بعد قيام ثورة 25 يناير 2011 الرائعة في مصر والتي كان من أهم نتائجها إزاحة نظام مبارك الذي جثم على صدور وقلوب المصريين لأكثر من ثلاثة عقود، ثم قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة - الذي تولى أعباء السلطة في المرحلة الانتقالية - في فيفري 2011 بتعيين المؤرخ والمفكر السياسي المستشار طارق البشري رئيسًا للجنة صياغة الدستور ومنذ ذلك الحين والإعلام المسموع والمقروء والمرئي يتناول مدحا وقدحا التعديلات التي أقرها البشري وأصحابه ووافق عليها الشعب المصري في استفتاء كان الأشهر في تاريخ الاستفتاءات المصرية·· ولقد صدرت مؤخرا دراسة بعنوان (المستشار طارق البشري ورحلته الفكرية·· في مسار الانتقال من الناصرية إلى الإسلام السياسي)، للباحثة آنجيلا جيورداني، وقامت بنقلها إلى العربية عومرية سلطاني عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية، في إطار سلسلتها مراصد التي كان يرأس تحريرها الباحث حسام تمام- يرحمه الله - الذي غيبه الموت نهاية العام المنصرم·· وتعرض الدراسة تفاصيل ودلالات التحول الفكري للمؤرخ والكاتب المستشار طارق البشري من الناصرية إلى الإسلام السياسي، بالإضافة إلى انعكاسات هذا التحول على دوره بعد ثورة 25 يناير كرئيس للجنة وضع التعديلات الدستورية· وتلقي الضوء على المعضلة التي واجهها البشري عشية الاستفتاء الدستوري الأخير، والتي تتمحور ما بين الثورة التي أحدثتها الجماهير وبين الحفاظ على الشريعة التي تتضمنها المادة الثانية من دستور النظام القديم· البشري ومعاصريه- المرحلة ما بعد الاستعمارية وتبين الدراسة أن المستشار طارق البشري بدأ جنبا إلى جنب مع العديد من معاصريه أمثال محمد عمارة وعبد الوهاب المسيري وفهمي هويدي وعادل حسين بتبني الدفاع عن مواقف سياسية واجتماعية إسلامية في فترة أواخر عهد السادات، بعد نحو ما يقرب من عقدين كانوا خلالهما يمثلون وجوه اليسار المصري ومنتقدي الجماعات السياسية _ الدينية في البلاد· وقد شكل ظهورهم على وجه الخصوص كداعمين لإصلاح المادة الثانية من الدستور المصري أواخر السبعينيات بهدف جعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع، محور تحول هذا الجيل نحو الإسلام السياسي· وتقول الباحثة إن البشري تمكن بشكل خاص من بلوغ مكانة فريدة في الساحة الثقافية الوطنية منذ أعاد اكتشاف نفسه في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي كصوت وسط بين الإسلاميين المصريين والاتجاهات العلمانية، هذه المكانة وضعت البشري في موقع الحليف المرغوب والزعيم المحتمل لجماعات مثل حزب الوسط وحركة كفاية· وتبين آنجيلا جيورداني أن مشروع الاستقلال الوطني بالنسبة لطارق البشري وجيله ولد عام 1956م، عندما أعلن جمال عبد الناصر أمام مواطنيه أنهم سادة مصيرهم، ثم أثبت ذلك حين سلمهم قناة السويس وطرد الإمبرياليين الغربيين· وتعتبر المقالات التي كتبها البشري في الستينيات للمجلة اليسارية الشهيرة الطليعة، هي التي أرست دعائم شهرته بوصفه واحدا من أهم الوجوه الشابة التي تمثل جهود المدرسة الاشتراكية العلمية في التاريخ المصري· ثم تتطرق الدراسة إلى مرحلة إعادة التفكير في أصالة المشروع الناصري في الرحلة الفكرية للبشري، حيث سعى البشري ليفهم الأسباب خلف نكسة الحركة القومية، وبدت تداعيات خلاصات البشري بشأن القومية المصرية المبكرة ونقده للناصرية أكثر وضوحا في كتاب صغير نشره عام 1975م، تحت عنوان الديمقراطية والناصرية· وحدد البشري الخلل الرئيس للناصرية في ثبات طبيعتها غير الديمقراطية، تلك التي أشار إليها باهتمام في تحليله بوصفها الحركة الأولى الرئيسة في تاريخ الشعب المصري التي حاولت تحقيق الأهداف الوطنية بدون ديمقراطية· وتقول الباحثة إنه خلال الخمس سنوات التالية ما بين نشر البشري لكتاب الديمقراطية والناصرية وبين مشاركته في مؤتمر القومية العربية والإسلام الذي نظمه مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1980م، سيتعاظم التحول الفكري للبشري، وسيظهر الماركسي السابق ذو النزعة القومية العلمانية بمواقف