فاز كتاب (الفكه في الإسلام)، الذي صدر حديثًا في بيروت بلبنان للكاتبة التونسية ليلى العبيدي بجائزة زايد للكتاب، فرع المؤلف الشاب، هذا العام، ومما جاء في حيثيات الفوز يمثل الكتاب دراسة تحليلية جادة للفكاهة في الإسلام وفي الموروث العربي الإسلامي·· روت الأخبار أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان من أفكه الناس مع الصبية والأهل والأصحاب، ولقد اختارت المؤلفة الحديث النبوي الشريف متنًا لتثبت أن للفكه في الإسلام مكانة عالية إلى جانب الجد· وأنّ الدين لم يكن زهدًا وتزمّتًا وطقوسًا وعبادةً متواصلة، بل كان أيضًا فُسحة للترويح عن النفس وطرفة ونادرة ومزاحًا وضحكًا، وأنّ الفَكَهَ لم يكن ضدًا للمقدس وطعنًا فيه ورفضًا، بل هو يعمل في رحابه ويسير في ركابه· تقول المؤلفة: أردت أن نرتفع به إلى فضاءات أرحب من تلك التي أرادتها الثقافة العالمية، إذ ربطته بكل ما هو مدنس دنيوي وارتفعت بالجد إلى عالم المقدس· الفَكَهُ عالم تؤثثه العبادات والمعاملات، ويميز علاقة الرسول بمختلف طبقات المجتمع· بينت في عملي هذا (استنادًا إلى الحديث النبوي) أن الفَكَه في الدين كان طريقة في الحياة يعالج بها الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر الرعية وييسّر أحوال الناس بعيدًا عن كل تزمت أو تعصّب أو فظاظة· يبرز العمل قيام الفَكَه سندًا للحديث في مجال تبليغ الدين للناس، فكان بذلك محاولة للجمع بين الفَكَه والمقدس في الثقافة العربية الإسلامية التي كثيرًا ما فصل بينهما فيه· كما توضح المؤلفة أيضًا سبب اختيارها لهذا الموضوع للبحث فتقول: اختياري الفَكَه موضوعًا للبحث يمثل محاولة منا للمساهمة في الاهتمام بهذا الجانب الذي لم يحظ في الثقافة العربية الإسلامية بمنزلة رفيعة ومكانة تليق به، إذ وجهت اهتمامها بصفة غالبة إلى مظاهر الحياة الجدية من سياسية وعلوم إسلامية، فهمشت النادرة والمُلحَة والمزاح ومظاهر الهزل والضحك، وإن احتوت كل ذلك في خفايا الكتب وفي مختلف مجالات الحياة· وتؤكد المؤلفة أن الإنسان العربي يتمتع بروح الفكاهة بامتياز· تقول: الناظر في الكتب لا يتحرج من القول إن الثقافة العربية كانت أكثر الثقافات ولعًا بالفَكَه· فالفَكَه حاضر في الشعر والنثر والمقامة، إذ تشكلت روح الدعابة لديه في نوادر الحمقى والمغفلين، وأخبار من سير الأولين، وبدعًا افتراها رجال الدين- طبعًا ليس في الإسلام (رجال دين) بل (علماء دين) - والمتفقهون· وكانت العرب تسمي أبناءها بباسم وبسام للرجل، وببسمة وفكيهة للمرأة· بل كان الفَكَه عند العرب فنًا من فنون القول وتجميل الكلام· فانظر في مؤلفات الجاحظ والتوحيد والتيفاشي والأبشيهي ترى العجب العجاب·· كما اعتمدت المؤلّفة كتب الأحاديث التسعة التي تحظى بالإجماع والوثوق· ونهجت في تناول الأحاديث المختارة في موضوع الفكه منهجًا جديدًا، فركزت الاهتمام على متون الأحاديث، وبُناها التركيبية والفنية والقصصية، معتمدة أسلوب التفكيك والاستنطاق، بحثًا عن المعنى المصرح به أو المسكوت عنه· الإنسان تاريخ من الفكه جاء الكتاب في فصول ستة، جعلت المؤلفة الفصل الأول مدخلًا إلى دراسة الموضوع، فعرضت فيه لأهم مظاهر الفكه في الثقافتين الغربية والعربية الإسلامية، وهي لم تعمد في هذا الفصل إلى كتابة تأريخ للفكه ولا رصد كل ما كتب وقيل عنه، بل سعت إلى تتبع تجلياته، والأسباب الثقافية والدينية، التي كانت وراء اختياره، فنًا من فنون الخطاب مرة، أو رفضه والدعوة إلى القطع معه مرة أخرى· وتبين المؤلفة أن فلاسفة اليونان، أولَوْا موضوع الفكه، شأنًا خاصًا، فرغم الصرامة التي اتصفت بها الفلسفة اليونانية، لم تغض الطرف عن الاهتمام بالضحك، بوصفه