يحتفل الشعب الجزائري في هذا اليوم المبارك بالذكرى السادسة والأربعين لاسترجاع الاستقلال الوطني، وفيها عيد مزدوج يخلد ذكرى الشباب الذي فجر أروع الملاحم الخالدة في تاريخ ثورات التحرير العالمية، ثورة أول نوفمبر المجيدة التي أضاءت دروب الحرية المقدسة أمام شعب أبي صبر طويلا وقاوم ببسالة حملات التدمير والإبادة، وضحى غاليا حتى انتصر على الاحتلال الغاشم المقيت مسترجعا سيادته واستقلاله المبارك في الخامس من جويلية 1962 . وما احتفال الجزائريين اليوم بهذه الذكرى الغالية، إلا تجديدا للعهد الذي قطعته الأمة جمعاء أمام شهداء أوفوا بالعهد مع الله والوطن، وظلوا روحا طاهرة يترحم عليها وتمجد أبديا، وتلقن مآثرها للأجيال، رجال رفضوا الظلم والذل بشجاعة وصانوا الحق والعدل ورفعوا اسم الجزائر عاليا لتبقى قلعة للحرية والسلام. ولما كان في إحياء التاريخ الوطني وتمجيده تثبيت للذاكرة وحياة لها، وعبرة للأجيال المتتابعة لتدرك بأن استرجاع الاستقلال الوطني الذي تنعم به اليوم لم يكن هبة أو تنازلا من محتل بغيض بل كان انتصارا مستحقا بتضحيات باهضة، فإن المغزى من استعادة نشوة الانتصار بالاحتفال بهذه الذكرى الغراء هو دعوة شباب اليوم إلى الاعتزاز والفخر بمآثر تاريخه المجيد واستخلاص الدروس منه للاستلهام بالقيم البطولية الوطنية التي تشبع بها الشعب الجزائري في مقاوماته وكفاحه لحملات الغزو والإبادة التي تعاقبت عليه منذ قرون. ولن يحقق الاحتفال بهذا العيد المزدوج معناه وغرضه إلا بمواصلة الجهود من أجل القضاء على مختلف أسباب ومظاهر التخلف والإسهام في معارك التشييد التي خاضتها البلاد منذ المرحلة الأولى لإعادة تأسيس الدولة المستقلة، والتصدي للمغالطات الباطلة التي تحاول إحياءها وترويجها المدرسة الاستعمارية، وتمادت فيها إلى أن بلغت بحملاتها المغرضة خرافة تمجيد الاستعمار والعنصرية. لقد كان ميراث ثورة التحرير عظيما وسيبقى أمانة مقدسة ينبغي على الأجيال الصاعدة صونها وحمايتها، حتى تتسنى لهم المشاركة الإيجابية في إرساء دعائم المجتمع الأصيل المتقدم الذي ضحى من أجله الآباء والأجداد. وكانت بوادر هذا المجتمع الحضاري بزغت مع شروق شمس الحرية في جويلية 1962، وشملت بناء دولة وطنية قادرة على تجسيد الإرادة الشعبية الحرة وتحقيق أهداف الاستقلال وأبعاده. فخاضت الجزائر المستقلة معركتها الطويلة على الجبهتين الداخلية والخارجية من خلال بناء دولة قوية قادرة على تأمين ثرواتها ومصالحها الحيوية وبلوغ ما تصبو إليه من استقرار وتقدم وتنمية وطنية شاملة، واعتلاء مكانة محترمة بين الأمم بدورها الفاعل والإيجابي في الدفاع عن قضايا وحقوق الدول والشعوب المشروعة في تقرير مصيرها. وبفضل عزيمة مستمرة تغلبت الجزائر على الأزمات التي تراكمت عليها ودحرت قوى الشر والظلامية، وهزمت إيديولوجية التطرف والعنف بتضحيات جميع أفراد شعبها وفي طليعته قوات الجيش الوطني الشعبي وكافة أسلاك الأمن التي تصدت للإرهاب