كنت قد تطرقت في القسم الأول من هذا المقال إلى صعود حركة النهضة وتصدرها للمشهد السياسي بعد فوزها في انتخابات المجلس التأسيسي، وأشرت إلى محنة اليساريين والديمقراطيين أمام هذا الاستحقاق. ويذكر أن أحزاب اليسار المتنوعة والمتقاربة في جذورها الماركسية، كانت قد انتقدت توظيف الدين في السياسة، باعتباره «مشترك وطني»، وسواء جرى التوظيف أو لم يجر فإنه لا يوجد من يمتنع عن استثمار فرصة يجود بها زمان مفعم برياح الثورة، ومشحون برغبة الإصغاء لكل الوعود. لا شك أن الدين هو للجميع ولا يحق -نظريا- لأحد أن يدّعي احتكاره، لكن الإسلام كان وعلى مر العصور، رهناً بمن يتولى شرحه وتقديمه للعامة من الناس، ومن يتولى قيادتهم من ساسة المسلمين، وفي حقبة انتشار الحركات والأحزاب الإسلامية، التي تتنوع مصادر قوتها وإسنادها، أصبح صوتها مسموعاً أكثر لأسباب متعددة، أهمها التنظيم وبذل الخدمات عبر مؤسسات خيرية، وربما حسن قراءة أخطاء الأحزاب الأيديولوجية المناوئة لهم، لذلك لم تكن هناك فائدة ترجى من تنبه اليساريين إلى أهمية الدين وضرورة تحييده، خاصة وأنهم تاريخياً لم يبدو اهتماماً به كأحد المكونات الأساسية للشخصية العربية، وتعاملوا معه كتراث يمكن تجاوزه، وهذا وإن كان يتفق مع بنائهم النظري والأمل المرتجى في تحرير الإنسان من التعصب، إلاّ أنه لا يتوافق مع واقع مجتمعهم، بل حتى مع الكثير من أوساطهم العائلية، فكم من الشيوعيين ممن ينحدرون من عائلات دينية أو متديّنة. والتفاتة اليسار إلى حساسية توظيف الدين، يقابلها إدراك النهضويين لأهمية نهج الحداثة ورسوخها في مؤسسات الدولة، فهم لم يعلنوا بأن أولوياتهم هي في تطبيق الشريعة، بل قالوا إن غايتهم هي دولة الحريات، تحدثوا عن دولة مدنية، وليس دينية، بل زادوا على ذلك حرصهم على قيم الحداثة. وبما إن الصورة توحي بمقطع عريض من البراغماتية، فلماذا لا يتنادى الماركسيون أيضاً لتبني جانب من التراث، ألا وهو مواقف اليسار الإسلامي ومآثره الإنسانية، التي تبلورت في عهد الخليفة الراشدي الثالث، بسبب التحولات في مجرى السياسة، والحيد عن قاعدة المساواة. ثمة منابع ثرية للفكر والممارسة، لا تتعارض مع مراد الباحثين عن الإنصاف بين الطبقات ودحر الإستغلال والمستغلّين، تلك المواقف شكلت تيّارا مناهضا لنزعات الإلتفاف على مبادئ الإسلام الأول في دعوته لنصرة الفقراء، وإعلائه لقيمة العمل الصالح، والنهي عن اكتناز المال وحث قادة المسلمين على ابتغاء الزهد. وقد تزعم هذا التيار، أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعلي بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر وأبي الدرداء وعبد الله بن مسعود ومحمد بن الحذيفة ومالك الأشتر، وغيرهم كثير (أحمد عباس صالح - اليمين واليسار في الإسلام ص 81). واستلهام المنابت المضيئة من التراث ليس دعوة للأسلمة وإنما هي ضرورة للمحافظة على «المشترك الوطني» الذي يحرص عليه اليسار، من أن يتحول إلى تركة خاصة لجهة وحيدة. إن الموقف من الدين كان نقطة الإنطلاق لخصوم اليسار العربي في الهجوم عليه وتجاهل نضالاته