التاريخ جيدا سنجد أن الحضارة الغربية هي الأولى في تاريخ البشرية التي انبثقت من نقطة انطلاقة واحدة وهي النهضة الأوروبية ثم أفرزت لاحقا أقطابا حضارية بلغات متعددة سيطرت على العالم أي دولا متقدمة علميا ونخص بالذكر ألمانياوفرنساوبريطانيا وابتداء من منتصف القرن التاسع عشر الولاياتالمتحدة حتى يومنا هذا. لم تحقق فرنسا نهضتها بالإنجليزية بل بالفرنسية ولا ألمانيا بلغة شكسبير بل الألمانية ولم تحقق الولاياتالمتحدة نهضتها فقط بالإنجليزية بل بفضل مواردها وتشجيعها للمبادرة الحرة واستقطابها للأدمغة ونقدم مثالا: من أكبر الإنجازات في التاريخ الأمريكي والبشري هو الوصول إلى القمر والعالِم الذي لعب دورا رئيسيا هو الألماني فان براون المتخرج من الجامعة الألمانية وليس الأمريكية. ومن باب المقارنة بريطانيا هي مهد الإنجليزية وهي اللغة الأكثر انتشارا في العالم ولكن بريطانيا لا تتفوق على فرنسا في الإبداع العلمي والاختراعات وفي الدخل الفردي ومستوى رفاهية المواطن رغم ما يقال عن انحسار الفرنسية. لقد سقط العالم في فخ ربط العلم باللغة الإنجليزية وأصبح تصنيف التقدم العلمي يقوم على النشر باللغة الإنجليزية. وأصبح العالم أمام ظاهرة مقلقة وهي استفادة الدول الأنكلوسكسونية من الإنتاج العلمي العالمي بسبب النشر بلغة شكسبير بينما الدول التي لا تنتج بهذه اللغة لا تستفيد كثيرا. وكل هذا يصب في خدمة نخبة عالمية تستفيد من جميع الأدمغة بل وتشجع على الإنجليزية على حساب اللغات الأم. كم من باحث ينشر باللغة الإنجليزية وطلبته لا يفهمون هذه اللغة ولا يستفيدون من بحثه. من سنن قيام الحضارة وشروط ازدهارها هو توفير البيئة المعرفية ومنها ترجمة شتى العلوم إلى لغة الأم للشعب. توجد دول تحافظ على إيقاع التقدم العلمي بفضل دينامية الترجمة ومن هذه الدول إسبانيا وإيطاليا وترجمت إسبانيا خلال 2019 أكثر من 12 ألف كتاب في شتى التخصصات المعرفية وإن كان أغلبها من الإنجليزية فقد ترجمت من لغات أخرى. وقفزت دول أخرى قفزة نوعية مثل كوريا الجنوبية وتركيا والبرازيل بفضل ترجمة العلوم. ويشهد العالم اليوم ما تحققه الصين من ريادة في شتى المجالات إلى مستوى تهديد زعامة الولاياتالمتحدة بفضل البحث العلمي باللغة الصينية وترجمة العلوم العالمية إلى الصينية. إذا أخذنا المئة جامعة الأولى عالميا نصفها أمريكي وبالكاد من ضمنها ثلاث جامعات صينية ولكن الولاياتالمتحدة رغم ذلك تفقد المنافسة والريادة لصالح الصين وذلك لأن مقياس النشر العلمي باللغة الإنجليزية كشرط رئيسي ضمن الشروط الأخرى يعتبر فخا. الصين هي التي تحقق السبق في الجيل الخامس والسادس من الإنترنت الصين هي التي وصلت إلى الجهة المظلمة من القمر وأنتجت المعرفة باللغة الصينية التي يعتبرها البعض ضمن أصعب اللغات في العالم وتدرس في جامعاتها باللغة الصينية ولا تعاني من عقدة اللغة الإنجليزية. ومن ضمن أسرار التفوق الصيني في التجارة هو توفيرها مترجمين للتجار والمستثمرين بلغات أوطانهم وليس بالضرورة الإنجليزية. جميل تعلم الإنجليزية ولكن جعلها شريطة للتقدم كما يعتقد البعض هو فخ خطير التقدم يتم عبر تهيئة الشروط المناسبة ومنها توفير المعرفة بلغة الأم التي تتقنها الشعوب من أجل سهولة انتشار المعرفة.