* - كنت اختتمت حديثي الأسبوع الماضي بالقول، في إشارة لمداخلة قدمتها في تونس، بأن أزمة الفكر السياسي في العالم العربي ناتجة أساسا عن هذا الشرخ بين ما هو قومي وما هو ديني، لكنني أشير أيضا إلى سبب آخر ناتج عن برامج التعليم. فالفكر السياسي الفرنسي مثلا يتميز بانسجامه وتميزه أيا كان المكان الذي ينتمي له المواطن المعني، والسبب واضح جدا، حيث أن برامج التعليم الفرنسي واحدة بالنسبة لأي مدرسة فرنسية سواء كانت في فرنسا أو بلجيكا أو الكيبيك أو بوركينا فاصو، فالمراجع الفكرية واحدة، والكتاب التعليمي واحد، والمنهج الدراسي واحد، وهكذا تكون النتيجة أن الفرانكوفونية تصبح فكرا له بصماته السياسية التي تجد امتدادها حتى في الموسيقى والفنون المسرحية، حيث يتم التركيز على "بيزيه" و"موليير" بعد أن ربط الفكر بروسو ومونتيسكيو والأدب بهوغو وبلزاك ودو موباسان، وسنجد هنا أن الثقافة يمكن أن تمتد أكثر لتفرض نفسها في بلدان أخرى على شكل اختراق اقتصادي أو وجود عسكري. وما عرفته الثقافة الفرنسية، واستطاع أن يحول بعض المتحدثين باللغة الفرنسية من غير الفرنسيين، وممن لا يمتلكون قاعدة قومية صلبة، إلى أتباع للفكر الفرنسي، وتحول الفرانكوفون (Francophone) إلى فرانكو فيل (Francophile)، هو تماما نقيض ما عرفه الوطن العربي من تمزق فكري، حيث أصبحنا نسمع اعتزازا مضحكا بالجزأرة والسعودة والتونسة واللبننة والتمصير، وكلها كانت مساهمات في تدعيم الفكر الإقليمي بما يقترب به أحيانا، وبفضل الإغراق في العامية، من التفكير الشوفيني. وأتصور أن سبب المأساة الحقيقية للفكر العربي استهانته بأهمية وحدة الفكر، وهي أساس كل عمل استراتيجي، فقد رفضها معتبرا إياها نوعا من وحدة التفكير، وهذه تناقض مع الطبيعة البشرية ومع حرية التعبير، وهنا تبدو ضحالة التناول الذي راح يحاول تشويه مرحلة الحزب الواحد في الجزائر، وهو طريق لم يكن هناك بديلا عنه، بإدانة شعار وحدة الفكر والعمل التي رفعت آنذاك، وأثبتت أنه كانت أضمن واق لمجتمع انطلق في بناء مشروعه الوطني بالقليل القليل من الإمكانيات المادية والكفاءات البشرية. ولقد عشنا في السنوات الأخيرة أفراحا كبيرة إثر سقوط الكتلة الاشتراكية، الذي أعطى للعديد من التيارات الإسلامية والمتأسلمَة والمُأسلِمة فرصة التشفي في كل ما يحمل حروف كلمة الاشتراكية، وارتبط هذا بالعثرات التي أصابت المد القومي العربي، فكانت الفرصة لمن أسموا أنفسهم "الليبراليين الجدد"، لكي يهيلوا التراب على كل ما ينتسب للفكر القومي، وكانت الرصة لتحميل تنظيم الحزب الواحد، الذي ارتبط غالبا بما كان يسمى الاتجاهات التقدمية، كل الآثام والموبقات، ولم يتوقف أولئك لحظات لتأمل التقدم الكبير الذي حققته الصين وهي ما زالت تلتزم بنظام الحزب الواحد وتسير على النهج الشيوعي. وهكذا التقى في صف واحد عملاء الاستعمار الجديد وبعض قيادات التيار الإسلامي وكل التجمعات الفكرية التي أصبحت تسمى "مفكري المارينز". وكان المؤسف هنا أن بعض قيادات التيارات الإسلامية لم تتعظ من قصة الثيران الثلاثة، ولم تدرك أنها ستأكل إذا أكل الثور الأبيض، وهو ما يجعلني أقول هنا أيضا أن هناك مسؤولية كبرى على عاتق قيادات التيارات القومية في الوطن