"صراع المعرّبين والمفرنسين من رواسب الاستعمار" هي أوّل أديبة تكتب باللّغة العربية في الجزائر وأوّل وزيرة بعد الاستقلال وأوّل امرأة تتولّى رئاسة تحرير مجلّة نسائية·· إنها المجاهدة صاحبة وسام المقاوم ووسام الاستحقاق الوطني والأديبة صاحبة (لونجة والغول) والرّصيف النّائم وعلى الشاطئ الآخر وغير ذلك من الأعمال الأدبية التي أبدعت فيها الأستاذة زهور ونيسي· نزلنا ضيوفا عليها في بيتها فاستقبلتنا بكلّ كرم، ولاحظنا من خلال دردشة قصيرة سبقت الحوار تركيز محدّثتنا على مرجعية (أخبار اليوم) التي تأكّدت في النّهاية أنها مرجعية وطنية صادقة ضحّت من أجلها سابقا وما تزال تناضل من أجل ترسيخها، كان لنا معها حديث مطوّل تطرّقت فيه الأديبة والسياسية زهور ونيسي إلى مواضيع مختلفة وأبدت رأيها في العديد من القضايا الوطنية والعربية. وقد ارتأينا في حوارنا هذا أن نبتعد عن البدايات الكلاسيكية التي تعرفها الحوارات عادة وفضّلنا الدخول في صلب الحديث دون مقدّمات، وهو الأمر الذي استغربته محدّثتنا لكننا برّرنا ذلك بأن شخصية الحوار مشهورة وغنية عن كلّ تعريف، وإليكم أولى حلقات هذا الحوار الشيّق· - نقل عن الأستاذة زهور ونيسي أنها قالت: (زعماء الأحزاب غير مثقّفين رغم شهاداتهم)، هل مازالت على رأيها ونحن على أبواب تشريعيات جديدة يعتبرها الكثيرون محطّة للتغيير؟ -- ربما جاء هذا الكلام في سياق حديث أو حوار قمت به، لكن ليس بهذا التأويل ولا بهذا الشكل. أنا من المتخرّجين من قسم الفلسفة وعلم الاجتماع وهذا القسم يفترض فيه أن يحترم الموضوعية والمنهجية التي تقتضي ألا نعمّم الكلام فنقول إن هؤلاء مثقّفون وهؤلاء غير مثقّفين لذلك ربما جاءت في سياق آخر أو بمعنى وتأويل آخر لأنه ليس كلّ زعماء الأحزاب غير مثقّفين رغم شهاداتهم وليس كلّهم مثقّفون أيضا. فالأحزاب كثيرة وعلى رأسها أشخاص فيهم المثقّف وفيهم صاحب الثقافة السياسية فقط وفيهم صاحب الثقافة الاجتماعية وصاحب الثقافة الأدبية وصاحب الثقافة الإسلامية، لذلك لا يمكن أن نعمّم هذا الكلام وربما يكون قد أوّل في غير محلّه وأنا دائما على هذا الرّأي الذي قلته لك الآن ولازلت على رأيي أن كلّ حزب لديه خاصّيته وله توجّهه وله تيّاره السياسي والفكري والإيديولوجي وحتى الثقافي، لذلك فحتى البرلمان الذي سينشأ يجب أن يكون خليطا من هؤلاء جميعا· - من هذا المنطلق كيف تقيّمين الأحزاب السياسية التي أعلنت ترشّحها للاستحقاقات القادمة؟ -- هناك من يستحقّ أن يترشّح وأن ينتخب حتى يضيف فكرا جديدا ومساحة جديدة في الفكر السياسي والفكر التشريعي في البرلمان وحتى يجد حلولا للمعضلات والمشاكل المطروحة على مستوى المجتمع، لا سيّما فيما يخص الشباب وفيهم من لا يستحقّ ذلك، وعلينا نحن كمنتخبين وكأصحاب أصوات لها قيمتها الكبيرة في هذه المرحلة أن نحسن الاختيار، وأنا أذكر جيّدا أنني عندما رشّحت من طرف جبهة التحرير الوطني في قائمتها للبرلمان سنة 1977 كان الصوت الجزائري له قيمته ولا يشترى لا بالمال ولا بالذهب وكان للمترشّح قيمته أيضا لأنه يلتزم بالوفاء والصدق مع هذه الأصوات فيعمل جاهدا من أجل النّجاح في مهمّته· - وماذا تغيّر اليوم؟ -- ربما لا أقول العكس تماما، لكن أقول نظرا للمتغيّرات الكثيرة المطروحة على الجزائر وعلى العالم بشكل عام ونظرا لتغيّر الأجيال وتغيّر الذهنيات والقناعات وانتشار ما يسمّى بالفكر العولمي أو الفكر التعدّدي في الجزائر وفي غير الجزائر أيضا يجب أن ننتظر كلّ شيء وألا ندهش من أيّ شيء· - قلت إن هناك من يستحقّ أن يترشّح وأن ينتخب وهناك من لا يستحقّ، ما هي المعايير التي تستند إليها الأستاذة زهور ونيسي في تصنيفها هذا؟ -- هناك مبادئ معيّنة تخدم الشعب الجزائري وتخدم الملايين التي ستنتخب لابد من الالتزام بها ومن بين هذه المبادئ الوطنية والإخلاص لهذا الشعب والعمل في خدمته والتنزّه عن الانتهازية وعن (المحسوبية) والعشائرية وعلى الفكر الضيّق وعن الذاتية وهذه شروط معروفة تعتبر قانونا أخلاقيا، لذلك أنا أقول دائما إن الأزمات في العالم اليوم ليست أزمات سياسية أو اقتصادية وإنما هي أزمات أخلاقية· - ما رأيك في ما يثار اليوم حول المستوى الدراسي لبعض المترشّحين؟ -- بطبيعة الحال يجب ألا نتهاون في هذا الشرط فالثقافة واكتساب الشهادات والمعارف تتيح للنّائب أن يكون في مستوى دراسة نص، وأن يكون في مستوى نقاش مشروع قانون، وأن يكون في مستوى مبادرة من أجل تقديم مشروع قانون.. هذا لا نقاش فيه، لكن إضافة إلى ذلك لابد أن نشترط ما يسمّى بالنّزاهة وأخلاقيات العمل والإخلاص لهذا الوطن ولهذا الشعب وخدمة هذا الوطن وشعب هذا الوطن· - باعتبارك وزيرة سابقة للتربية والتعليم ما هو تقييمك للمنظومة التربوية خلال الخمسين سنة الماضية؟ -- أنا لا أستطيع أن أقيّم المنظومة التربوية لأن منظومة التربية والتعليم من أهمّ المنظومات في الجزائر، فهي التي تصنع المواطن وهي التي تضمن لنا المستقبل القادم لذلك فالمنظومة لها مبادئ وثوابت معيّنة يجب ألا تحيد عنها، لكن بمقابل ذلك هناك ضرورة لتغيير المناهج وتحديث البيداغوجيات ومواكبة العمل التربوي في العالم، وأنا كوزيرة سابقة وكمعلّمة وكأستاذة لا أنكر أن هناك تحديثات وهناك اجتهادات وبحث وهناك لجان بيداغوجية ولجان للكتاب، لكن هذا لا يكفي· نحن كمجتمع وكمواطنين وكأسرة تربوية خلال خمسين سنة الماضية أسّسنا جيلا كاملا استطاع أن يؤسّس للجزائر الجديدة -لا تنسي ذلك-، نحن لم نعتمد على الآخرين ليؤسّسوا لنا مختلف المرافق والمؤسسات الموجودة، سواء الإعلامية أو الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، أبناء الجزائر هم من أسّسوا للجزائر الجديدة ويجب أن نطرح سؤالا هنا: هل هذا كاف أم لا؟ أنا أقول إنه غير كاف لأنه لابد من الاجتهاد أكثر نظرا للمتغيّرات التي طرأت على العالم وانتشار ما يسمّى بالعولمة، هذا يفرض علينا الاجتهاد أكثر من أجل الحفاظ على هويتنا التربوية ومواكبة أحسن ما تطرحه هذه العولمة وإلاّ سنذوب ونتبخّر في سلبياتها قبل إيجابياتها. والاجتهاد اليوم يعدّ تحدّ للكثير من السلبيات التي جاءت بها العولمة التي لم تأتي لخير البشرية لكن لخير مجموعة من الدول التي تريد أن تستحوذ على العالم وعلى الشعوب فتبقي العالم تحت سيطرتها وتبقى مقدراته في مصلحتها، لذلك لابد من التفكير في تغييرات جذرية داخل المنظومة التربوية خصوصا المنظومة التربوية الجامعية حتى لا نفقد عددا أكبر من العقول الجزائرية التي تتسرّب كلّ عام من بين أيدينا لصالح الآخرين· - ما رأيك في مَن يقول إن المنظومة التربوية اليوم (منكوبة)؟ -- أنا لا أحبّ استعمال الكلمات الضخمة كالمنكوبة والكارثة والنّكبة، كلّ شيء عنده إيجابياته وله سلبياته ولو نقيّم جيّدا نجد أن هناك من يجب مجازاته على اجتهاده وأن هناك من يجب معاقبته على تقصيره، أمّا عن هذا التعميم الصارخ الذي يجعل المنظومة التربوية كلّها منكوبة فأنا لا أسمح لنفسي بأن أقول ذلك، فالمنظومة التربوية توفّر كلّ سنة ما يقارب مليون مقعد دراسي جديد للأطفال في المدارس إضافة إلى بناء المؤسسات والورشات اليومية التي تنشط بصفة دائمة على المستوى الابتدائي والتكميلي والثانوي، والإنسان الجزائري من حبّه للتعليم لأنه حرم منه أيّام الاستعمار لا يجزع إلاّ من عدم وجود مقعد دراسي لطفله البالغ ستّ سنوات، لذلك يجب ألا نطلق أحكاما عامّة في موضوع ما· - ربما أطلقت هذه الأحكام للدلالة على البرامج الدراسية المطروحة التي لاقت انتقادات كثيرة مؤخّرا... -- ربما تعلّقت بالبرامج أو المواد أو البيداغوجيات أو التوقيت أو حتى تكوين الأستاذ وتقصير المعاهد التي تخرّج الأساتذة، والتي صرنا نلاحظ قلّتها حتى أصبح كلّ من هبّ ودبّ يدخل قطاع التربية فقط لأنه متخرّج من الجامعة· - إذن أنت ترين أن هناك نقائص في المنظومة التربوية اليوم... -- بطبيعة الحال هناك نقائص، مثلا لو نأخذ أستاذا متخرّج من مدرسة المعلّمين أو معهد الأساتذة وأستاذا آخر دخل التعليم فقط لأنه في بطالة ولأنه صاحب شهادة ولأننا نحن أيضا بحاجة إلى أساتذة فإذا لم نكوّن هذا الأستاذ الذي لم يتخرّج من معهد الأساتذة فلا يمكن أن يقوم بدوره كما ينبغي· - الحياة الثقافية في الجزائر دائما مختزلة بين المعرّبين والمفرنسين، ما رأيك في هذا الطرح؟ -- استعمال كلمة مختزلة يعني مختصرة بين المعرّبين والمفرنسين في الوقت الذي نجد فيه مثقّفين لا يحسنون الفرنسية ويحسنون الإنجليزية مثلا، والجزائر بعد خمسين سنة من الاستقلال لا نجد فيها المفرنس والمعرّب فحسب، بل هناك المتخصّص في اللّغة الإنجليزية والإسبانية وغير ذلك من اللّغات· - لكن رغم ذلك بقي الصراع قائما بين المثقّف المعرّب والمثقّف المفرنس وبقينا نتعامل بالطرح نفسه··. -- هذا من رواسب الاستعمار، وربما المثقّف المفرنس أقسّمه إلى قسمين: هناك المفرنس الذي يستعمل اللّغة لكن محتوى كتاباته وأفكاره وطنية مثل مالك حدّاد ومحمد ديب وغيرهما من الكتاب، وهناك من يكتب للمثقّف الفرنسي والكثيرون من المثقّفين الذين يكتبون باللّغة الفرنسية يكتبون من أجل إرضاء الفكر الثقافي الفرنسي· - أمثال... -- لا أستطيع أن أقول أسماء، ولا أريد أن أذكر أمثالا من هؤلاء، النّاس يعرفونهم جيّدا ويقرأون لهم، وعندما تقرئين محتوى من المحتويات وعندما يقيّم أحدهم من طرف الفكر الثقافي الفرنسي ويجازى ويكرّم تعرفين ذلك وتدركينه· - في رأيك هل احتلّت اللّغة العربية مكانتها اللاّئقة في المنظومة التربوية في الجزائر المستقلّة؟ -- أعتقد ذلك لأن الطفل الجزائري يبدأ بتعلّم اللّغة العربية أوّلا لثلاث أو أربع سنوات حتى يحسنها، وأتذكّر من بين الشواهد على ذلك أن القذافي (أقول رحمه اللّه لأن الرّحمة تجوز على الميّت مهما كان) كان بينه وبين بومدين -رحمه اللّه- نوع من الخلاف فكان القذافي يعايرنا أننا لا نحسن اللّغة العربية فأجابه بومدين في إحدى المؤتمرات التي حضرتها بأن ثلاثة أو أربعة ملايين طفل في الابتدائي يحسنون اللّغة العربية الفصحى وهم بعدد الشعب اللّيبي كلّه. فإذا قارنّا بين الجزائر وأيّ دولة عربية أخرى نجد أن الجزائر ربما نجحت في التعليم أكثر من غيرها من الدول العربية، أنت ترين الآن الفضائيات العربية التي يشاهدها النّاس جميعا لا يحسنون تكوين جملة ولا يفرّقون بين المرفوع والمنصوب في الوقت الذي نرى فيه أن حتى أولئك الذين حرموا من تعلّم اللّغة العربية في الجزائر يعتذرون في بداية حديثهم لأنهم لا يحسنون العربية· - لكننا نلاحظ أن الجانب التقني في التعليم العالي ما يزال مفرنسا رغم تبنّي الجزائر لقانون تعميم اللّغة العربية، ما رأيك في ذلك؟ -- صحيح لأن الظروف تختلف، مرّت الجزائر بسنوات سوداء تأخّرنا فيها عشر سنوات أو أكثر، توقّفت فيها التنمية وقتل فيها الإنسان وشرّد الكثيرون وهرب العديد من الإطارات إلى خارج الوطن خوفا من الإرهاب، ظروف صعبة مرّت على الجزائر، لكن رغم ذلك أعتقد أن النّجاح الذي حقّقته الصّين واليابان في إنشائهما لتكنولوجيا بلغتهما لم تحقّقه أيّ دولة أخرى، ونتمنّى هنا فقط لو تتبنّى الجزائر اللّغات الحيّة مثل الإنجليزية، الرّوسية، اليابانية والإسبانية، أمّا أن نبقى دائما مرتبطين باللّغة الفرنسية فهذا راسب من رواسب الاستعمار وعقدة من عقد الاستعمار التي لم نبرأ منها بعد· - على ذكر قانون تعميم اللّغة العربية أين وصل هذا القانون اليوم بالنّسبة لمجال تطبيقه؟ -- لست أدري الآن، أنا لمّا كنت وزيرة في الحماية الاجتماعية شكّلت لجنة لتعريب الضمان الاجتماعي مع فقيد الجزائر الأخ مولود قاسم نايت بلقاسم الذي كان رئيس لجنة التعريب آنذاك، وكان لنا الفضل في جعل الضمان الاجتماعي يتعامل بالعربية والفرنسية، أمّا قبل ذلك فلم يكن يوجد أيّ لفظ باللّغة العربية داخل الضمان الاجتماعي لكن ما بعد ذلك لست أدري· أجرت الحوار: آسية مجوري ====================== تطالعون في الجزء الثاني غدا: "أنا ضد منح كوطة سياسية للنّساء" "قانون الأسرة لا يخالف الشريعة الإسلامية" "والدي الشيخ حمّاني شارك في تحضير قانون الأسرة الجديد" "لم نكن نتصوّر أن جهادنا سيصبح فخرا يوما"