إن الابتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى يجلب للأفراد والأمة تعاسة وضنكًا في الدنيا، وهلاكًا وعذابًا في الآخرة، وإن آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدو على الحياة في وجهتها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية· وإن الفتن تظل تتوالى على الناس حتى تمسَّ جميع شؤون حياتهم، قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور: 63· لقد كانت في مُمَارسة ملوك الطوائف للحكم البعيد عن شرع الله آثارٌ على الأمة، فتجد الإنسان المنغمس في حياة المادة والجاهلية مُصابًا بالقلق والحيرة والخوف والجبن، يحسب كلَّ صيحة عليه، يخشى مِن النصارى ولا يستطيع أن يقف أمامهم وقفة عزٍّ وشموخ واستعلاء، وإذا تشجع في معركة من المعارك ضعف قلبه أمام الأعداء من أثر المعاصي على قلبه، وأصبح في ضنك من العيش: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) طه: 124· 2- أمَّا الآثار على الأمة الأندلسية فقد أصيبت بالتبلُّد وفقد الإحساس بالذات ومات ضميرها الروحي، فلا أمر بمعروف تأمر به، ولا نهي عن منكر تنهى عنه، وأصابهم ما أصاب بني إسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر· قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) المائدة: 78، 79· فإن أيَّ أمَّة لا تعظِّم شرع الله أمرًا ونهيًا، فإنها تسقط كما سقط بنو إسرائيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلا والله لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر ولتأخذُنَّ على يد الظالم ولتأطرنَّه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضًا، ثم ليلعننكم كما لعنهم)· 3- إن ملوك الأندلس تحققت فيهم سنة الله الماضية بسبب تغيُّر النفوس من الطاعة والانقياد إلى المخالفة والتمرد على أَحكام الله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الأنفال: 53· كما أن المجتمعات التي تخضع تحت الحُكَّام الذين تباعدوا عن شرع الله تُذَل وتُهان، حتى تقوم أمام مَن خالف أمر الله وتطلب العون من إخوانهم في العقيدة، لإرجاع حكم الله في مجتمعاتهم· إن ملوك الأندلس انعكس انحرافهم على شباب الأندلس كلِّه، وفرَّط أهل الأندلس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانعكس ذلك في حركة الفتوحات الإسلامية التي توقَّفتْ، ولذلك حرمت شعوب كثيرة من سعادتها في الدنيا والآخرة بسبب تضييع الأمانة والرسالة والدعوة إلى هذا الدِّين· لقد قست قلوب ملوك الطوائف وكثيرٌ من أتباعهم -إلا من رحم الله- وتركوا الحق وانقادوا للضلال، وابتلوا بالنفاق وفضحهم الله بذلك، وحرموا التوفيق والرجوع للصواب، وخف دينهم وضعف إيمانهم، بسبب بطرهم للحق وغمطهم لحقوق الناس وابتعادهم عن شرع الله تعالى· 4- لقد كانت ممالك الأندلس مليئة بالاعتداءات على الأنفس والأموال والأعراض، وتعطلت أَحكامُ الله فيما بينهم، ونشبت حروبٌ وفتن وبلايا تولَّدت على إثرها عداوة وبغضاء لم تزل عنها حتى بعد زوالهم· 5- وبسبب الابتعاد عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سهلت مهمة النصارى في الأندلس، فأصبحت شوكتهم تقوى وتحصَّلوا على مكاسب كبيرة، وغاب نصر الله عن ملوك الطوائف وأهل الأندلس، وحرموا من التمكين، وأصبحوا في خوف وفزع من أعدائهم، وبعض المُدُن تُبتلى بالجوع بسبب حصار النصارى لهم، وكم قتلَ النصارى من المُسْلِمِين! وكم سبوا من نسائهم! 6- إن الابتعاد عن شرع الله في الأندلس ترتب عليه انتقاص الأرض، وضياع الملك، وتسلُّط الكفار وتوالى المصائب· 7- إن من سنن الله تعالى المستخرَجة من حقائق الدِّين والتَّاريخ أنه إذا عُصي الله تعالى مِمَن يعرفونه، سَلَّط عليهم مَن لا يعرفونه، ولذلك سلَّط الله النصارى على المسلمين في الأندلس، وعندما تحرك الفقهاء والعلماء وبعض الملوك واستنصروا إخوانهم في الدِّين، والتفوا حول دولة الشريعة نصرهم الله على أعدائهم، ثم خلَّص الله أهل الأندلس من ملوك الطوائف الظالمين وأبدلهم بأمراء عادلين، منقادين لشريعة رب العالمين· 8- إن الذنوب التي يهلك الله بها القرون ويعذب بها الأمم قسمان: أولهما: معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به· وثانيهما: كفر النعم بالبطر والأشر، وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء، والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغنى والثروة··· فهذا كلُّه من الكفر بنعمة الله، واستعمالها في غير ما يرضيه من نفع النَّاس والعدلِ العام· والنَّوع الثَّاني من الذنوب هو الذي مارسه ملوك الأندلس وأمراؤهم، وأتقنوه إتقانًا عجيبًا· * من كتاب (فقه التمكين عند دولة المرابطين)·