الحلقة الرابعة معوقات المرجعية الدينية عاقه عن الشيء يعوقه عوقا صرفه وحبسه ومنه التعويق والاعتياق، وذلك إذا أراد أمرا فصرفه عنه صارف، تقول عاقني عن الوجه الذي أردت عائق وعاقتني العوائق الواحدة عائقة، قال ويجوز عاقني وعقاني بمعنى واحد والتعويق تربيث الناس عن الخير وعوَّقه وتعوَّقه واعتاقه، كله صرفه وحبسه، والتعويق التثبيط وفي التنزيل ''قد يعلم الله المعوقين منكم'' والمعوقون قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد ضد الكفار، ومعوقات المرجعية الدينية هي كل الأسباب التي تمنع هذه المرجعية من أن تكون أمرا واقعا وممارسة حياتية بوجهها الصحيح لا المزيف . العائق الأول: هشاشة جسور الثقة بين المفتي والمستفتي ينبغي على الجهة التي تتصدر للفتوى أن تثبت وجودها-كما ذُكر سابقا- بتقوية وتمتين جسور الثقة بينها وبين من تفتيهم من الناس والواقع أنه توجد عدة عوامل تساهم في هشهشة وإضعاف جسور الثقة بين المرجعية الدينية ومن يرجع إليها من الأشخاص والهيئات ومن أهمها: 1/ ضعف شخصية المفتي سواء كان شخصا بعينه أو هيئة تتصدر للفتوى وهذا الضعف يمكن أن يحصل لعدة أسباب أهمها: أ- ضعف التحصيل العلمي الذي يظهر في الحجج الباهتة والضعيفة للمرجعية الدينية قال ابن حزم: ''كان عندنا مفت إذا سئل عن مسألة لا يفتي فيها حتى يتقدمه من يكتب فيكتب هو: جوابي فيها مثل جواب الشيخ فقُدِّر أن مفتيين اختلفا في جواب فكتب تحت جوابهما: جوابي مثل جواب الشيخين فقيل له إنهما قد تناقضا، فقال: وأنا أتناقض كما تناقضا''وقال ابن القيم: ''كان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى وهو مقدم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى فيكتب: يجوز كذا أو يصح كذا أو يُعتقد كذا بشرطه, فأرسل إليه يقول: تأتينا فتاوي منك فيها: يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه، نحن لا نعلم شرطه، فإما أن تبين شرطه وإما أن لا تكتب ذلك''. ب- طمع المفتي في المكاسب والمناصب أو خوفه من اللوم والمصائب من خلال إصداره فتاوى على الطلب، جاء في كتاب الفتوى في الإسلام: ''وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه، ووجوه الميل كثيرة لا تخفى، ومنها أن يكتب في جوابه ما له ويترك ما هو عليه''. ج- عدم مراعاته للمآلات في إصداره للفتاوي والأحكام، وكم من فتاوي صحيحة لم تراع فيها قاعدة العمل بالمآلات جرّت الكثير من المفاسد على الناس، وربما دفعت بهم إلى العزوف عن الاستفتاء وعدم مراعاة أحكام الشريعة فيما يأتون من أفعال وتصرفات، وهذا لا يعني تمييع الشريعة وإنزالها على أهواء الناس لأن الله عز وجل قال: ''ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض''، وإنما الأمر لا يعدو أن يكون تأسيا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم في مراعاته للمآلات في عدة مواقف أهمها عدم قتله للمنافقين مع علمه بهم، وعدم إعادته بناء الكعبة على قواعد إبراهيم والقوم حديثو عهد بالإسلام، وعدم قطعه البول على الأعرابي في المسجد، ''فلولا مراعاة المآلات والنتائج لوجب قتل المنافقين، وإعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم، ومنع الأعرابي من إتمام عمله المنكر الشنيع. ولكن الأول كان سيفضي إلى نفور الناس من الإسلام، خشية أن يقتلوا بتهمة النفاق، والثاني يؤدي إلى اعتقاد العرب أن النبي يهدم المقدسات، ويغير معالمها، والثالث ليس فيه إلا أن ينجس البائل جسمه وثوبه، وربما نجس مواضع أخرى من المسجد، وربما أدى إلى ضرر صحي عليه''. 2/ المغالاة أو التساهل الشديد في الفتوى: قال الشاطبي: ''المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال''، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا عن الإطالة في الصلاة بالناس بعد ورود الشكوى إليه وقال له: ''أفتان أنت يا معاذ'' متفق عليه من حديث جابر مرفوعا وقال أيضا: ''إن منكم منفرين'' متفق عليه من حديث أبي مسعود الأنصاري. 