''المثقف المعرب هو أزهري حتى ولو كان لائكيا وتقدميا، فهو في النهاية يكتب بلغة غير لغة الناس البسطاء''. هكذا حرفيا، كما ورد في إحدى إجابات الأستاذ عبد الناصر جابي في الحوار الذي أجراه معه الصديقان احميدة عياشي والخير شوار في ملحق ''الأثر'' الصادر في ''الجزائر نيوز'' يوم 18 جانفي . 2011 فبماذا كان يمكن، إذاً، أن يصف مثقف ''معرب'' مثقفا ''مفرنسا'' في سياق مقلوب؟ كنت شخصيا أعتقد وما زلت كذلك أن المثقفين الجزائريين، من أكاديميين وباحثين وكتاب، المنتجين للمعرفة والقيم الفنية والجمالية، تجاوزوا حدود التقسيم الشِّقِّي، والشَّقي أيضا، الذي فرضته ظروف الجزائر التاريخية (اللغوية والثقافية) واستثمره السياسي لاحقا؛ للحيلولة دون التحام النخبتين ''المعربة'' و''المفرنسة'' الجديدتين لتشكيل ثقل يواجه انحرافات سياسات النظام الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إضافة إلى تلك الظروف، فإنه يكاد لا يخفى على أحد ما اضطلعت به القوى الفرانكفونية القديمة المتحكمة في أجهزة الدولة، والمرتبطة بامتيازاتها، تجاه النخبة المعربة ومن مزدوجي اللغة أنفسهم. فقد أغلقت دونهم أبواب دوائر القرار والتسيير. ورمتهم إلى جهاز الحزب الواحد ومنظماته ومؤسساته ''المنتخبة''. أو همشتهم نهائيا. كرد فعل على ذلك، كانت محاولة ''حركة التعريب الشامل والفوري'' للقيام ب ''انقلاب'' على تلك القوى لمزاحمتها مرحليا، ثم لزحزحتها والحلول محلها لاحقا؛ مما أسفر عن ''حرب صامتة'' ترتبت عنها نتائج كارثية. لعل الجزء الأكبر من مسؤوليتها تتحمّله تلك القوى التي رفضت، ولا تزال، حتى فكرة ''الازدواجية اللغوية''، التي تتوقع أنها ستخسر فيها تلك الامتيازات وتفقد إمكانات إعادة إنتاج نفسها بالصيغة النموذجية السارية. أقدّر أن كل ما كُتب عن تلك ''الحرب الصامتة'' لم يلامس الحقيقة؛ لأنه ظل مرتبطا بالوفاء لهذه القوى أو بطرح تلك الحركة، حفاظا على مصالح فئوية وشخصية أو سعيا إلى تحقيقها. لا بد أن التاريخ سيكشف قريبا عن القوى الفعلية التي ما فتئت تعطل مشروع بناء مدرسة جزائرية بالدرجة التأهيلية التي وصلتها بلدان مغاربية وعربية بازدواجية اللغة أو بالعربية وحدها. ومهما يكن، فبرغم الْكِنَايَة التي وصف بها الأستاذ جابي ''المثقف المعرب''، في قوله أعلاه، فإني أعرف أنه يعلم أن ''الأزهريين''، بفعل بلاغتهم وخَطَابتهم وجميل أساليبهم كانوا ولا يزالون أشد صلة ب ''الناس البسطاء'' وأكثر تأثيرا فيهم. بل وهم أقْدر من الكتّاب الآخرين على إيصال كتاباتهم إلى عدد هائل من القراء ''البسطاء''. إن مقروئيتهم، في الجزائر، كما في العالم العربي، لا بد تفوق جميع المقروئيات الأخرى مجتمعة. أما النقل عنهم فشيء مذهل أيضا! لكنّ من بين أولئك ''الأزهريين''، كما يعلم الأستاذ جابي، مثقَّفِينَ كباراً من أمثال: عبد الرحمن الجبرتي (17561825) ورفاعة الطهطاوي (18011873) ومحمد عبده (18491905) وعلي عبد الرازق (18881966) وطه حسين (18891973) ومحمد أحمد خلف الله (صاحب كتاب الفن القصصي في القرآن) وغيرهم، أثروا تأثيرا إيجابيا في مسار المثقف الجزائري ''المعرب''؛ ليس فقط بمعرفتهم وجرأتهم وبتَقدُّميتهم وبعلمانيتهم