يعتبر الزواج من أهم النظم الاجتماعية التي تعمل على حفظ توازن وتماسك واستقرار المجتمع، حيث تقوى الروابط الاجتماعية، وبه يتجنب الفرد والمجتمع الكثير من الآفات الاجتماعية التي من شأنها أن تهدم وتفتك ببنية المجتمع. وبالرغم من أهمية الزواج للفرد والمجتمع على حد سواء، إلا أن التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية أدت إلى إحداث تغيرات هامة في نظام الزواج، من حيث السن، أسلوب الاختيار، السكن، المهور ...الخ، الأمر الذي أدى إلى انتشار ظاهرة العنوسة بين النساء والعزوبة بين الرجال في الجزائر، ما أدى بنا إلى التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء انتشار ظاهرة العنوسة في المجتمع الجزائري؟ العنوسة هي الشبح المخيف الذي يلاحق كثيرا من الفتيات الجزائريات، وحسب الحالات التي نراها ونسمع عنها فإنها تشكل رقما كبيرا ومخيفا ينذر بكارثة اجتماعية، إن لم تتوفر الحلول الجذرية لهذه الظاهرة. بعض الفتيات يرين أن العنوسة ليست مشكلة حقيقية، فبعضهن اخترنها بأنفسهن، والبعض الآخر فضلن النجاح في مجال الحياة على الزواج، كما احتج بعض الشباب بالبطالة التي جعلتهم يعزفون عن الزواج، مؤكدين أن تكوين الأسرة لا يمكن أن يتحقق ما لم تتحقق الوظيفة. أخر إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء 11 مليون فتاة جزائرية عانس وقرابة 5 ملايين فوق سن ال35 تعرف الجزائر ارتفاعا لافتا لظاهرة العنوسة في الآونة الأخيرة، حيث تشير الأرقام المتوفرة من خلال إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء للسنة الماضية إلى وجود 11 مليون فتاة عانس من مجموع عدد سكان الجزائر الذي يكاد يصل إلى 36 مليون نسمة، في الوقت الذي تدخل ''سوق'' العنوسة سنويا 200 ألف فتاة. وحسب تقرير المعهد يوجد ضمن ال 11 مليون عانس، قرابة 5 ملايين فوق سن ال.35 وارتفاع هذه الظاهرة أطلق عليه أخصائيو الاجتماع اسم ''دولة العوانس''، نظرا لهذا العدد الكبير منهن إذا ما تمت مقارنة مستوى العنوسة في الجزائر بنظيره في بعض البلدان العربية، حيث يفوق عدد عوانس الجزائر عدد الشعب في ليبيا ويفوق كذلك عدد 5 دول خليجية مجتمعة. هذه النسبة الرهيبة تكفي لدق ناقوس الخطر في الجزائر التي تحتل المرتبة الأولى في الدول العربية وتكاد تحتلها في الدول الغربية، ناهيك عن النتائج السلبية والوخيمة المترتبة عنها على مستوى الفتاة نفسها وعلى مستوى المجتمع بصفة عامة، محاولين بذلك البحث عن الأسباب التي أدت إلى انتشارها وإيجاد الحلول، للتقليل منها أو القضاء عليها نهائيا، خاصة أن المجتمعات بدأت تشهد بالموازاة مع هذه الظاهرة انتشار انحرافات جنسية كالزنا والاغتصاب... العاملات هن من اخترن لأنفسهن شبح العنوسة لقد عرفت المرأة تغيرا ملحوظا من حيث المكانة والدور، فبعدما كانت تؤدي في الغالب دورا واحدا يتمثل في كونها زوجة وأما، أصبحت في الوقت الحالي تبحث عن أدوار جديدة، وتسعى لإثبات ذاتها في المجتمع من خلال التعليم والعمل، الأمر الذي قد يؤخر من سن زواجها، حالات كثيرة صادفناها في هذا التحقيق ولكل وحكايتها. تقول الآنسة ''غنيمة''، أستاذة بالثانوية، إن كلمة العنوسة لا تسبب لي إشكالا، لأنني أنظر لهذا الأمر من منظار القضاء والقدر. وطالما أنني استطعت أن أكون ناجحة في ذاتي وأسرتي ومجال عملي، فلا أعتقد أني بحاجة للزواج، فليس شرطا أن يقترن النجاح بالزواج، فالكثير من الفتيات الجزائريات المبدعات حققن إنجازات