ومحاصرة تطلعاته، ولهذا الغرض فقد استغلوا التديّن الشعبي وغير المؤدلج، في إبعاد بسطاء الناس وفقرائهم عن صفوف اليسار، وبالمقابل تنمية مريديهم سواء كأحزاب إسلامية أو قومية. وفي هذا الجانب أصبح اليساريون ضحايا حرفية مبادئهم من الوجهة الفلسفية، وكنت أتساءل دائما ماذا لو استبقت الأحزاب الشيوعية العربية نوايا خصومها وأعلنت بأن مقولة ماركس العابرة «الدين أفيون الشعوب»، لا تعنيها في شيء، أو أنها لا تقبلها، لأن دورها النضالي لا يقوم على تعليم الجماهير الفلسفة وإنما الدفاع عن المضطهدين والمستغلين، وإدارة الصراع الطبقي باتجاه إزالة الفوارق بين الطبقات أو تقليلها، أو لأنها تدرك بأن الضمير العام يشتمل على الإيمان ولا يحتمل تعقيدات البحث في خفايا الوجود. ويكتسب هذا السؤال مشروعيته في ما آلت إليه تجربة البلدان الاشتراكية، وخاصة في بولندا، فالدين لم يكن أفيوناً لشعبها، وإنما محركاً لجموع كبيرة، تلك التي استقبلت البابا، وقلبت كل الموازين. وفي حالة تونس، لعب التخوف من الإسلاميين دورا كبيراً في تقارب اليساريين مع نظام بن علي بعد انقلابه في العام 1987م، واعتبارهم إيّاه ضامناً لتواصل مسيرة الحداثة، وكان هذا سببا مهما في تراجع شعبيتهم، لأنهم لم يتوقفوا أمام جرائمه في حقهم وحق المعارضين بشكل عام، ودوره في إدارة الآلة الأمنية في عهد شيخوخة بورقيبة، خاصة بعد انتفاضة الخبز في العام 1984م، وقاد هذا الاتجاه الخاطئ إلى انقسامات في صفوفهم، فلم يكن من السهل توحيد الآراء وتبرير الموقف من النظام. وهم في ذلك يكررون تجربة الشيوعيين العراقيين عندما تحالفوا مع حزب البعث في العام 1973م، في إطار ما سمي بالجبهة الوطنية، ففقدوا الكثير من رصيدهم الشعبي، واستغرقوا في تبريرات وتخبط في عملية إدارة تحالف غير متكافئ مع نظام مدجج بالغدر. صحيح إن حركة النهضة هي الأخرى رحبت بنظام بن علي ووقعت على ميثاق العمل الوطني الذي دعى إليه كقاعدة للعمل السياسي، وقبل ذلك كان بورقيبة قد تغاضى عن نشاط الإسلاميين في بعض الفترات، لمواجهة قوة اليسار في النقابات المهنية والطلابية، لما كان من توجهه الإشتراكي من نتائج في زيادة إمكانات القطاع العام وحجم القوى العاملة. هذه بالطبع شيمة الحكام في ترجيح مصالحهم وتحييد خصومهم، لكن الفرق بين هدنة الإسلاميين مع بن علي وتقارب اليسار معه هو حرص الأخير على مكاسب الحداثة، أي اشتراكه معه في توجه فكري اجتماعي، بينما لم يكن الإسلاميون ليهتموا سوى بفترة يلتقطون فيها أنفاسهم، استعدادا لإعادة تنظيم صفوفهم، ولم يطل بن علي الانتظار، فهو قارئ جيد لطموحات معارضيه، فبعد أن وطد سلطته، رفض السماح للنهضة بالعمل العلني ووجه لها ضربة قاسية في بداية التسعينيات، وفي الوقت نفسه كان يجري ترتيباته لتفتيت اليسار وزعزعة قاعدته النقابية بالإنقضاض على القطاع العام في سياق خطته للإستثمار وتشجيع رأس المال الوطني والأجنبي. وعلى مر السنوات كانت انقسامات اليسار مبعث طمأنينة للنظام بقدر ما تعني من ضعف المبادرة والتواري عن المشهد السياسي، وقد بذل الكثير لتعميقها بوسائل الإضطهاد المختلفة، والإغراء أيضا.