* جهود كبيرة.. ومسيرة متعثّرة خمسون سنة تمرّ على استقلال الجزائر الذي ضحّى من أجله الملايين في معركة دامت 132 سنة، اختتمها بثورة التحرير المجيدة التي أنهت الوجود الاستعماري لتبقى ليلة أوّل نوفمبر خالدة في ذاكرة الأمم بعد أن تغنّى بها الشعراء وألّف فيها الكتّاب آلاف العناوين، لتنطلق الجزائر في مسيرة البناء التي كانت صعبة بعد أن عاث الاستعمار الفرنسي فسادا وتدميرا في الأرض، لكن مرور نصف قرن على الاستقلال يستدعي فعلا الوقوف وقفة تأمل وتقييم لمسيرة إعادة البناء، فماذا حقّقت الجزائر بعد خمسين سنة من الاستقلال؟ قد يرى كثيرون أن نصف قرن من الاستقلال لا يكفي للحديث عن إنجازات، لا سيّما وأن الجزائر مرّت بعشر سنوات من الانسداد التامّ في كافّة المجالات نظرا لحالة التدهور الأمني التي عاشتها ودفعت فيها الجزائر مجدّدا من أبنائها ما يقارب 150 ألف شهيد سقطوا ضحّية الصراع على السلطة، لتقف عجلة التنمية تماما وتنعزل الجزائر عن العالم وتتحوّل إلى (فزّاعة) يخاف المرء حتى من ذكرها، واستمرّ هذا الانطواء حوالي عشر سنوات فيما عرف بالعشرية الحمراء، لتستعيد الجزائر عافيتها تدريجيا بانقضاء هذه السنوات. وإذا أردنا الحديث عن خمسين سنة من الاستقلال من وجهة نظر تقييمية فخمسون سنة من دون شكّ ليست بالشيء الكثير في عمر الشعوب، خصوصا وأن الجزائر انطلقت من نقطة الصفر في مسيرة إعادة البناء بعدما حرص الاستعمار الفرنسي على تدمير كلّ ما يمكن استغلاله مستقبلا نكاية في الثوار وتخطيطا لمستقبل يبدو أن معالمه قد بدأت تتّضح. ففرنسا التي ادّعت استعمار الجزائر من أجل تطويرها تركت وراءها نسبة أمّية تجاوزت 92 بالمائة مطلع الاستقلال مع أن الكتابات التاريخية تشير إلى أن نسبة المتعلّمين في الجزائر بدخول الاستعمار قدّرت ب 95 بالمائة، أي أن نسبة الأمّية لم تتجاوز 5 بالمائة آنذاك وهو ما كتبه الرحّالة الألماني (فيلهلم شيمبرا). كما عمد جنود الاحتلال حتى آخر أيّام تواجدهم في الأراضي الجزائرية إلى تدمير الآلات الزراعية ونهب الأموال العامّة، والتاريخ أثبت أن فرنسا لم تترك فلسا في الخزينة الجزائرية غداة رحيلها، هذا إلى جانب سرقة الأرشيف وحرق جزء منه في محاولة لطمس الحقائق ومحو الذاكرة الشعبية، كلّ هذه التحرّكات كانت بمثابة تخطيط مسبق لإحكام السيطرة على الجزائر مستقبلا، وهو ما نجحت فيه فرنسا بشهادة الكثير من المختصّين وأعضاء الأسرة الثورية. فإذا كنّا كجزائريين لا نؤاخذ الإدارة الجزائرية على عدم تقديم إنجازات حقيقية في جزائر الاستقلال فإننا نلومها ونعاتبها أشدّ العتاب لأنها قبلت سيطرة المستعمر السابق، بل وغذّتها بإحكام سيطرة اللّغة الفرنسية التي لم تسلم من امتدادها إلاّ بعض القطاعات، لتعرف مسيرة التعريب هي الأخرى تعثّرا بل وانسدادا في بعض الأحيان. لكن قولنا هذا لا ينفي وجود بعض الإصلاحات والاجتهادات من أجل ترقية الجزائر والصعود بها إلى مصاف الدول المتقدّمة، لكنها تبقى في مجملها تابعة وغير مستقلّة، ولعلّ أكبر الإنجازات التي حقّقتها الجزائر خلال الاستقلال كانت في قطاع التربية والتعليم الذي استطاع خلال خمسين سنة التقليل من نسبة الأمّية تدريجيا لتصل في سنة 2011 إلى 18 بالمائة بعدما تجاوزت مطلع الاستقلال 92 بالمائة. وقد يرجع الاهتمام بهذا القطاع إلى جهود الحركة الوطنية خلال سنوات الاحتلال، والتي اتّخذت من التعليم منهجا كوّنت من خلاله جيلا من الشباب المثقّف الذي ساهم في تحقيق الاستقلال من موقعه، لكن رغم ذلك بقيت المدرسة الجزائرية تعاني دائما نوعا من التذبذب وعدم الاستقرار وربما هذا ما دفع بعبد القادر فضيل الإطار السابق في وزارة التربية إلى تأليف كتاب حمل عنوان (المدرسة في الجزائر) متجنّبا استعمال جملة (المدرسة الجزائرية) التي قد تكون أدقّ من العنوان الذي استعمله، لكنه برّر ذلك بقوله إنه على يقين من عدم وجود مدرسة جزائرية، مشيرا إلى استيراد البرامج التعليمية التي تقدّم في المدارس لتلاميذ الجزائر. هذا إلى جانب بعض المحاولات المتعثّرة في الميدان الاقتصادي والصناعي، والتي لا يمكن اعتبارها إنجازات ضخمة لاستمرار العجز عن تحقيق الاكتفاء الذاتي والاحتفاظ بلقب الدولة الريعية التي تجعل من النّفط والغاز ركيزة لاقتصادها لتبقى في حيّز الاستهلاك دون الإنتاج. أمّا عن مجال الحرّيات والديمقراطية والممارسة السياسية فقد عرفت الجزائر خلال سنوات الاستقلال نقطة تحوّل هامّة شهدت قفزة نوعية من نظام الحزب الواحد إلى التعدّدية الحزبية التي فتحت المجال للاختلاف والتباين وإبداء وجهات النّظر، لكنها أفرزت في الوقت نفسه مشكّلا جديدا لازال يلاحق الجزائر إلى اليوم وهو مشكل الشرعية الغائبة الذي يبرز مع كلّ موعد انتخابي لتتراشق الأحزاب والتشكيلات السياسية متبادلة الاتّهامات بالتزوير والتلاعب بأصوات النّاخبين وإلغاء رأي الشعب، وهو ما يدلّ على غياب ثقافة الديمقراطية التي كان من المفترض أن ترسّخ قبل الحديث عن تبنّي مبدأ الديمقراطية في حد ذاته. ولعلّ كثيرين يرون أن حكمنا كان قاسيا على الجهود الجزائرية خلال نصف قرن من الاستقلال، لكن في الحقيقة هذه هي الفكرة التي عبّر عنها عدد لا بأس به من أعضاء الأسرة الثورية الذين حاورناهم فأبدوا في كثير من الأحيان انزعاجهم للتأخّر الذي عرفته الجزائر لتبقى ضمن دول العالم الثالث وتتخلّف عن موكب البلدان المتقدّمة، فعذرا لشهدائنا ومجاهدينا إن كنّا قد قصّرنا في بناء دولة الاستقلال.