عظيمة وهن غير متزوجات، وقد يكون الزواج عائقا أمام تحقيق العديد من الطموحات. أما ليلى فهي عاملة في البنك، هي الأخرى لا تخشى العنوسة وتقول إن لها مواصفات محددة في زوج المستقبل، ومنها أن يكون على خلق ودين، وأن يكون بينهما توافق وتكافؤ اجتماعي، واحترامه للمرأة حق الاحترام، وأشارت إلى أن التأخر عن الزواج قد يكون برغبة الفتاة، أو لظرف خارج عن إرادتها. وقد يدفع وصف ''عانس'' بالفتاة إلى القبول مرغمة بمن لا يمثل أحلامها من أجل أن تخرس الألسن فقط، لتدخل قائمة المتزوجات ولوعلى حساب نفسها. في حين أكدت ''حياة'' تعمل حلاقة بصالونها الخاص، أنها تفضل العنوسة لأسباب منها أن المرأة الجزائرية تقع دائما تحت ظل الرجل من الناحية المادية أو الوظيفية، وأغلب الشباب الجزائري الآن يبحثون عن المرأة المتعلمة ليس لأنها متعلمة، بل طمعا في الحصول على الراتب، فالتعامل الذي تجده المرأة مع هذا الرجل، لا يحقق لها المسار النفسي الصحيح الذي يقوم عليه الزواج. مهر.. دراسة وشروط متعسفة حتى وجدت نفسي في عالم العنوسة وذكرت ''آسيا''، ماكثة بالبيت، أن أسرتها لا تقبل تزويج الفتاة إلا من عائلات ذات سمعة ومال أو البقاء دون زواج، وذلك للمحافظة على حسب ونسب العائلة، وحتى لا يتم تزويجها هي وأخواتها لرجال تعتبرهم الأسرة غرباء، ما جعل العمر يتقدم بها دون زواج. فيما قالت كل من ''آمال '' و''سمية ''، طبيبتان بمستشفى بلغ عمرهما خمسة وأربعون سنة، وبحكم الدراسة التي أوصلتهما إلى مناصب مختصة في الجراحة والتشريح، نسيتا نفسيهما في عملهما، مضى بهما الوقت، وحتى الذين تقدما لخطبتهما تم رفضهم، وهن الآن يبحثن عن شريك للزواج الحقيقي والاستقرار العائلي. الآنسة سعاد من الشرق الجزائري، وجدت نفسها في قطار العنوسة مكرهة في اللحظة التي كان حلمها بالزواج يوشك أن يتحقق، تقول سعاد ''تقدم لخطبتي شاب مثقف ومن عائلة طيبة، وعندما تمت الرؤية الشرعية شعرت بارتياح تجاهه، لكن والدي اشترط لإتمام الزواج أن أعطيه راتبي كاملا أول كل شهر، ونظرا لشروط والدي المتعسفة، خطيبي صرف النظر عني وابتعد هربا من والدي وشروطه المتعسفة. وتحكي خديجة، معلمة بالمرحلة الابتدائية، تجربتها قائلة ''تقدم لخطبتي أكثر من شاب، يشهد لهم الجميع بحسن الخلق، لكن أبي كان يرفض دائما، وكان يضع عيوب الدنيا كلها في كل عريس. وعندما أحاول إبداء رأيي يتهمني بعدم معرفة مصلحتي، ويمر بي العمر وأنا بانتظار من يرضى عليه أبي، والسبب راتبي الذي يخاف أن يأخذه الزوج''. الفتيات العوانس ينتظرن ابن الحلال ويربطن الأمر بالسحر تقول سميرة، فتاة جامعية، ''عمري الآن ثلاثون عاما، ولم يتقدم لي الشخص المناسب حتى الآن، شبابنا أنانيون يريدون الزوجة الصغيرة التي لا تعي شيئا حتى ولو كانت جاهلة. لست أدري لماذا يخشى الرجل الجزائري المرأة المتعلمة صاحبة الشخصية القوية، حتى أنني أشك في نفسي وأقول إنه بي مس من السحر''. أما ليندة فإن أحلامها كبيرة في زوج المستقبل، وهذا ما جعلها ترفض كل من يتقدم لها، لأنها لا ترى فيهم الشخص المثالي الذي رسمته في خيالها، ولذلك فضلت أن تبقى من غير زواج طول هذه الفترة، تقول ''لم أشعر بالندم إلا بعد أن تقدم بي العمر، وأصبحت على مشارف 38 سنة، لا أريد الزواج من أي شخص، وأنا أكره كل الرجال، وحتى أهلي رسخا في ذهني فكرة أنك مسحورة، ولم أستطع أن أغير فكرتي ونظرتي للرجل أي كان''. وقوع أخريات ضحية المشعوذين من قبل الأقارب والجيران في إحدى المدن