3/ عدم الالتزام من قبل الدعاة والمفتين أنفسِهم، بكثير مما يدعون إليه: وهذا ما يسميه أستاذنا الدكتور عمار جيدل ''تحييد الدعوة الإسلامية'' وهو بالتالي تحييد للفتوى. وقد عد الإمام الشاطبي عليه رحمة الله هذا العائق منفرا للناس من إتباع الرسل لو تميزوا به حاشاهم عن ذلك- ففي القرآن عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها} الأعراف 89 وقوله: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} هود88 قال الإمام الشاطبي: ''وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة، بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها، فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ويأتونه عياذا بالله من ذلك- لكان ذلك أولى منفر، واقرب صاد عن الإتباع. فمن كان في رتبة الوراثة لهم فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول''. ثم إن هذا العائق قد يرد عليه إشكال وهو أن العلماء قد قالوا إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل، وكل ما كان هذا حاله فهو غير معتبر، وبالتالي فإن هذا العائق في المرجعية الدينية والدعوة والإفتاء غير معتبر، لأنه لا يوجد من لا يزل أو يضل أو يخالف قولُه فعلَه، خاصة في زماننا هذا؟ ومثل هذا الإشكال قد أورده الإمام الشاطبي وأجاب عنه بقوله: ''تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي. فنحن نقول واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق، طابق قوله فعله أم لا،لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل، ولا يطرد إن حصل''. العائق الثاني: النفاق أو العزوف عن أحكام الشرع من قبل الناس خوفا من عدالتها أو زهدا فيها، ذلك أنه لو فكر كل الناس بتفكير ذلك المنافق لبقيت المرجعية الدينية مع وجودها- مهمشة لا أثر لها في حياة الناس. والحقيقة أن فئاما من الناس في وقتنا الحاضر لا يهتمون بأحكام الشرع فيما يأتونه من أعمال أو يذرون، وهذه حالة مرضية لها أسبابها الموضوعية. العائق الثالث: قلة أو استتار العلماء والفقهاء المؤهلين لمنصب المرجعية الدينية، وهذه الظاهرة ليست جديدة على المجتمع المسلم حيث كان الكثير من السلف الصالح، يتهربون من منصب الإفتاء، تورعا وخوفا من تبعاته الدنيوية والأخروية، وقد ذكرت سابقا قول أبي حنيفة: لولا الفرَق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت يكون لهم المهنأ وعلي الوزر. العائق الرابع: عدم توفر الإرادة لدى الحكام في وجود مرجعية دينية مستقلة يُرجع إليها فيما يستشكل من مسائل وما يطرأ من نوازل، يقول جمال الدين القاسمي: ''ولئن كان لضعف العلم في القرون الأخيرة مدخل في هذا التباين, إلا أن اليد العاملة فيه اختلاف سياسة الدول في الأخذ بالعلوم النافعة وإنهاض رجالها ونشر التعليم المفيد والتهذيب وتوسيد الأمور إلى حكمائها وأبطالها'' الخاتمة: إن الموازنة الموضوعية بين جانبي الممهدات والمعوقات المصاحبة للمرجعية الدينية في الجزائر كمشروع حضاري يدفعنا كطلبة علم أو أساتذة أو دعاة أو عاملين للإسلام بصفة عامة- إلى التفكير جديا في جعل هذا المشروع الحضاري الهام واقعا حياتيا بالتزام الممهدات وتجسيدها وترك المعوقات وإبعادها من واقع حياتنا كل حسب جهده وموقعه. والله عز وجل الموفق إلى كل خير وهو الهادي إلى سواء السبيل وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله والسائرين على هديه إلى يوم الدين. أصل هذا الموضوع مداخلة تقدمت بها بين يدي الملتقى الخامس حول ''المرجعية الدينية في الجزائر'' الذي أقيم بجامعة جيجل يومي 8/9 مارس 2010 والذي قامت بتنظيمه جمعية النجاح الثقافية والرابطة الوطنية للطلبة الجزائريين بالتنسيق مع مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية جيجل تحت رعاية السيد رئيس الجامعة, الفتوى في الإسلام ص152 الفتوى في الإسلام ص93 نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي أحمد الريسوني ص382 الموافقات 4/881 كتاب تحييد الدعوة الإسلامية التحدي والرهان وهو كتاب جيد في بابه الموافقات 4/581-186 المرجع السابق 4/781 لأن العزوف عن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية من صفات المنافقين كما مر في بداية المداخلة الفتوى في الإسلام ص15-16 بالنسبة للجزائر فإن هذا العائق غير مطروح بسبب مشروع مفتي الجمهورية وهيئة الفتوى الذي أعلن عنه الرئيس في عدة مناسبات الفتوى في الإسلام ص62