العربي كله، حيث حاول بعضها دائما تهميش التيارات الإسلامية أو تقزيمها أو محاصرة تأثيرها، بدلا من اجتذابها والتكامل معها. ولعلي أدعي بأن الميثاق الوطني الذي اعتمد في استفتاء عام في 1976 كان الوثيقة الفكرية الأولى في الوطن العربي التي تناقش جماهيريا على أوسع نطاق، وتحددُ معالم الاتجاه السياسي للبلاد في السنوات العشر التالية، وهكذا أصبح للبلاد وثيقتها الإيديولوجية المتكاملة، أي القاعدة الرئيسية للفكر السياسي الذي يسير حركة المجتمع الجزائري نحو تحقيق أهدافه. ومن هنا ناديت بالأمس القريب وأنادي اليوم بضرورة العودة إلى تجربة المناقشة الجماهيرية التي عرفها الميثاق في كل تناول لقضية التعديل الدستوري المقترح أو المطلوب أو المأمول. ويجب أن يُدرك الكثيرون أن الشرعية الثورية هي الأساس التاريخي لأي بناء يُقام في بلد انتزع حريته واستقلاله بثورة عارمة، وتلك الشرعية الثورية تصبح جزءا من التاريخ ولا يُمكن، بأي حال من الأحوال، أن تتناقض مع ما يُمكن أن يسمى شرعية شعبية، لأنها هي رحم الشرعية الشعبية، وهي الأب العضوي للشرعية الدستورية التي تتكامل معها تاريخيا لتكون الاستمرار المنطقي لفكر سياسي ناضج يتمسك بالثوابت ويتكيف مع المتغيرات. وهنا فقط يُمكن الحديث الجاد عن إستراتيجية الأمن القومي التي سبق أن أشرت لها، والتاي تحتاج وقفة أطول وتوقفا أكثر عمقا. * - تناولت صحفنا مؤخرا قضية التعامل بمكيالين التي أصبحت تميز صحيفة "القدس العربي" الصادرة في لندن، وهو أمر يؤكد فشلنا الذريع في الإعلام الخارجي، ويعيد إلى الذاكرة قضية قناة الجزيرة، التي تعاملنا معها بمزيج من السذاجة والحماقة، ويشكل خلفية ساخرة لتحمس الجزائر في دعم وثيقة "الإذعان الإعلامي" التي سربها وزير الإعلام المصري للجامعة العربية، وتحفظت عليها عدة دول عربية. ولقد عرفت الستينات والسبعينيات تعدد المنابر الإعلامية العربية طبقا للتقسيم العقائدي والسياسي الذي كان قائما آنذاك، وأدى ذلك إلى قيام توازن بين اليمين واليسار وبين ما هو إسلامي وما هو قومي، ولكن التوازن اختل بقيام الحرب الأهلية في لبنان وتأثر بتداعيات "كامب دافيد" ثم انهار نهائيا بعد الغزو العراقي للكويت، وفقد اليسار العربي مواطئ قدمه على الساحة الإعلامية بغياب العراق، ولكن بعض صحف اليمين آنذاك حافظت على نوع من التوازن الفكري، سمح بحوار فكري كان إيجابيا في معظمه. لكن غزو العراق في 2003 قلب المعادلة تماما، وهكذا ضاع التوازن وعرفت الساحة الإعلامية العربية سيطرة ما سُمي بالليبيراليين الجدد، الذين قاموا بمهمة الانتقام من الاتجاهات الوطنية والقومية لمصلحة التيارات المعادية والتي كان من بينها تيارات إسلامية قصيرة النظر متشنجة المذهبية. وهنا برزت صحيفة "القدس العربي"، التي أعطتها تدخلات عبد الباري عطوان التليفيزيونية والمتجاوبة مع مشاعر الشارع العربي وجود فاعلا على الساحة الإعلامية العربية، ولكن التعامل قصير النظر لبعض القيادات الوطنية والضغوط التي تشكلها تيارات ودول لها مصالحها جعلت الصحيفة تتحول مؤخرا إلى "محيبسة" للفضلات الفكرية، وبدا أن الفكر الذي يُمثله عطوان أصبح أقلية داخل الصحيفة، ومن هنا لاحظ كثيرون أنها أصبحت أسيرة وجهات نظر