في الحلقة السابقة من الحوار المطول الذي أجريناه مع الأديبة والسياسية والمجاهدة زهور ونيسي كانت قد أبدت أول وزيرة جزائرية بعد الاستقلال رأيها حول بعض القضايا الوطنية كالتمثيل السياسي للمرأة وقانون الأسرة والمساهم الثقافية للجزائريات، إلى غير ذلك من المواضيع، وتواصل صاحبة (لونجة والغول) في الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا الحوار الحديث عن قضايا مختلفة، بالتطرق إلى تجربتها النضالية في ثورة التحرير الوطني إبان الحقبة الاستعمارية وسنوات دراستها الأولى بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين مع التطرق بالتحليل لواقع الحراك العربي والاحتفالات المختلفة التي تنظم بمناسبة ذكرى خمسينية الاستقلال التي حملت بصمة الأديبة زهور ونيسي من خلال بعض المساهمات التي حدثتنا عنها· * كنت من تلميذات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ماذا تذكرين من مسارك الدراسي في مراحله الأولى؟ ** كنت من تلميذات مدرسة التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة والتي كانت أول مدرسة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ثم جاءت بعدها مدارس أخرى من بينها دار الحديث بتلمسان، ونحن كبنات كنا من الأوائل اللائي دخلن إلى التعليم فالأهالي في ذلك الوقت يرفضون تعليم بناتهم فكنت من الأوائل وقبلي أختاي، كنا رفقة الكثير من البنات اللواتي تحدى آباؤهن ذهنية المجتمع ونفذوا أوامر الإمام عبد الحميد بن باديس عندما نادى بتعليم البنت وسن القانون الأساسي للمدرسة الذي حمل بندا يشجع على تعليم البنات والذي يقضي بدفع الذكر لاستحقاقات الدراسة بينما تدرس الأنثى مجانا، وكان من بين أساتذتي الشيخ أحمد حماني الذي علمني في الابتدائي ثم درسني بالجامعة، والشيخ الصادق حماني ابن عمه، والشيخ أحمد الجموعي، ومن بين من شجعني على الكتابة الشيخ أحمد رضا حوحو والشيخ أحمد توفيق المدني في جريدة البصائر قبل اندلاع الثورة· وقد كتبت موضوعا في مجلة دورية هامة للمجلس الأعلى للغة العربية قيّمت فيه عمل المدرسة الحرّة وأخذت مدرسة التربية والتعليم الإسلامية كنموذج، وكان التعليم في المدرسة الحرة يساوي المستوى الابتدائي والتكميلي والثانوي في المدارس التنظيمية لأن التعليم في المدارس الحرة لم يكن يرضخ لزمن كنا ندرس جميع المواد من بينها تعلم الخياطة والطرز والموسيقى والأناشيد وكانت نشاطاتنا الثقافية كثيرة، وأذكر أننا مثلنا مسرحية الكاهنة لأحمد توفيق المدني ومسرحية (حنبعل) أيضا وكنا نقيم حفلات في آخر السنة يدعى إليها الأولياء، وأفتخر بأن معظم تلاميذ وتلميذات مدرسة التربية والتعليم ومعهد بن باديس كانوا ثوارا ومجاهدين ومجاهدات· * ذكر محمد خير الدين في مذكراته أنك كتبت في تخرجك مقالا نشر في جريدة البصائر هل تذكرين هذا المقال؟ ** نعم كتب هذا في يومياته عندما اخترت كأول امرأة وزيرة في الجزائر المستقلة والمقال هو عبارة عن رسالة تهنئة كان أول محاولة لي، وعندما قرأه أعضاء لجنة الامتحانات أعجبوا به ونشر في جريدة البصائر كتشجيع وكنموذج لقلم نسائي جديد، ومن يومها وأنا أكتب في جريدة البصائر وكتبت القصة القصيرة من بينها جناية أب وكتبت بعض المقالات أيضا وكان بعض طلبة معهد ابن باديس يردون علي، وكنت عندما أتهيب الكتابة يكتب لي الأستاذ توفيق المدني الذي كان رئيس تحرير جريدة البصائر آنذاك فقرة لتشجيعي على الكتابة فيقول: (نحن ننتظر الرد المهذب من الآنسة زهور ونيسي)· * خلال 2012 تحتفل الجزائر بمرور خمسين سنة من الاستقلال ماذا يعني الاستقلال للأستاذة زهور ونيسي؟ ** الاستقلال يعني السيادة والكرامة والحرية وأخذ مقدراتك التاريخية والثقافية والمادية واسترجاع الأرض وما في الأرض وما تحت الأرض وما فوقها بيدك كجزائري لك قرارك ولك علم ولك بلد من البلدان التي لا ترزح تحت وطأة الاستعمار، الاستقلال بالنسبة للإنسان هو الحرية وهو المطلب الثاني بعد الخبز والماء، وأنا أعتز بالثورة الجزائرية التي كانت خلاصة انتفاضات كثيرة توجت بثورة 1 نوفمبر، والجزائر دفعت من أجل الاستقلال ملايين الشهداء وأقول الملايين لأن شهداء الجزائر ليسوا فقط أولئك الذين سقطوا في ثورة 1 نوفمبر وإنما هم الذين سقطوا منذ دخول الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر حتى يوم الاستقلال· * لكن ما يلاحظ أنه رغم استقلالنا منذ خمسين سنة إلا أن الجزائر تعاني إلى اليوم نوعا من التبعية إلى المستعمر القديم ما تفسير ذلك؟ ** هذه التبعية مخطط لها قبل أن يخرج الاستعمار من الجزائر، صحيح أن الإنسان يتحرر سياسيا وعسكريا ولكن الذهنية عادة ما تبقى فيها بعض الرواسب من الاستعمار فعندما نقرأ كتاب محمد طال الإبراهيمي (من الثورة التحريرية إلى الثورة الثقافية) نفهم أن الاستعمار رغم مغادرته إلا أنه يترك رواسبه في الذهنيات والعقول وحتى السلوكات أيضا فالجزائريون إلى اليوم يحتفظون بعادة الغذاء على الساعة 12:00 زوالا، ولا بد أن نشير هنا إلى أن الأزمة التي مرت بها الجزائر في سنوات الإرهاب قد عمقت من هذه الرواسب نظرا للفراغ الثقافي الذي عرفته خلال تلك الفترة، ولكن مع ذلك لا يمكن أن ننكر أن هناك من يحن إلى فرنسا لأنه تكوّن وتربى وعبئ ووجه إلى ذلك وهذه ليست خاصية في الجزائر فقط وإنما في كافة أنحاء العالم· * ما رأيك في الاستفزازات التي تتلقاها الجزائر اليوم من السلطات الفرنسية التي لم تكتف بتمجيد الاستعمار، بل سنّت مؤخرا قانونا يجرم إهانة الحركى؟ ** فرنسا تريد أن تفعل مثل الذي قال: (ضربني وبكى سبقني واشتكى) هي تعرف جيدا أن الاستعمار مجرم وأن الإجرام الذي ارتكبه في الجزائر لا نظير له وأن حرب الإبادة التي شنها لا مثيل لها في العالم وكل سنوات الاستعمار في الجزائر كانت سنوات بؤس وحرمان وظلم وقمع واستبداد وقتل وتشريد···، لكنها تحاول أن تستبق الأحداث ولها من الإمكانيات ما يساعدها على استباق الأحداث خاصة بالنسبة للطباعة وبالنسبة لهذا اطلعت على أكثر من 20 كتاب يوميات للأقدام السوداء التي تروي يوميات لطيفة وتحكي أحاسيسهم ومشاعرهم اتجاه المناطق التي ولدوا فيها ومن المفروض أن نكون السباقين لهذا ولكن للأسف إعلامنا قليل ويكاد يكون ناقصا تماما، فوزارة المجاهدين طبعت بمناسبة الذكرى الخمسين للثورة أكثر من 1000 عنوان، لماذا لا نجد ندوة صحفية حول كتاب أصدرته وزارة المجاهدين مثلا؟ لذلك لا بد من العمل من أجل إحياء الذكرى الخمسين للاستقلال· لكن في رأيي فرنسا تستهزئ بنفسها بتمجيدها للاستعمار وتسخر من نفسها لأنه ليس هناك أية دولة استعمارية مجدت الاستعمار، أما فيما يخص الحركى فحتى لو أعطتهم نياشين الأرض فسوف يبقون حركى خونة لبلدانهم لكن يجب أن نشير هنا إلى أن هناك من اختار أن يخون وهناك من لم يختر بل كان يعمل لكسب قوت يومه ولا يدري أنه مع هذا التيار أو ذاك أو أنه ضد تيار بلده الوطني، لذلك فالسياسة تحتاج دائما إلى تدقيق والتاريخ لا يرحم· * ما رأيك في المطالبة بقانون رسمي يجرم الاستعمار الفرنسي؟ ** أنا مع هذا القانون في كل حين في وقتي هذا وبعد وقتي هذا ومع ابني ومع حفيدي وحتى مع حفيد حفيدي··· إلى آخره· * كيف تتصورين الاحتفال بخمسينية الاستقلال؟ ** أتمنى أن تكون الاحتفالات في مستوى خمسين سنة من الاستقلال· * ماذا تقترحين لذلك؟ ** أنا لست في الميدان حتى أقترح، لكن اقتراحي هو أن يعتمد كل موقع من المواقع على نفسه للاحتفال بهذه الذكرى سواء جمعيات أو المجتمع المدني أو المؤسسات التربوية والاجتماعية والثقافية كل واحد يجب أن يحتفل بهذه السنة حسب إمكانياته وحسب ظروفه وموقعه ولا ينتظر الدولة فقط لتنظم الاحتفالات بهذه المناسبة ولا ينتظر المال أيضا للاحتفال بها لأن هناك اليوم من لا يتحرك إلا بالمال أو التمويل· * هل من مساهمات للأستاذة ونيسي في الاحتفال بهذه المناسبة؟ ** ربما سأصدر يومياتي خلال هذه السنة والكلام فيها عن الثورة كثير وعن الاستقلال كثير والكلام فيها عن الاستعمار أكثر، وأيضا هناك سيناريو حول المنفيين إلى كاليدونيا الجديدة الذي سينتج خلال هذه السنة برعاية وزارة المجاهدين وإخراج المخرج القدير سعيد علوي وقد تم الشروع في تصويره، إلى جانب ذلك هناك سيناريو جاهز حول حياة الشيخ عبد الحميد بن باديس لكنه ينتظر التمويل· * ما رأيك فيما يحدث من تحولات في العالم العربي؟ ** من الطبيعي أن تقع مثل هذه الأحداث لكن كنا نتمنى لو قادتها الشعوب من تلقاء نفسها وليس بتحريك من الخارج، كنا نتمنى لو تنتفض الشعوب وحدها دون أي تدخل أجنبي حتى تكون مصداقية هذه التحركات والهزات أكبر لأننا لا نريد أن نستبدل استبدادا باستبداد آخر، وأنا أرى بأن هذا سيناريو العراق بشكل آخر وبطابع آخر وبترتيبات أخرى، لأن ما حدث في العراق كانت نتائجه وبالا على القوات الأمريكية والقوات الغربية المشاركة فحاولوا بذلك أن يحدثوا نفس التغييرات في بعض البلدان العربية ولكن بشكل آخر، فعوض أن تكون الأداة الجيش الأمريكي والجيوش الغربية تكون الأداة شباب الشعوب العربية التي تتحرك فيموت من يموت فيها ويقتل من يقتل ولا خاسر للغرب في ذلك· صحيح نحن ضد الاستبداد سواء جاءنا من دولنا ومن نظمنا ومن رؤسائنا أو جاءنا من الخارج، لكن في نفس الوقت يجب على الشعوب الحية والشعوب الواعية ألا تنتفض بتحريك من الآخرين، هذا عار في النهاية واستبداد جديد واستعمار جديد وفقدان سيادة، ولعل ما يحدث في ليبيا اليوم يؤكد ذلك وما يحدث في اليمن أيضا، فالرئيس اليمني الجديد لم ينصبه الشعب وإنما وضعته أمريكا وحلفاؤها من العرب، وما حدث في العراق أيضا عندما أبيد النظام السني واستبدل بنظام آخر له توجهات أخرى وأفكار وموالاة أخرى· هل استتب الأمن في العراق؟ هل توقف العمل الإرهابي؟ هل توقفت آلة حصاد الموت؟، لم يتوقف شيء، فالدول الكبرى تفكر وتخطط وكل ما هو في مصلحتها تعمله، وقد أدركت أنه ليس من مصلحتها أن تدخل إلى هذه البلدان عن طريق الجيوش كما فعلت في العراق فدخلت عن طريق التوجيه وعن طريق الإعلام والتمويل وتغيير البيادق في الشطرنج· * برأيك هل الجزائر بمنأى عن هذا الحراك أو ما يسمى بالربيع العربي؟ ** إن شاء الله، فقط لسبب بسيط أن ما حدث في الجزائر في سنة 1988 كان من المفروض حسب الغرب أن تبدأ عملية التغيير من الجزائر وليس من تونس والآن مرت أكثر من عشرين سنة لكنهم لم ينجحوا في الجزائر، رغم نجاحهم في تمويل الإرهاب، ففي بداية الإرهاب كنا نسمع كل مرة أن الجيش الجزائري قد ألقى القبض على مجموعة من الفرنسيين الذين يحملون السلاح وقيل إنهم أسلموا، أيضا الذين كانوا في أفغانستان من الجزائريين والعرب بشكل عام رجعوا إلى الجزائر بعد توقف الحرب هناك وكانت الجزائر آنذاك وكأنها البيئة الخصبة التي من المفروض أن تنطلق منها الثورات· وإذا كان الشعب الجزائري اليوم غير واع بهذه النقطة وغير مدرك لخطورة الوضع فهنا نلومه كثيرا، لكن عندي قناعة بأن الشعب الجزائري يتمتع بوعي سياسي أكثر من الشعوب العربية الأخرى ولازال يعتمد الواقعية في القضايا، ولا ننسى دور الأحزاب السياسية التي تلعب دورا كبيرا في تماسك اللحمة الوطنية ونبذ الأنانيات الفردية والاختلاف الإيديولوجي إلى غير ذلك ويبقى السؤال مطروحا هل هذه الشروط متوفرة أم؟ لأن الإنسان بشر وله أطماع نعتبرها غير شرعية وطموحات يمكن اعتبراها شرعية، لكن ما يجب التركيز عليه هو أن يجعل كل الجزائريين أحزابا ومؤسسات ودولة وأفرادا ومواطنين وجمعيات الجزائر فوق كل شيء· * إذا أنت تستبعدين أن تهز رياح الربيع العربي الجزائر رغم تخوف بعض الأطراف من هذا الأمر خصوصا في حال العزوف عن الانتخابات الذي يتوقعه الكثيرون؟ ** أنا شخصيا متفائلة ولا أحب التشاؤم أبدا· أنا متفائلة وإذا كان ذلك فمعناه أن كل تحليلاتنا خاطئة مع العلم أننا نعيش في هذا البلد ونعيش مع وقائعه ومع صحفه· * هل نفهم من هذا أنك تتوقعين مشاركة قوية؟ ** لا بد من المشاركة، القضية ليست قضية من سينجح أو من سيفشل، القضية قضية حق أي حقي في الانتخاب، لا يجب أن أعاقب نفسي لا بد أن أنتخب، يجب أن أسجل قناعتي في شخص ما أو في إيديولوجية أو أفكار معينة، ولو نفترض أني لن أنتخب من أعاقب بهذا التصرف؟ أنا سأعاقب نفسي، أنا أريد أن يصل هذا المجتمع إلى مرحلة تثبت أنه ديمقراطي وبعد ذلك البقاء للأصلح· * في رأيك هل تعتبر انتخابات العاشر من ماي نقطة تحول بالنسبة للجزائر؟ ** إن شاء الله· الجزء الثالث والأخير