لا شك أنّ كل عائلة تريد لابنها أو ابنتها زواجا لائقا، وتختار لها أو له الشريك المناسب، والذي من شأنه أن يسعده، ولكل أسرة مقاييسها الخاصة في ذلك الاختيار، منها من تهتم بالنسب وأخرى بالجمال أو المستوى العلمي أو حتى المال، لكنها تتفق على أن الجميع يتفق على رفض الزواج من المعاق. يعاني المعاق يوميا من التهميش، في حيه، والمدرسة، إن التحق أصلا بمقاعد الدراسة، وحتى في أسرته قد ينظر إليه بنظرة ممزوجة بين الشفقة والاستصغار، وهو ما يجعله إنسانا ناقصا، ليس بسبب تلك الإعاقة التي يمكن التخلص، أو على الأقل التخفيف منها والحياة بشكل عادي، ولكنه سيعتبر نفسه ناقصا بسبب العقد التي ستترسب في نفسيته، والتي ستجعله ينظر إلى الإعاقة التي يعاني منها كحاجز يمنعه عن الناس وعن الدراسة والعمل وكل الأشياء التي يعتبرها الناس حقهم الذي لا يناقش، ولكن ينكرونها على المعاق. من بين تلك الحقوق التي وجب على كل إنسان التمتع بها الزواج، هذه العلاقة التي تجمع بين شخصين، والتي وإن كانت من بين أقدس العلاقات التي تربط الناس ببعضهم البعض، إلا أنها لا تخلو من الحسابات، حيث يحرص كل مقبل على الزواج على ألاّ يكون الطرف الثاني أقل منه شأنا، كما لو كانت صفقة تجارية لا يريد أن يخسر فيها، لهذا فإن المعاق صار لا يفكر حتى في الارتباط، والكثير من المنتمين إلى تلك الفئة صار لا يحلم حتى بتأسيس أسرة، وأقصى ما يمكنهم التفكير فيه أن يرتبطوا بشخص معاق مثلهم. في إحدى المكتبات التقينا ببعض الشبان، وأغلبهم من الطلبة، يتراوح سنهم بين العشرين والخامسة والعشرين، سألناهم عن رأيهم في الزواج من معاق، فكانت نظراتهم الحائرة خير تعبير على أنهم لم يفكروا قبلا في مثل هذا الأمر وكأنه شيء مستبعد، وبعد تردد أجابنا صادق: »في الحقيقة لم يسبق لي وأن تعرفت على معاقة وفكرت في الزواج بها، لكني لا أجد في الأمر عيبا أو ما يمنع، لكن أغلب شباننا، وحتى إن وافقوا على الأمر، إلاّ أنهم يرفضون خوفاً من نظرة الناس إليهم، ولا بد أن تكون للمقبل على خطوة مماثلة أن يتوفر على الشجاعة وقوة الشخصية، حتى لا يضعف أمام الأشخاص الذين سيعيقونه عن مثل ذلك الزواج«. أما نسيمة فقالت إنّ الإعاقة الأولى هي في أذهان البشر، والذي يحسبون أنّ المعاق شخص ناقص، وفي رأيي فإن الإعاقة يمكن أن تكون جسدية، مثلما تكون ذهنية، فأنا أفضل الزواج من معاق حركيا، خير لي من أن أرتبط بشخص غير مسؤول أو مدمن مخدرات، أو شيئا من هذا«، أما سلوى فقد وافقت زميلتها الرأي، إلاّ أنها بدت أكثر واقعية، حيث قالت: »صحيح أنّ المعاق مثله مثل غيره، لكننا في مجتمع لا يرحم، والمرأة التي ترتبط بمعاق سيقال عنها حتما إنها ناقصة وإنّ بها عيبا جعلها تفعل ذلك، بل إنهم قد يعنون في شرفها كذلك وأولهم أسرتها ولن يفكروا بأنّ الفتاة قد تكون أعجبت بذلك المعاق، ربما بشخصيته أو تفكيره أو أي شيء«. نظرة المجتمع إلى المعاق أكثر من جاحدة، لأنّ الواقع يثبت أنّ زواج المعاق عادة ما يولد تجارب ناجحة، أو على الأقل، فإن تلك العلاقات تدوم أكثر من العلاقات التي تربط الأصحاء والتي يحكمها التسرع وسوء الاختيار. نادر شاب في الثامنة والعشرين من العمر، يحكي لنا عن تجربته: »تعرفت أيام الدراسة في الجامعة إلى شابة معاقة حركيا تستعمل الكرسي المتحرك للتنقل، وذلك منذ أن تعرضت إلى حادث سيارة، وكانت تبلغ الرابعة من العمر، في البداية لم تتجاوز حدود علاقتي معها الزمالة، ومع الوقت ارتحت لها وارتاحت لي، ودون أن أشعر كنت أميل إليها، وأعجبت بقوة شخصيتها ومثابرتها، حتى فكرت في أنها يمكن أن تكون زوجة لي، وما عزز قراري، أنني لم أجد فتاة أحسن منها، فكل زميلاتي الأخريات كن لا يملكن نصف ما تملك من مواصفات وحسنات، وكن بالإضافة إلى ذلك سطحيات لا يفكرن إلا في هيأتهن وجمالهن وفي التزين والخروج والتمكيج، وقلت بيني وبين نفسي أن فتيات من ذلك الصنف لا يمكن أن يكن زوجات صالحات، فاتخذت قرارا لا رجعة فيه بأن ارتبط بزميلتي التي يقول الناس عنها إنها معاقة، وكانت »الإعاقة« الكبيرة بالنسبة لي في طريق تحقيق رغبتي تلك أسرتي التي وقفت في وجهي، وحاولت جاهدة إقناعي بتغيير موقفي، لكن أمام إصراري وعنادي وافقوا، ورغم أنهم كانوا في البداية يتهربون منها، إلا أنها بذكائها ولطفها جعلت الكل يحبها ويتودد إليها، أما أنا وبعدما ارتبطت بها منذ ثلاث سنوات وأنجبت معها طفلين، فلا أظن بإمكان أخرى أن تحلّ محلها، خاصّة عندما أشاهد أصدقاء لي وأقارب يتزوجون ويطلقون بسرعة، ثم يعيدون الزواج وهكذا، فلا أحد منهم تمتع بمثل ما أتمتع به من استقرار عائلي«. أمّا راضية فقد صارحتنا بتجربتها قائلة: »ارتبطت منذ سنة من رجل يعاني من إعاقة في جسده، حيث أن يده مبتورة، وقبل أن أفعل كنت قد أوشكت على الزواج ثلاث مرات، وعرفت شبانا قاموا بخطبتي، لكن في كل مرة كان يحدث شيء يعطل زواجي، وفي غالب الأحيان يكون ذلك بسبب الشاب، والذي يعرض عني ما إن يرى أحسن مني، رغم أنه لم يكن ينقصني لا الجمال ولا الذكاء ولا شيء، حتى أنني فقدت الثقة كلية بنفسي وبالرجال، وصرت لا أأمن لهم، إلى أن التقيت زوجي، وكانت يتحبب إلي ويتودد، ويحاول التقرب مني، فابتعدت عنه، ليس لأنه معاق، لكني فكرت حينها أن إعاقته هي من جعلته طيب القلب، وأنه لو كان سويا لما أظهر لي كل ذلك الحب والتعلق، لكني كنت مخطئة في حقه، فبعدما عرفته، وكان يعمل بنفس الشركة التي أعمل فيها، أدركت أنه أكثر من شخص سوي، وأنه بالإضافة إلى ذلك، كانت له أكثر من فرصة للزواج، لكنه كان يرفض لأنه لم يلتق فتاة تناسب تفكيره ومستواه العلمي، فهو في الحقيقة لم يكن معاقا، ولم أكن أشعر وأنا أحادثه أو أقف معه بتلك الإعاقة، بل كانت شخصيته القوية تجعلك تحسب أنه أقوى الناس، وهو الأمر الذي جعلني أقرِّر الارتباط به، وفعلا لم أندم على اختياري، وأنا في سنة الزواج الثانية، وأتساءل دائما: كيف كانت حياتي ستكون من دونه؟ وإذا كان من الحمق النظر إلى المعاق نظرة دونية، فإنه من الدناءة أو السخف التخلي عنه بعد إصابته بالإعاقة، وهو ما يفعله البعض، حيث يتزوج الرجل المرأة، حتى إذا ما تعرضت إلى حادث أو ما شابه وصارت بالتالي تعاني من إعاقة في جسدها أو ربما تشوه في وجهها، ما إن يحدث ذلك حتى يتخلى عنها كما لو كانت سلعة انتهت مدة صلاحيتها مبكرا فوجب رميُها، وهو ما أسرّت لنا به مليكة التي كانت متزوجة برجل منذ أكثر من أربع سنوات، وأنجبت له طفلة قبل أن تتعرض إلى حادث جعلها تصبح عاجزة عن الحركة، ولم يمهلها زوجها فترة لتستفيق من الصدمة بل وبعد ثلاثة أشهر فقط، وحتى قبل أن يتأكد من أنها لن تشفى نهائيا انفصل عنها ولم تشفع له حتى ابنتهما، ولم يعد يسأل عنها وعن حالها بعد ذلك. أما سعاد فقد عانت نفس الأمر تقريباً، حيث أنها تعرضت إلى تشوه في وجهها، لكنها لم تكن متزوجة بل كانت مرتبطة ومخطوبة لشاب، والذي ما إن رآها على تلك الحال حتى هجرها وتركها، ولم يكتف بذلك بل تزوج غيرها في ظرف قصير، كما لو كان ينتقم منها على ذنب لم تقترفه فزاد من ألمها وحسرتها، وجعلها تفقد الثقة في أقرب الناس إليها. لكن وفي المقابل فهناك أشخاص يبقون مرتبطين بمبادئهم وأخلاقهم، ويبقون أوفياء للطرف الآخر، رغم كل شيء ومنهن مروى التي ارتبطت بشاب في علاقة خطبة جمعتهما وكانا سيرتبطان بعد أشهر معدودات، لولا أن تعرض الشاب إلى حادث جعله حبيس الكرسي المتحرك، إلاّ أنّ مروى لم تشأ التخلي عنه وتمسكت به رغم وقوف عائلته ضد إتمام العلاقة، فقد حاول الجميع إقناعها بأن تتخلى عنه خاصة وأنه لم يعد الشخص الذي كان عليه سابقاً، غير أنها رأت أنه من الجحود تركه في تلك الحال، وأن الإعاقة لا يمكن أن تحول بين ارتباطهما، بل هي مجرد حادث عابر واختبار. في الدول الأوروبية يتزوج المعاق وتتزوج المعاقة دون ضجيج، وينظر إلى الأمر على أنه عادي، على عكس ما يحدث في مجتمعاتنا التي تنظر إلى الزواج على أنه علاقة مبنية على المصلحة، وهو الأمر الذي يبين أن فكر البعض لازال متخلفا، على الأقل فيما يخص هذه الحالات، لذا وجب التغيير والسمو بالأفكار.