سياسية معينة تتناقض مع الخط السياسي المفترض لها. وكان مما أساء إلى مصداقية الصحيفة أقلام جزائرية لاحظ كثيرون أنها لم تتوقف إلا أمام كل ما هو سيئ في الجزائر، وهو كثير جدا، ولكنه لا يمكن أن يُخفي جوانب إيجابية كثيرة تشكل الإشارة العابرة لها دليل موضوعية الكتاب، خصوصا أولئك الذين لم تعرفهم الساحة الوطنية أقلاما مرموقة. ويبقى أن المسؤول الأول هو غياب الإستراتيجية الإعلامية الجزائرية وفقدان النظرة البعيدة للتعامل مع الآخرين واقتصار التحليلات على جوانب الولاء الأمني. ومن هنا يجب ألا نلوم غيرنا والعيب الأول فينا. * - الاتحاد المتوسطي نبع أساسا من فكرة روجها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال حملته الانتخابية فيما يشبه تقليعة أراد أن يكسب بها رجال الأعمال الفرنسيين الساعين إلى غزو أسواق الجنوب، وأن يقدم دليل عرفان للوبي الصهيوني الذي دعم ترشيحه للرئاسيات الفرنسية. ولم يكن خلفاء شيلوك ليُقدموا شيئا ما مجانا، وهكذا بدا واضحا أن من خلفيات المشروع الساركوزي إدخال إسرائيل إلى حلقة العلاقات بين شمال المتوسط وجنوبه، بعد أن فشلت المخططات السابقة، خمسة زائد خمسة وغيرها، في فرض الوجود الإسرائيلي على أذهان أبناء المغرب العربي. وبفضل السيدة الحديدية الألمانية، والتي لها أسبقياتها التي لا تتفق بالضرورة مع أسبقيات الرئيس الفرنسي، تم تغيير العنوان فتحول إلى "الاتحاد من أجل المتوسط"، وربما كانت الفكرة استلهاما لفكرة جزائرية قديمة تَعتبر البحر الأبيض المتوسط قارة سياسية، فيها دول تطل على شواطئه وأخرى ترتبط بحضارته بدون أن تمس مياهه. وعرف المشروع الساركوزي تعثرا كبيرا، برغم محاولة ضم مصر إلى الشمال الإفريقي، الذي توجد فيه قاريا، ولكنها، وبحكم تاريخ قديم وجغرافيا عنيدة، كانت دائما أكثر ارتباطا بالشرق والجنوب.. ويحاول ساركوزي رشوة دول يعيش بعضها أوضاعا داخلية قلقة فتقبل بنصف رئاسة لها بريقها، تمكن النظام من مواجهة ما تعيشه البلاد من مشاكل، أو تريد مجالا للاستفادة المالية وللاستفادة السياحية السياسية، أو يستثمر اعتزازها بمرجعيتها الدينية لتحييد كثيرين هناك لا يخفون شكوكهم في أي مشروع يأتي من "العكري". وأكتفي اليوم بالقول أن أي قيادة سياسية لا تلجأ، في القضايا المُماثلة، إلى استشارة شعبية عامة يتلوها استفتاء جماهيري محدد هي قيادة تفقد حقها في ثقة جماهير منطقة المغرب العربي، حتى ولو تمكنت، مرحليا، من تحييد جماهيرها بفضل إعلام محلي موجه يداعب الأوتار الشوفينية. * - عرفت السفير الأمريكي السابق روبرت فورد، وأشهد له بالديناميكية والتفتح، وآمل أن نشهد في المستقبل سفراء أمريكيين من نفس عينة فورد، الذي أعتز بأنه كان من بين السفراء الذين حضروا تقديم كتابي الأخير، أنا وهو وهم، في المكتبة الوطنية، ولم يتمسك بالجلوس في الصف الأول. وليس من عادتي أن أحيي سفراء أجانب ولكنني أفعل ذلك اليوم لأنني أحب بلدي وأحب من يُحب بلدي، وتلك من الملامح التي أحسست بها من تعاملي مع السفير الأمريكي الذي غادرنا الأربعاء الماضي متوجها إلى العراق، والذي كان يتمسك باستعمال اللغة العربية وأحيانا مع جزائريين كانوا يُصرون على الحديث بلغة أنريكو ماسياس (وليس فولتير).