سياسية إسلاموية عكست هدفه الجديد بشأن الاستقلال الحضاري· البشري الذي بدا غير قادر على حمل نفسه على الكتابة للجمهور-خلال جزء كبير من هذه الفترة كتب أخيرا مقالا في أوائل عام 1979 م، عنونه بثلاث ملاحظات حول الحركة القومية في مصر التقط فيه ما كان قد غاب عنه في كتاب الديمقراطية والناصرية، وكشف عن إعادة تقسيمه لمراحل وحركات القومية المصرية مع حس جديد بالتناقض· في هذا المقال، قدم البشري الشرخ الذي اتهم به الناصرية بالتأرجح بين الأهداف القومية للا ستقلال والديمقراطية بوصفه مظهرا من مظاهر حالة مستمرة من الازدواجية والانفصام التي يعاني منها الوعي في مصر وفي العالم العربي برمته منذ انتشار الفكر والمؤسسات الوافدة أوائل القرن العشرين· من الميثاق إلى الشريعة أشارت كتابات البشري الانتقالية إلى أن المظهر المزعج بشكل خاص للتحدي الجديد للعدو هو الطريقة التي يبدو أنه ينبثق بها من داخل الأراضي العربية، والمجتمع، والفرد ذاته في مقابل تلك القادمة من الخارج· واكتشف البشري أن المجتمع المصري والفرد المصري قد اُبتلِيا بحالة من الازدواجية والانفصام لما يقرب من قرن من الزمن، بسبب الصراع العقائدي بين الوافد، ذي الطابع الغربي بشكل خاص، وبين الأفكار الموروثة، واللذين ساهما معا في صياغة نظم القيم، والمؤسسات والبِنَى الاجتماعية للحياة العصرية في مصر والعالم العربي بِرمته· وتؤكد الباحثة أنه فيما يعتبر البشري أن اكتشافه لجدلية الصراع بين الوافد والموروث بوصفها علامة فارقة في مسيرته الفكرية والتي اضطرته إلى مراجعة جدلية لفهمه للتاريخ المصري الحديث، إلا أن نظريته الجديدة هي تطور مباشر، وليس انقطاعًا عن فكره الماركسي· وتلمح الدراسة إلى أن التحول الفكري للبشري يتأكد في كلمته الختامية في مؤتمر القومية العربية والإسلام عام 1980، والتي يقول فيها: قادما من القاهرة في هذه الأيام العصيبة، لا شيء غير الإسلام حفظ عروبة المصري أو بكلمات أخرى، لا غنى عن الإسلام ليحافظ المصري على عروبته· وتبين أنه بهذا الإقرار، يعلن البشري أن بناء هوية مصرية وعربية مستقلة مستحيل من دون الإسلام، وأن هذه الخاتمة تتضمن الانقطاع الوحيد الذي حصل بين فكر البشري الماركسي وفكره الإسلامي الجديد· وتشير الباحثة إلى أنه بانتهاء الألفية الثانية ومعها العقد الثالث من حكم الرئيس السابق حسني مبارك، تغير تركيز البشري من التأكيد على سلطة الإسلام والشريعة باتجاه ما رآه هو والمجتمع المصري بِرمته كقضية أكثر إلحاحا لنفي سلطة النظام القائم بهدف تفكيكه· ففي كتابه عام 2006، مصر بين العصيان والتفكك، دعا البشري إلى العصيان على قاعدة أن نظام مبارك أصبح قمعيا ومنفصلا عن شعبه، بحيث أوشك في مرحلة أن يتحول إلى قوة إمبريالية تحتل مصر مما يجعلنا نقول إن هذا الكتاب مع عوامل أخرى كان من أسباب ثورة 25 يناير· وتقول الباحثة إن تعاضد الدور البسيط نسبيا الذي لعبه الإخوان مع الوجود القوي لأصوات يسارية راديكالية في صبغ ثورة 25 يناير بصبغة يسارية، على الأرجح أنها أثارت لدى البشري القلق من اختطاف محتمل للثورة من قبل الوافد، وظهر ذلك في التعديل المقترح للمادة 75 التي تحظر على كل المصريين الذين لهم أي شكل من الروابط مع الوافد - سواء كانت جنسية ثانية أو زوجة أجنبية - تولي الرئاسة· وتشير الباحثة إلى أن مقياس المحافظة في مقاومة الوافد الذي اتخذه البشري والذي كان أكثر ما أثار الجدل هو موافقته على تعديل بدل الدعوة إلى الإلغاء الفوري لدستور عام 1971م· وتختتم الباحثة الدراسة بالتأكيد على أن تحركات البشري ونتائج الاستفتاء الدستوري تفترض أنه لا البشري ولا غالبية المصريين على استعداد لإنكار مكانة الشريعة بوصفها سلطة في النظام الجديد· وتضيف: يتبقى بعد أن نرى كيف سيتم إعادة التفاوض بشأن هذه السلطة عندما تتحول الثورة إلى نظام جديد للحكم· وهاهم الإسلاميون في مصر قاب قوسين أو أدنى من المشاركة الفعلية في الحكم فياليتهم يحاولون تقديم النموذج الإسلامي للحكم حتى ينتشر العدل ويعم الرخاء وتعود لأمتنا الإسلامية ريادة العالم كما كانت من قبل··