الجزائرية، على غرار الولايات الداخلية بالقرى والمداشر، يرجع بعض أسرها مشكل تأخر زواج إحدى الفتيات، وبلوغها سن الأربعين دون زواج إلى إصابتها بالسحر، خاصة إذا كانت على قدر كبير من الجمال وفي وظيفة مرموقة، فتجد والدتها تبحث عن حل لدى المشعوذين، ودفع مبالغ مالية لفك السحر عنها للتزوج وسيأتيها خطاب بالطوابير. ولكن كل هذه المعتقدات غير صحيحة فالزواج هو قضاء وقدر، وبالتالي فاللجوء إلى المشعوذ الذي يدعي فك السحر عن الفتاة ويجلب لها الخطاب بالطوابير، ما هو إلا تضييع في الوقت والمال ورفع ميزان السيئات لا غير، فهناك آلاف الفتيات العانسات سمعنا عنهن، سلكن مسلك المشعوذين شارفن على الخامسة والخمسين سنة ولم يتزوجن حتى الآن. الشباب فاتهم سن الزواج... يحتجون بالبطالة وعدم توفر السكن الشاب الجزائري في الوقت الحالي، ونظرا للظروف المعيشية التي يعيشها من بطالة وسعي لتأمين مستقبله وتكوين ذاته قبل الإقدام على الزواج، وأصبح البحث عن العمل المستقر والمسكن المستقل مسعى كل شاب، الأمر الذي يتطلب منه في الوقت الراهن سنوات عديدة حتى يحقق ذلك، شكل ذلك أهم العوامل السوسيواقتصادية التي تقف أمام إقبال الشاب على الزواج، خاصة أن أسلوب الحياة قد تغير كثيرا مقارنة بالسنوات السابقة، حيث أصبح له مقتضياته ومستلزماته وعدم توفرها قد ينعكس بالسلب على حياته. وهو حال الشاب ''منير'' وعمره خمسة وثلاثون سنة ''إنني أرغب في الزواج، ولكن الزواج الناجح له مرتكزات أساسية، فكيف أكون أسرة وليس لي دخل يفي باحتياجاتها الأساسية؟ فقبل أن أفكر في الزواج لابد أن أبحث عن مصدر رزق، حيث إنني حاصل على شهادة جامعية، ورغم محاولاتي العديدة للبحث عن وظيفة، إلا أنها باءت بالفشل''. ويؤكد الشاب ''عبد المالك '' أن الزواج حلمه الوحيد، ولكن مرتبه لا يفي بتكاليف الزواج، حيث إن مرتبه ضعيف، وهو العائل الوحيد لأسرته المكونة من والده ووالدته وسبعة إخوة، منهم من مازال على مقاعد الدراسة. أما الشاب جمال الذي يبلغ من العمر 33 عاما، فكان له رأي آخر، حيث قال ''أنا لا أفكر بالزواج حالياً رغم وظيفتي المرموقة، فما زلت أتمتع بحياتي الخاصة دون قيود، فالزواج يقيد الحرية، وأنا لا أجد نفسي سائقاً لأسرة أو حتى مربياً للأطفال، وأنا أفضل الزواج بعد سن الأربعين''. عبد الآوي حسين أستاذ علم الاجتماع التعليم.. العمل والسكن عوامل تأخر سن الزواج وعن الأسباب التي أدت إلى تفشي هذه الظاهرة، قال عبد الآوي حسين، أستاذ علم الاجتماع بجامعة بوزريعة، إنها متفاوتة من حيث تأثيرها في تفشي هذه الظاهرة، خاصة أنها توسعت بين النساء وأصبحت تشمل حتى الرجال، قائلا إن التحولات الاجتماعية والثقافية، كاهتمام المرأة بالتعليم ورغبتها في الاستقلال المادي والمعنوي، من الأسباب التي أدت إلى تفشي العنوسة. مشيرا إلى أن بعض الفتيات يرفضن المتقدمين لأسباب مختلفة، وهناك من تريد القادم لها قريبا من الصورة المثالية التي رسمتها بذهنها، وقد يكون هذا من تأثير الصديقات، الفضائيات، القصص وحتى الأسرة لها تأثير، حيث تترك للفتاة حرية القبول أو الرفض. وفي سياق متصل أشار محدثنا إلى أن شبابنا اليوم هو الآخر يعاني مشاكل جمة من بطالة وأزمة سكن وهي عوامل ساهمت في تأخر سن زواجه، الأمر الذي قد يؤدي إلى تكريس وتفشي ظاهرة العنوسة، مضيفا في ذات الأمر أن المبالغة في تكاليف الزواج، كالحفلات والمستلزمات الكمالية هي الأخرى تجعل الشاب يفكر أكثر من مرة قبل أن يقدم على الزواج.