الأعمى الذي عصف بالبلاد في فترة التسعينيات. وتأكدت مجددا قيم الحرية والديمقراطية والتسامح التي رسختها مبادئ الثورة التحريرية ونقلتها بوفاء رسالة الاستقلال، في التحام الشعب الجزائري حول سياسة الوئام المدني وتبنيه لميثاق السلم والمصالحة الوطنية، الذي جاء به رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة من أجل إنهاء صفحة أليمة في تاريخ الجزائر المستقلة وتجاوز المحنة العصيبة التي أصابتها في نهاية القرن الماضي. مسيرة حافلة بالإنجازات لقد بذلت الجزائر منذ استرجاع استقلالها جهودا كبيرة من أجل ترسيخ مبادئ قامت على أساسها ثورة نوفمبر الخالدة وفي مقدمتها مبدأ ديمقراطية التعليم والتكوين، حيث بلغت هذه الجهود اليوم مستوى السعي الدائم إلى تحسين نوعي للمنظومة التربوية من أجل التكفل الجيد بتعداد مدرسي يتجاوز 25 بالمائة من التعداد الإجمالي للسكان. وبالموازاة مع مباشرتها للإصلاح في قطاعات التربية والتعليم العالي والتقني والمهني، كرست الدولة تمسكها الراسخ بمبادئ الديمقراطية، بالسهر على ترقية وحماية حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، وغيرها من القيم الحضارية النبيلة التي انتقلت بالجزائر نهائيا من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية. كما شرعت في مسار تقويمي شمل هو الآخر إصلاح هياكل الدولة ومهامها لتمكين المؤسسات بالأدوات اللازمة لمساندة المسار الديمقراطي وتجذير الحكم الراشد وعصرنة الاقتصاد وإفاضة التقدم الاجتماعي. فكان الناتج عن بث كل هذه المسارات الإصلاحية أن تحولت الجزائر منذ 1999 إلى ورشة ضخمة مترامية، يستفيد الجزائريون والجزائريات من ثمارها ومن مشاريعها المستلمة تدريجيا. وتصاعدت وتيرة النمو بفضل سياسة الاستثمار العمومي الذي فاقت قيمته الإجمالية 3000 مليار دينار بين 1999 و2004، وبفضل تشجيع الاستثمار الخاص الجزائري والأجنبي الذي فاق 2300 مليار دينار خلال نفس الفترة، وتمت تدريجيا تلبية الحاجيات الاجتماعية للسكان من خلال الزيادة في المخصصات الاجتماعية في الميزانيات السنوية، حيث بلغت هذه الأخيرة في ميزانية 2006 ما قيمته 512 مليار، وهو ما يمثل 20 بالمائة من الميزانية العامة للدولة و10 بالمائة من الناتج الداخلي الخام. وهذا دون احتساب حصص الدعم الضمني التي تمنحها الدولة، لدعم أسعار المياه والكهرباء والغاز والوقود والتي بلغت 233 مليار دينار. وتعززت المدرسة الجزائرية في السنوات التسع الأخيرة بأكثر من 3000 مؤسسة جديدة، ساهمت في تحسين ظروف التمدرس، ولا سيما في أوساط أبناء العائلات المعوزة أو المعزولة، حيث تم إنجاز أكثر من 230 مؤسسة تربوية داخلية و850 مطعم مدرسي. في حين وفي إطار البرنامج التكميلي لدعم النمو من المتوقع أن يتم خلال الفترة 2005 - 2009 استلام 7000 قسم وأكثر من 1000 إكمالية وما لا يقل عن 450 ثانوية. ولا بد في هذا المقام من التذكير بالثمار الأولى التي توجت بها كل هذه الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة من أجل تحسين نظام التعليم، والتي تجلت في تجاوز نسبة النجاح في شهادة البكالوريا مستوى 50 بالمائة في سنة 2005، وذلك للمرة الأولى منذ الاستقلال. كما عرفت الجامعة الجزائرية وثبة حقيقية خلال نفس الفترة مع تسلم 390 ألف مقعد بيداغوجي أي 58 بالمائة من الحظيرة الوطنية الإجمالية و160 ألف موقع إقامة، ما يمثل 53 بالمائة من المجموع و118 مطعم جامعي، ما يمثل 40 من مجموع ما تتوفر عليه بلادنا. ومن خلال مقارنة بسيطة منذ الاستقلال إلى سنة 1999 ثم إلى يومنا هذا يمكن إبراز الطفرة الهائلة والجهود المضنية التي تبذلها الدولة للتكفل بهذا القطاع الحيوي. فعدد الطلبة غداة الاستقلال لم يكن يربو عن 2725 طالب، ليصل إلى أزيد من 372 ألف طالب في السنة الجامعية 1998 - 1999 ثم إلى 930 ألف طالب خلال السنة الجامعية 2006 - 2007، مع الإشارة إلى أن عدد الطلبة تزايد ما بين السنة الجامعية 1998 - 1999 والسنة الجامعية 2006 - 2007 بنسبة 129 بالمائة. ولم تكن في الجزائر كلها غداة الاستقلال إلا جامعة واحدة هي جامعة الجزائر، لتمتد الشبكة إلى 60 مؤسسة جامعية تتوزع ما بين جامعات ومراكز جامعية ومعاهد وطنية ومدارس عليا وتتوزع بين 41 ولاية من ولايات الوطن. وصاحبت جهود توسيع وإنجاز الشبكات الجامعية إنجاز مئات الآلاف من المقاعد البيداغوجية ليتضاعف العدد من 340 ألف مقعد سنة 1999 إلى 680 ألف مقعد بيداغوجي في 2005، وبذلك يكون عدد المقاعد البيداغوجية المنجزة خلال السنوات الأخيرة يقارب 40 بالمائة مما تم إنجازه منذ الاستقلال. بينما تم في إطار المخطط الخماسي لدعم التنمية برمجة إنجاز 467000 مقعد بيداغوجي و350 ألف سرير مع إطلالة سنة 2009 لتصل الحصة الإجمالية إلى 1,5 مليون مقعد بيداغوجي و700 ألف سرير. أما عدد الأساتذة الذي لم يكن في السنة الجامعية 1962 - 1963 يتجاوز 298 أستاذ فقد بلغ خلال السنة الجامعية 2006 - 2007 أزيد من 27300 أستاذ، بينما بلغ عدد خريجي الجامعات منذ الاستقلال مليون متخرج أزيد من 50 بالمائة منهم خلال السنوات التسع الأخيرة، وقد بلغ عددهم الخريجين في 2006 أزيد من 110 آلاف متخرج. وحسب التوقعات ينتظر أن يستقبل قطاع التعليم العالي خلال السنة الجامعية 2009 - 2010 حوالي 1,4 مليون طالب، يستدعي استقبالهم في أحسن الظروف تزويد القطاع بالأطر البشرية والبنى التحتية والإمكانيات المادية وتعزيز طاقات الإيواء. وبوجه عام فقد خصصت الدولة منذ بداية العشرية الراهنة قرابة 150 مليار دينار لقطاع الشباب والرياضة وحده في إطار برنامج التجهيز، وتم إنجاز آلاف المشاريع في القطاعات الأخرى ذات الصلة بالشبيبة، بينما تستقبل المدارس والجامعات ومراكز التكوين اليوم ما يقارب 10 ملايين من الشباب، منهم مليون طالب في الجامعات وأكثر من 500 ألف شاب في مراكز التكوين. على صعيد آخر لازالت سياسة إصلاح المستشفيات تستفيد من دعم مالي معتبر