هو الدبلوماسي والبرلماني السابق الدكتور عثمان سعدي، عرف بتمسّكه الشديد باللّغة العربية وإعجابه الكبير بالتجربة الفيتنامية وعدائه الأكبر لكلّ من يريد تهميش اللّغة الوطنية، زارته (أخبار اليوم) في بيته وأجرت معه حديثا عبّر فيه الدكتور سعدي عن رأيه في الساحة السياسية والتجربة الديمقراطية الجزائرية، مشيرا في كلّ مرّة إلى هيمنة اللّغة الفرنسية التي جعلت الجزائر رغم مرور خمسين سنة على الاستقلال تابعة لفرنسا، كما أبدى موقفه من بعض القضايا الأخرى كقضية تجريم الاستعمار والربيع العربي وحزب البعث إلى غير ذلك، فإليكم ما جاء في الحوار· * ما تقييمك للساحة السياسية الجزائرية؟ ** الساحة السياسية في الجزائر تعبّر عن واقع الهوية الجزائرية التي تسيطر عليها اللّغة الفرنسية بعدما همّشت اللّغة العربية، وطالما الهوية مشوّهة فستبقى السياسة مشوّهة أيضا لأن السياسة انعكاس للهوية، ورغم ذلك فنحن ننتظر نتائج الإصلاحات التي تكلّموا عنها لأننا إلى حدّ الآن لم نلحظ أيّ تغيير. لكنني يجب أن أشير إلى شيء أتأسّف عليه كثيرا هو أن النواب الذين فازوا في الانتخابات التشريعية أغلبهم نواب (الشكارة)، لكن دعينا ننتظر كيف سيكون شكل البرلمان ونشاط النواب فنحن لا نريد أن نصدر حكما الآن· * ما تقييمك للتجربة الديمقراطية الجزائرية خلال خمسين سنة؟ ** ما عدا المجال الإعلامي لا يمكننا أن نتكلّم عن ديمقراطية في الجزائر لأن النشاط الإعلامي عرف بعد سنة 1988 نوعا من التحرّر، أمّا في المجالات الأخرى فمن الصّعب الحديث عن وجود ديمقراطية. صحيح أن هناك جهودا تبذل لكنها لا تكفي حتى نقول عن الجزائر إنها دولة ديمقراطية لأن الديمقراطية هي أن نبرز منتخبين من خيرة الشباب المثقّف، وهذا غير موجود للأسف· * ما رأيك في من يقول إننا لم نتحرّر من سياسة الحزب الواحد رغم انتقالنا إلى التعدّدية؟ ** في رأيي عهد الحزب الواحد كان أفضل بكثير دون مبالغة، أنا كنت نائبا في البرلمان آنذاك وأقول لك إن أحسن الإنجازات كانت في عهد الحزب الواحد، مثلا ما حقّقناه لصالح اللّغة العربية بتعريب المدرسة الجزائرية كان في عهد الحزب الواحد الذي كان يشمل جميع التيارات، سواء التيار اليميني أو الاشتراكي أو الإسلامي، وكلّ هذه الأحزاب خرجت فيما بعد من حزب جبهة التحرير الوطني. تصوّري لو استمرّ اقتصاد الجزائر كما كان في عهد هواري بومدين والشاذلي بن جديد لكنّا حقّقنا استقلالا اقتصاديا اليوم، عهد الاشتراكية كان أفضل بدليل أن فرنسا تعود إلى الاشتراكية اليوم بعد سنوات من تبنّيها للرّأسمالية التي أثبتت أنها طاغية· * هل ترى بذلك أن التعدّدية كانت نقمة على الجزائر؟ ** لا، أنا لم أقل هذا لكن لمّا تأتي التعدّدية لتنحرف بالهوية الجزائرية وبالجوهر الثقافي للجزائر فهذا غير مقبول. ففي عهد التعدّدية حاولوا التآمر على المدرسة الجزائرية حينما اقترحوا تدريس اللّغة الفرنسية ابتداء من السنة الثانية ابتدائي بعدما كانت تدرّس ابتداء من السنة الرّابعة، تصوّري أنه في أمريكا مثلا ممنوع أن يدرس الطفل لغة أجنبية قبل 11 سنة من الدراسة، وفي فرنسا لا تدرّس لغة أجنبية قبل 6 سنوات من الدراسة، وهنا في الجزائر أرادوا أن يدرّسوها في السنة الثانية· * ما موقفك من نتائج الانتخابات التشريعية مع ما راج من حديث حول التزوير؟ ** أنا لا أستطيع أن أحكم لأنني لا أدري كيف وقع الفرز، لكن في رأيي أمر جيّد أن يحصل حزب جبهة التحرير الوطني على العدد الأكبر من المقاعد لأنه الحزب الوحيد الواضح في الساحة السياسية، لكنني من جهة أخرى أستغرب مشاركة أكثر من 40 حزبا في الانتخابات التشريعية· * ألا ترى أن هذه صورة من صور الديمقراطية التي تتيح للجميع فرصة المشاركة في تسيير البلاد؟ ** في رأيي الهدف ليس تكريس الديمقراطية وإنما هو منع حصول أيّ حزب على الأغلبية، لكن المهمّ هو أن فوز جبهة التحرير الوطني ب 221 مقعد أمر جيّد لأنه حزب له ماضي وفرنسا منزعجة من فوزه لأنه حارب ضد وجودها في الجزائر في عهد الاستعمار· * جبهة التحرير الوطني حاربت ضد الاستعمار في السابق لكنها اليوم تحتفظ باللّغة الفرنسية وتجعلها أساسية في مختلف المجالات خاصّة الإدارية بينما تهمّش اللّغة الوطنية كما أشرت، أليس هذا تناقضا؟ ** (اللّه غالب)، الحزب لم يحكم يوما، بل كان الحكم يوجّه من اللّوبي الفرونكوفوني الذي يسيطر على الإدارة والاقتصاد والمال... ويسيّر الجزائر من وراء البحار· * ما موقف الدكتور سعدي ممّا يعرف بالربيع العربي؟ ** ما حدث في تونس ومصر شيء عظيم، وفي ليبيا ستنتهي الفوضى إن شاء اللّه لأنه في مثل هذه الأحداث من الطبيعي أن نمرّ بمرحلة ضبابية ثمّ تتحسّن الأوضاع. لكن مهما قيل عن الربيع العربي فهو عنصر جديد، والجماهير تفرض إرادتها وتنحّي الحكّام، من كان يتصوّر أن مبارك يدخل قفص الاتّهام وبن علي يركب طائرته ويهرب؟ وهذا بالطبع شيء إيجابي· * في رأيك هل ثورات الربيع العربي هي مؤامرات خارجية أم هي انتفاضات شعب سئم الاستعباد؟ ** بالتأكيد هي انتفاضة شعب لأن الشعب ملّ من الحكم العميل، خاصّة في مصر مع حسني مبارك، وسئم من حكم زين العابدين بن علي في تونس. فالشعوب كانت مشحونة وتحرّكت من أجل نيل الحرّية وحقّقت إنجازات ستستغرق وقتا حتى تثبّت لتكوّن دولة ديمقراطية تمثّل الجماهير· * أثنيت على التجربة التونسية والمصرية، هل تتمنّى تجربة مماثلة في الجزائر؟ ** الجزائر تختلف، نحن جرّبنا الثورة وعشنا محاولة سنة 1988 حين حصلت هزّة في الجزائر، لهذا أنا أتمنّى أن يأتي المسؤولون وأصحاب القرار بإصلاحات جديدة في شتى المجالات، سواء بالنّسبة للسياسة أو الثقافة وخاصّة اللّغة لأن الهوية هي الأساس· * في رأيك هل نجت الجزائر من رياح الربيع العربي بعد انتخابات العاشر من ماي؟ ** الحمد للّه، لم تتعرّض بلادنا لمثل تلك الأحداث، لكن في رأيي كلّ شيء بيد أصحاب القرار وعليهم أن يحقّقوا إصلاحات جيّدة تمنع حدوث فوضى في المستقبل مثلما وقع في ليبيا مثلا· * كنت سفير الجزائر في العراق ماذا تذكر من تلك الأيّام؟ ** أفضل أيّام قضيتها كدبلوماسي كانت في العراق وأهمّ ما بقي عالقا في ذهني هو موقف العراقيين من الثورة الجزائرية، كان موقفهم رائعا وكنّا نعامل بتدليل من طرف الشعب والسلطة العراقية لأننا نمثّل الثورة الجزائرية· * ماذا تذكر من علاقتك بالرئيس العراقي الرّاحل صدام حسين؟ ** صدام حسين كان رجلا عظيما حقّا لأنه بنى العراق بناء سليما وخلق أمنا مطلقا في العراق، صحيح كان متحكّما بقوّة بسبب التناقضات الطائفية والعرقية لكن الشيء الوحيد الذي حورب من أجله هو أنه قال لأمريكا (لا) ووقف في وجهها فأعدمته. والعراق اليوم مدمّر ومشتّت بنشوب الطائفية، إضافة إلى تسجيل 4 ملايين يتيم ومليون أرملة ومليون ونصف قتيل· * أنت اليوم في الجزائر لكنك متّهم بالبعثية، ما ردّك على هذا الاتّهام؟ ** أنا لم أنضمّ إلى أيّ حزب ما عدا حزب الشعب الجزائري وجبهة التحرير الوطني، لكن اللّوبي الفرونكوفوني يطلق هذه الاتّهامات على كلّ من يدافع عن اللّغة العربية، فالملتحي يقولون إنه أصولي أمّا غير الملتحي فيقولون إنه بعثي· * ما رأيك في حزب البعث؟ ** هو حزب جيّد، لكن مسؤوليه في سوريا والعراق أضاعوا فرصة توحيد البلدين، ولو وحّدت سوريا مع العراق لكانت أوضاع المشرق العربي والوطن العربي اليوم مختلفة تماما· * لكن حزب البعث اليوم متّهم بجرائم في كلّ من سوريا والعراق، ما موقفك من هذا؟ ** في العراق لم يرتكب جرائم وإنما حاول أن يقف في وجه الأمريكان فقط، أمّا عن سوريا فلم يعد هناك حزب بعث في البلد، بل هناك طائفة أو عائلة تحكم، وهناك أيضا مؤامرة على سوريا وأنا ضد إنهاء مهام القيادة السورية بتدخّل أجنبي، لكن في نفس الوقت أنا مع خروج النّاس للمطالبة بالحرّية· * كدبلوماسي سابق ما تقييمك للعلاقات الجزائرية بالدول العربية؟ ** علاقات جيّدة، الجزائر تحتفظ بعلاقات جيّدة مع كافّة الدول العربية· * ماذا عن العلاقات الجزائرية الفرنسية؟ ** نحن تابعون لفرنسا واقتصادنا مرتبط بها، نحن نعاني اليوم من الاستعمار اللّغوي الذي له ارتباط وثيق بالاستعمار السياسي ولا يمكن أن تتحرّر الجزائر إلاّ إذا تخلّصت من هيمنة اللّغة الفرنسية، وأنا لست ضد اللّغة الفرنسية كلغة. لكن في رأيي هناك نوعان من اللّغة الفرنسي لغة فولتير ولغة لاكوست، وللأسف لغة لاكوست هي المستعملة في الجزائر منذ 1962· * ما رأيك في من يطالب بتجريم الاستعمار بقانون رسمي؟ ** نحن اليوم نحتجّ على قانون 25 فيفري 2005 الممجّد للاستعمار ونطالب بتجريمه، كيف لنا أن نطالب بتجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر والدولة الجزائرية تؤكّد دوره الإيجابي؟ * كيف ذلك؟ ** عندما نستعمل اللّغة الفرنسية ونضعها في المرتبة الأولى في مختلف تعاملاتنا فهذا تمجيد للاستعمار الفرنسي وتأكيد لدوره الإيجابي، وعوض المطالبة بتجريم الاستعمار كان الأحرى بنا أن نطالب بتطبيق قانون تعميم استعمال اللّغة العربية الذي صدر في 1991 ولازال مجمّدا وإنهاء هيمنة اللّغة الفرنسية وتثبيت سيادة اللّغة العربية في الجزائر لأن التعويض غير مجد. عشرات الآلاف من ملايير الدولارات لا تعوض جرائم فرنسا التي قتلت 4 ملايين ونصف المليون جزائري، ما هي المبالغ التي ستعوّض هذا؟ أنا لا أطالب فرنسا بالاعتذار أيضا، بل أعمل على تحقيق الاستقلال منها عن طريق اللّغة وهذا أهمّ شيء، وأكبر خطوة قد تضرّ فرنسا هي أن نثبّت اللّغة العربية وهذا أكبر ردّ على المستعمر· * في رأيك هل يدرك الشباب الجزائري اليوم أهمّية اللّغة العربية؟ ** لا بكلّ أسف، ما عدا المتخرّجون من الجامعات الذين وجدوا صعوبة في تكييف أنفسهم مع اللّغة الفرنسية التي تفرضها الإدارة الجزائرية. لكن يجب أن نشير هنا إلى أن المدرسة الجزائرية بذلت جهدا في ترسيخ أهمّية اللّغة العربية، لكن جهدها يبقى ناقصا وهذا ما لاحظناه لأن الشعب الوحيد الذي يتعلّم لغته لينساها لا ليستعملها هو الشعب الجزائري بكلّ أسف· * بما تنصح الشباب اليوم؟ ** أنصحهم بأن يهتمّوا بلغتهم، وأن يعتزّوا بدينهم وهويتهم هذا هو الأساس لأن الاستعمار الفرنسي الجديد يحاول إفراغ الجزائر من اللّغة والهوية والدين حتى يستطيع الاستمرار في السيطرة عليها·