لا يستطيع المرء أن يخفي شعوره بالسعادة إزاء الحيرة التي يعاني منها المصريون هذه الأيام، قبل التصويت على انتخابات رئاسة الجمهورية· ذلك أنها المرة الأولى في تاريخ هذا البلد التي يختار فيها المصريون رئيسهم، كما أنها المرة الأولى التي يتنافس فيها أكثر من عشرة أشخاص على الفوز بالمنصب، دون أن يستطيع أي أحد في بر مصر أن يتحدث بيقين عن هوية الرئيس القادم· وهذا اللا يقين المسبق، إحدى مواصفات العملية الديمقراطية ومن القرائن الدالة على نزاهة الانتخابات، حيث أزعم أن البلبلة والحيرة على ذلك الصعيد من المعلوم بالضرورة في العملية الديمقراطية· بوسع أي أحد أن يهز كتفيه قائلا إن ذلك ليس اكتشافا أو اختراعا مصريا، ولكنه أمر شائع في كل الدول الديمقراطية، وهو ما أوافقه عليه تماما، باستدراك بسيط هو أننا لم نكن من بين تلك الدول، وأننا سمعنا بالديمقراطية فقط في خطب الذين جثموا على صدورنا طوال السنوات التي خلت، وظلوا يقنعوننا بأنهم يحكومننا إلى الأبد وحتى آخر نفس باسم الديمقراطية· وباسمها سوف يسلمون السلطة إلى أبنائهم· لأن الأمر كذلك، فأحسب أن الجميع ينبغي أن يعذرونا البعض سوف يحسدوننا إذا تباهينا بأننا لا نعرف على وجه اليقين من سيكون الرئيس القادم، ليس ذلك فحسب وإنما ليس بوسع أي (كبير) في بر مصر أن يحدد ذلك، بمن في ذلك وزير الداخلية ورئيس جهاز الأمن الوطني، اللذان كانا يحتفظان بنتائج أية انتخابات (حُرَّة!) قبل أن تتم بعدة أشهر، ولديهما تفاصيل الانتخابات الرئاسية لعدة سنوات مقبلة· إلى غير ذلك من الأسرار الانتخابية التي انتقل مصدر القوة فيها من الأجهزة الأمنية إلى أيدي الناس، كما انتقل اليقين فيها من مكاتب قادة الأجهزة الأمنية إلى صناديق الانتخاب، التي أصبح الفرز المحايد فيها هو المصدر الوحيد لإعلان الحقيقة· إلى جانب ذلك فإننا ينبغي أن نعترف بأن جهلنا تجاوز تلك الحدود، وشمل أيضا خرائط المجتمع المصري وتضاريسه، إذ في ظل الموت السياسي الذي خيم على البلاد، لم يعد بمقدورنا أن نعرف شيئا عن أوزان القوى السياسية· والوصف الأخير لا يخلو من مبالغة نسبية، لأن ما كان لدينا لم يتجاوز الديكورات أو اللافتات السياسية· ورغم أننا بدأنا نتعرف على جانب من تلك الأوزان في الاستفتاء على التعديلات الدستورية وفي انتخاب أعضاء مجلس الشعب، إلا أن متغيرات (البورصة) الانتخابية غيرت في الآونة الأخيرة من بعض معالم الصورة، فارتفعت فيها بعض الأسهم وانخفضت بشدة أسهم أخرى، أو هكذا بدا لنا على الأقل· لقد توافرت لنا خلال الأسابيع الأخيرة استطلاعات للرأي تفاوتت في نتائجها، إلا أننا في اليومين الأخيرين تلقينا تباعا نتائج فرز أصوات المصريين في الخارج التي وضعت الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح في المقدمة وبعده في الترتيب كل من حمدين صباحي وعمرو موسى والدكتور محمد مرسي والفريق أحمد شفيق·· وهي نتائج محدودة الدلالة، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار أن الرقم المتداول لأعداد المصريين في الخارج يقدرهم بنحو عشرة ملايين شخص، في حين أن الذين اشتركوا في التصويت كانوا في حدود 600 ألف فقط، الأمر الذي يعني أن هذه النتيجة لا تعبر بدقة عن رأي المصريين المغتربين· لقد تضاعفت حيرتنا حين اقترب موعد التصويت هذا الأسبوع وحل أوان (الصمت الانتخابي)، ذلك أن كل مرشح شمر عن ساعديه وكثف من نشاطه قبل إنزال الستار على حملة الدعاية، أملا في تعزيز موقفه وتوسيع نطاق مؤيديه، فامتلأت شوارع مصر بالضجيج الانتخابي، في حين حرص كل المرشحين على الحضور اليومي في الفضاء الإعلامي، المرئي منه والمقروء· في هذا الصدد لفت انتباهي أمران، الأول أن ثمة إنفاقا في الدعاية باذخا ومثيرا للانتباه لحملة كل من السيد عمرو موسى وأحمد شفيق· وهناك علامات استفهام حول آلة الدعاية للأخير، التي بدا واضحا أن أصابع جهاز الإدارة ليست بعيدة عنها، الأمر الذي أثار قلق بعض المرشحين، وقد فهمت أن بعضهم نبه أعضاء المجلس العسكري إلى هذه الملاحظة· الأمر الثاني أنه يلاحظ في حملات الدعاية للمرشحين أنها تستهدف قطاعات معينة من الأنصار، لكنني فوجئت في المؤتمر الكبير الذي دعت إليه حملة الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح في القاهرة مساء يوم الجمعة الماضي (18/5) بتمثيل مختلف القطاعات على نحو عكس قدرا من الالتفاف الشعبي لم أجد له مثيلا في الحملات الأخرى التي تابعتها، الأمر الذي بدا وكأنه تعبير إلى الحنين إلى أيام ميدان التحرير في عِزِّها· ذلك كله يظل من قبيل الانطباعات التي لا تحسمها سوى صناديق الانتخابات، التي وحدها صاحبة القول الفصل في تجاوز التخمين إلى اطلاعنا على الخبر اليقين·