إن انقسام أي حزب قد يعبر أحيانا عن ظاهرة صحية، تشير إلى نزعة للتحرر من قيادة طال عليها الزمن، أو رغبة في تجديد الفكر، وهي غير التشظي الذي يفضي إلى كيانات تفتقد إلى الفاعلية والحزم في القرار، كما ان الظروف الحرجة في حياة أي تكتل سياسي، كما هو الحال في ثورة تونس ومساراتها اللاحقة، كان ينبغي أن توحد اليسار، وتؤجل الجدل الفكري والخوض في مقولات لا تعني مطالب الشعب في شيء، ولا يستفيد من إسقاطاتها في تطوير وعيه، وهي في الآخر ملك للنخبة التي تفندها. أنا أفهم أن يتناقض اليسار مع الإسلام السياسي، نظراً لدرجة الإختلافات في المرجعية النظرية، وأحسب إن هذا التناقض كبيرا، لكني أعتقد بأن الخلافات بين الماركسيين أنفسهم، أو في إطار التنظيمات اليسارية على كثرتها، لا ينبغي أن تنحدر إلى نقطة التباعد، فهي في الآخر تناقضات ثانوية. ولعلّ في قول الشاعر العباسي ابن المعتز، حكمة يحتاجها كل من يتصدى لمهمات سياسية في مراحل مفصلية، فقد كان اهتمامه بتحولات الشعر، لكن ما أرمي إليه يصّح أيضا على تحولات السياسة في أيامنا، هو أستبق نقّاده فقال: إذا آنست في خطي فتوراً وخطي والبلاغة والبيان فلا ترتب بفهمي إن رقصي على مقدار إيقاع الزمان، وإيقاع الزمان عندنا يؤشر إلى تقدم الجانب العملي على كل النظريات مهما تسامت عدالتها، فبقدر ما تتطور البشرية في تعليمها وتوافرها على كم هائل من المعلومات، بقدر ما تصبح وتيرة الحياة أسرع، والناس أميل إلى الطرح المبسط للسياسة، والبعد عن ثقافة التحليل، والتركيز على عجالة المطالب لا على مبدئية من يلبونها. وليس هناك ارتياب بالمنزلة الفكرية لليسار وثقافة عناصره، لكن الخوف هو في أن لا تستوعب فصائله المختلفة إيقاع اللحظة الصادم فتتأخر الخطى أكثر فأكثر. اليوم تزداد حاجة فصائل اليسار إلى التنسيق في مواجهة الإستحقاقات الانتخابية، وتوجهات حزب النهضة إلى عقد تحالفات تمكنها من تشكيل الحكومة، وسيكون الأكثر ضرراً باليساريين، أن يتوزعوا ما بين موافق على الدخول في ائتلاف، ومعارض له، وعندها تضيع عليهم فرصة أخرى، فلا هم مؤثرين في الحكم، ولا في المعارضة، وبالتالي لن تتوفر لديهم إمكانات ذات شأن في التواصل مع الرأي العام. ولو قدّر لقوى اليسار أن تختار المعارضة، وتنشّط دورها في النقابات، فإنها يمكن أن تصبح قوة في المستقبل، خاصة وأن حزب النهضة لن يستطع تلبية حاجات المجتمع، إذا ما اتبّع سياسة تهميش القطاع العام التي اعتمدها النظام السابق، وبذلك فإنه من المتوقع أن يستعيد هذا القطاع مكانته فتزدهر النقابات. إن التحدي كبير أمام اليساريين، فهم بتوجهاتهم الإشتراكية يلتقون مع حزب النهضة في شعاراتها المتعلقة بالعدالة الإجتماعية، لكن النهضة أكثر حداثة في آلياتها وأساليبها في الإقناع، ويبذل قادتها جهداً للإبتعاد عن القوالب الأيديولوجية، ويخوضون مناظرات مع إسلاميين متشددين، يجتهدون خلالها لإثبات صحة سياستهم الحالية في تبني نهج الحداثة، فإلى أي حد يستطيع اليسار التونسي تحديث فكره ووسائله في الوصول إلى قطاعات أوسع من الشعب؟