للأسف تتأزم بعض الحلول عندما تصل إلى الدول العربية، فالنظام الديمقراطي، الذي هو أحد الحلول التي وصلت إليه البشرية للحد من الاستبداد وصيانة الحريات، صار تطبيقه يمثل أزمة· تتناول هذه المقالة ملخصا لبعض الاعتبارات التي تعالج عنوان المقال· أولا: هناك أربعة أمور تغيب عن الكثيرين بخصوص النظام السياسي والديمقراطية: 1- أكثر التعريفات دقة للنظام السياسي بأدبيات العلوم السياسية هو الذي يعتبر النظام السياسي مكونا من المؤسسات السياسية الرسمية (السلطتان التشريعية والتنفيذية)، ومرجعية هذه المؤسسات· وتُستمد المرجعية من الأطر الثقافية والحضارية والأيديولوجية للمجتمع، وتتضمن القيم والمبادئ العليا والغايات النهائية للمجتمع وأولوياته في مرحلة تاريخية معينة· وفي القرن العشرين، صارت النظم توصف بأسماء مرجعياتها (نظم سياسية ليبرالية وماركسية ونازية)· 2- الديمقراطية، كنظام للحكم، ليست مذهبا أو عقيدة سياسية، وإنما هي وسيلة لحل مشكلة الاستبداد ولصيانة الحريات، ويرتبط تعريفها بالشق الأول للنظام السياسي، فهي المؤسسات والإجراءات والقواعد التي تنظم: (أ) عملية اختيار الحكام ومحاسبتهم، (ب) عملية اتخاذ القرارات وطرق تمكين المواطنين من المشاركة، (ج) وآليات وضمانات حماية الحريات والحقوق· 3- للديمقراطيات المعاصرة مرجعيات عليا تمثل قيدا على الدساتير والمؤسسات· ولهذا فليس ضروريا أن ترتبط الديمقراطية بأيديولوجية واحدة، صحيح أنها ارتبطت بالليبرالية في الغرب وأن الممارسات الغربية قننت ببراعة الكثير من مضامينها، إلا أن هناك ممارسات متعددة للديمقراطية·· كما أن انتشار الديمقراطية أثبت قدرتها على التعايش مع ثقافات وحضارات لا تستند إلى الليبرالية فقط، كديمقراطيات آسيا وأمريكا اللاتينية· 4- الديمقراطية ليست النظام السياسي الأمثل، فعدا جوهرها المشترك (حكم القانون، سيادة الشعب وليس الحكم الثيوقراطي أو العسكري، المواطنة، والمشاركة السياسية)، فهي قابلة للتطوير والتعديل· وللديمقراطية أشكال متعددة (نيابية، توافقية، مباشرة، شبه مباشرة)، وهي غير قابلة للتصدير دون إجراء عمليات مواءمة بينها وبين الأطر المرجعية الثقافية للمجتمعات الأخرى· ثانيا: هناك ستة اعتبارات تساعد على فهم العلاقة بين الديمقراطية والمرجعية الإسلامية: 1- يمكن للمرجعية الإسلامية أن تقوم بالوظيفة التي تقوم بها الأيديولوجية الليبرالية بالغرب· فللمرجعية الإسلامية مقوم ثابت يتضمن المبادئ والقيم العليا والأحكام القطعية التي تمثل قيدا على المشرع وتعمل كأساس مرجعي لأي نظام سياسي يراه الناس مناسبا في زمان محدد، ومنها العدل والحرية والشورى ومقاومة الجور·· وهناك مقوم متغير هو سبل إعمال هذه القيم في الواقع· ولهذا اختلفت طرق اختيار الحكام وأساليب الشورى عند كل من الرسول عليه الصلاة السلام وأبي بكر وعمر· وهذا ما يجعل الإسلام دينا صالحا لكل زمان ومكان، ولهذا أيضا دخلت أمم وشعوب شتى الإسلام باختلاف ثقافاتهم وعاداتهم· 2- لا تتعارض الديمقراطية، كنظام للحكم، مع مبادئ وأسس هذه المرجعية العليا· فالشريعة كإطار مرجعي أعلى تحدد القيم والمبادى الحاكمة للسلطة فقط، أما آليات وإجراءات ممارسة السلطة فهي تتغير بتغير الزمان والمكان، وتُرك أمرها لمجال العقل والاجتهاد· كما لا تمنع المرجعية الإسلامية الاقتباس من الآخرين، فالحكمة ضآلة المسلم· 3- ووجود مرجعية إسلامية للنظام لا يصيب السياسة بالجمود، فمبدأ الاتباع في الدين والابتداع في الدنيا من القواعد المهمة· ولقد شجع الرسول، عليه الصلاة والسلام، ابتكار أساليب العمران والإصلاح، فقال: (من سنَّ فى الإسلام سُنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء(· كما فهم المسلمون الأوائل هذا الأمر وفعلوا أشياء لم يفعلها الرسول لأن أوضاع مجتمعاتهم ومصالح الأمة اقتضت ذلك، ككتابة المصاحف وضرب النقود وإدخال الدواوين والسجون ووضع التاريخ، مما استدل به الفقهاء على حجية المصلحة المرسلة· 4- لا تعني المرجعية الإسلامية أن الإسلام يقدم نصوصا جامدة ومُثلا غير واقعية، فهي مع دمجها الأخلاق والواقعية تعالج الواقع إذ إن الحرب خدعة، والضرورات تبيح المحظورات، ويجوز في وقت الضيق والاضطرار ما لا يجوز في وقت السَّعَة والاختيار، وارتكاب أخف الضررين، وأهون الشرين، واحتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وقبول الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما· بجانب أن بالمرجعية ضمانات أقوى من الضمانات الموجودة بالغرب، لربطها القيم والأهداف بإيمان الأفراد وعقيدتهم· 5- إن الربط بين الليبرالية والديمقراطية قد يُفرق بين التيارات السياسية بدلا من أن يُقرب بينها· فقد يعنى عمليا تجاهل مطالب قطاعات عريضة من الشعب تود أن تمارس الديمقراطية كآليات مع التمسك بهُويتها الثقافية والدينية·· وقد يعنى ربط المجتمع بأولويات وأهداف الآخرين، وتجاهل أولويات المجتمع المصري والتي قد تتضمن الحفاظ على الهُوية واللغة العربية ومقاومة الهيمنة الخارجية والغزو الثقافي ومواجهة التجزئة·· مع الأخذ بالاعتبار أن الكثير من القيم الليبرالية لا تتعارض أصلا مع الإسلام·· 6- وأخيرا يجب على المنادين بهذه المرجعية التخلي عن الخطاب الإقصائي، وإدراك أن المرجعية الإسلامية هي مصدر للقيم والمبادئ، وليست دستورا أو نظاما سياسيا أو برنامج عمل تفصيليا، وهي تحتاج آليات للتطبيق، لعل أنسبها في زماننا الديمقراطية، نظرا لنجاحها فى صد الاستبداد وحماية الحريات· لا يُشترط أن يكون النظام السياسى ليبراليا حتى يكون ديمقراطيا، ولا تعارض بين المرجعية الإسلامية والديمقراطية· ونحن في مصر لسنا بحاجة لنقل النموذج الغربي بأكمله، إننا نحتاج إلى ما يجمعنا لا ما يفرقنا، وما يجمعنا هو الاتفاق على الديمقراطية كطريقة لاختيار الحكام ومنع الاستبداد وصنع القرارات التى تخدم مصالح الشعب، مع احتفاظ كل تيار سياسي بمرجعيته العليا والتنافس عبر صناديق الانتخابات الديمقراطية·