الوجه الآخر للتراجيديا· وتؤكد المؤلفة أنه يعد أرسطو أول من وضع الخطوط الواضحة لدراسة آلية الفكه، مشيرة إلى أنه كما دعا إلى الفكه دعا إلى الاحتراس من السقوط في التهريج والابتذال، مسايرة لنظام المعتقدات في المدينة الفاضلة، والذي كان يسمح بالتعرض للآلهة، ووصف الصراعات في ما بينهم أو مع الإنسان· كما تتتبع المؤلفة المواقف المتزمتة التي أرستها الكنيسة تجاه كل ما هو خارج عن الجد والصرامة في بداية عهدها، فنبذت فنون الفرجة على أنواعها، ورمى أحد أقطابها المسرح بالكره والكفر، ولم يعد الاعتبار إليه إلا في النصف الثاني من القرن الرابع، مع إعادة الحياة إلى المسرح، واستعيد الاهتمام به من جديد· وفي تناولها مسألة الضحك في الثقافة العربية، ترى العبيدي أن الفكه احتل مقامًا واسعًا فيها، وقد أفرد له موطئًا في الشعر والنثر والمقامة، حيث يتشكل قصصًا تروى عن البخلاء، ومجموعة من النوادر عن الحمقى والمغفلين، وغير ذلك· الفكه في الأحاديث النبوية الشريفة وعمدت المؤلفة، في الفصل الثاني، إلى سبر أغوار الأحاديث النبوية الشريفة، بحثًا فيها عما يظهر الفكه كحقيقة بينة ومقرة· وقد حاولت رصد مظاهر هذا الفكه والبحث في وظائفه المختلفة التي كانت الغاية منها السعي إلى ربط علاقة ود ويسر بين الله جل جلاله، وعباده، ونشر مبادئ الدين المتسامح، والاقتداء بالأعمال الصالحة، وإقامتها نموذجًا في الأرض، وذلك وصولًا إلى حقيقة انتقال الضحك من ملهم الضحك، وهو الله جل جلاله، إلى المسلمين عامة، عبر الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) والصحابة· ومن ثم تنتقل الكاتبة في الفصل الثالث، إلى رصد المواقف التي أملت على الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يكون واحدًا من بين العامة، ملتفتًا إلى واقع الناس ومتحسسًا مشاكلهم· وتظهر القصص التي ترد في متون الأحاديث المذهب الذي تنكب الرسول (صلى الله عليه وسلم) السير فيه، فكان يبسط الأمور ويسهل على العباد، عبر معالجة الأمور معالجة بسيطة تتخذ الفكاهة وسيلة لإيصال تعاليم الدين· وتشير المؤلفة إلى أنه هكذا بدا بعض ما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة، إفصاحا عن مواقف، تراها مرحة ومجدية· وغلب على الفصل الرابع في الكتاب، طابع الحميمية، والتي طبعت علاقة الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، بأفراد عائلته· وقد شاع عن الرسول الكريم أنه كان من أفكه الناس مع أهله· وتثبت الكاتبة ذلك من خلال المدونات التي استقصتها من الأحاديث، موضحة أنه بدت العلاقة بين محمد (صلى الله عليه وسلم) وزوجاته، علاقةَ ودٍّ ومداعبة بالكلمة اللطيفة والإشارة الخافية والمزاح الذي لا غاية له غير إقامة عالم من البهجة والسرور في بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم)· وقد جمعت في الفصل الخامس الأحاديث النبوية الشريفة التي بدا فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) شخصًا فكِهًا يلاعب الأطفال ويجاري البدو والأعراب في سذاجتهم السمحة، ويمازح العجائز· وتتحول المؤلفة إلى ذكر أمثلة وعدة قصص في هذا الصدد· وفي الفصل السادس، عرضت المؤلفة لما كان يدور بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته من مزاح وتندر بالأخبار· وقد بدا (صلى الله عليه وسلم)، في مواقفه ودودًا ومحبًا لهم، وكان يسمح لهم بالمزاح في ساحة الوغى، ويمكنهم من متعة الزواج عام الفتح، فيشعرون بالرفق واليسر· وتتساءل المؤلفة في خاتمة بحثها عن الأسباب التي أسهمت في تعزيز روح التزمت والعنف والانغلاق في الثقافة العربية الإسلامية، بعد أن كانت فسحة يطل الدين عبرها سمحًا يسيرًا فكِهًا·