ومعارضتهم لهيمنة المحافظين على مؤسسة الأزهر، ولكن أيضا بلغتهم الجديدة الخارجة عن بلاغة أولئك المحافظين وأساليبهم. ولا بد أن الأستاذ جابي يقدّر ما صار يحيل عليه مفهوم ''لائكي'' في القاموس الجزائري السياسي والديني منذ العقد الأخير من القرن الماضي. وأيّ فئة اجتماعية يحددها بالضبط ذلك المفهوم في أذهان ''البسطاء''؛ مثله مثل مفهوم ''تقدمي'' في سبعينيات القرن الماضي، مع الفارق في أن النظام آنذاك كان يوظف المفهوم للاستدراج. فلم يكن سياق الحوار، في اعتقادي، يمنع أن يُستبدل المفهومان ''لائكيا وتقدميا'' ب ''علمانيا وحداثيا''؛ مع ميلي إلى الشك في انطباق دلالة ''حداثيا'' على واقعنا الفكري. فأنْ يتحدثَ المثقف الجزائري ''المعرب'' إلى ''الناس البسطاء'' بلغتهم وهو أمر ليس سهلا نظرا إلى تعدد لهجات الجزائر وتهجينها، فأمر يمكن قبوله في معرِض النقد. على أن العدْل يفرض حينها أن يتحمل ''المثقف المفرنس'' نصف العبء الآخر تجاه أولئك ''الناس البسطاء'' أنفسهم. (إني أمقت هذا التقسيم الموصوف باعتبار اللغة!). ولكن أن يكون هذا المثقف يكتب مع التشديد على لفظة يكتب ''بلغة غير لغة الناس البسطاء''، وكأن الكتابة بالعربية ملزَمة في بنائها ومضمونها بأن تكون ''عامية''، فحكْمٌ يثير الدهشة! وهو ما دفع بي إلى هذا الرد الوديّ. إني أظن أن الأستاذ جابي لا يدعو إلى أن تتحوّل لغة ''المثقف المعرب'' إلى الوظيفة الديداكتيكية والتفسيرية لما تنتجه اللغة الفرنسية في الجزائر. وهو يدرك أن اللغة العربية التي يكتب بها المثقفون الجزائريون المعاصرون، من الروائيين والشعراء والقصاصين والباحثين في الدراسات الأدبية والنقدية والاجتماعية والفلسفية، يتم تحصيلها من مجموع التراث العربي في أعقد مدوناته وأشدها تَجريداً. ومن مكتسبات اللغة الفرنسية. كما من اللغة الإنجليزية. أعرف أن خيرة طلبة الأستاذ جابي في البحث هم من يتقنون هذه اللغة العربية الجديدة ويذهبون بها عميقا في التحديد والتجريد. أرجو أن لا أخطئ التقدير إذْ أحسَب أن الأستاذ عبد الناصر، وهو يطلق ذلك الحكم، إنما كان في ذهنه مجموعة وجوه، وليس فئة كاملة تخضع للتعميم. مثلُ ذلك، فإن الصديق مصطفى ماضي، في مقاله ضمن الملحق نفسه، كان ذكر حرفيا: ''للمثقف المعرب مهامه وللمثقف المفرنس مهامه. الأول متشبع بثقافة مخابراتية (حزبية جبهوية) والثاني مكلف بتمرير الاختيارات الاقتصادية ومحاولة عقلنة الخطاب السياسي''؛ وأنا أدرك تماما أنه، وهو يقول ذلك، إنما كان يشير ضمنيا إلى أشخاص معينين كانوا، في مرحلة تاريخية قريبة منا، يقومون بمثل تلك المهام وسط المثقفين. فإن الأستاذ مصطفى ماضي مثقف ''معرب''. بل لعله أحد أوائل المعربين في اختصاص علم الاجتماع الذي كان، إلى سبعينيات القرن الماضي، حكرا على المفرنسين! إذاً، لا يا أستاذ عبد الناصر! فالمثقف ''المعرب'' في الجزائر كما أعرف أنك تعلم هو منتوج ثقافة أمته، بما لها وما عليها. وهو حامل لأنوارها خاصةً وأنوار الثقافة الإنسانية. ومن ثَمةَ، فهو يسهم في بنائها ونشرها بهذه اللغة التي عبَرت الأزهر وتجاوزت ''الأزهريين''؛ لأنها لم تُكتب يوما بلغة ''الناس البسطاء''. ولك مني المودة.