من قبل الدولة التي أقدمت على مضاعفة ميزانية القطاع بأكثر من 65 بالمائة بين سنتي 1999 و2004 وهو ما شكل نسبة هامة من الميزانية العامة للدولة. وقد مكن الإبقاء على احتكار الدولة لقطاع الصحة المتماشي مع تطبيق مبدأ العلاج المجاني ابتداء من 1973، من إنجاز سائر البرامج الصحية الوطنية وتحقيق تقدم لافت في مجال تحسين المؤشرات الوبائية بفضل وفرة الأدوية الأساسية وتوزيعها بالمجان في حالات محددة. وإلى هذه الإنجازات الكبيرة تضاف المكاسب التي حققتها الجزائر المستقلة في مجالات تزويد السكان بالمياه وشبكات الغاز والكهرباء، حيث تم في السنوات الأخيرة تسليم 19 سدا أي ثلث عدد السدود الوطنية وإطلاق مشاريع وحدات كبرى لتحلية مياه البحر على امتداد الساحل، منها محطة الحامة بالعاصمة ومحطات أخرى تم تسليمها في غرب البلاد. كما تم من جهة أخرى توصيل 450 ألف بيت إضافي بالكهرباء خلال السنوات الأخيرة لتصل بالتالي النسبة العامة للتغطية الكهربائية إلى مستوى 96 بالمائة، بينما تم في نفس الفترة إمداد 670 ألف بيت بالغاز، ليصل مستوى الإمداد إلى 44 بالمائة مما تم إنجازه منذ الاستقلال. ويرتقب أن يصل الحجم الإجمالي لما ستنفقه الدولة خلال الفترة الممتدة ما بين 2005 و2009 إلى ما يقارب 6000 مليار دينار أو ما يفوق 80 مليار دولار، كنفقات عمومية استثمارية وهو ما يمثل ضعف ما تم إنفاقه منذ سنة 1999 . ترقية المرأة الجزائرية تحولت الآمال والتعهدات المعبر عنها غداة الاستقلال من أجل ترقية المرأة ومنحها مكانتها المرموقة في المجتمع إلى واقع ملموس في جزائر اليوم، يمكن ملاحظتها من خلال نظرة فاحصة إلى مستوى تمثيلها في مختلف قطاعات النشاط ومؤسسات الدولة. وتشير الإحصائيات الأخيرة في هذا المجال إلى أن نسبة الطالبات في التعليم العالي تتجاوز 58 بالمائة من إجمالي الطلبة المسجلين، بينما تفوق نسبة تواجدها ضمن أعضاء هيئة التدريس الجامعي والبحث العلمي 34 بالمائة. وتبين نفس المعطيات أن معدل تمدرس الفتيات الذي لم يكن يتعدى 31,5 بالمائة في السنة الدراسية 1966 - 1967 ، قفز اليوم إلى 96 بالمائة وبلغت نسبتهن مايزيد عن 47 بالمائة في التعليم الابتدائي و49 بالمائة في التعليم المتوسط وقرابة 58 بالمائة في التعليم الثانوي. في حين فاقت نسبة نجاحهن في شهادة البكالوريا 64 بالمائة من إجمالي الناجحين في 2007 . أما في مجال التأطير فقد انتقلت نسبة المعلمات من 46,67 بالمائة من إجمالي هيئة التدريس في السنة الدراسية 1999 - 2000 إلى 51,5 بالمائة في 2007 . وقد اقتحمت المرأة الجزائرية مجالات ممارسة مختلف المهن والحرف، وبلغت نسبة التحاق الفتيات بمراكز التكوين المهني ومعاهده 43 بالمائة، بينما ارتفع عدد النساء في الأسلاك المهنية المتصلة بقطاع الصحة إلى أكثر من 54 بالمائة وفاقت نسبتهن في سلك القضاء 30 بالمائة وفي الصيدلة 73 بالمائة. لقد قطعت الجزائر أشواطا مهمة وأنجزت الكثير في مسار بناء الدولة والمجتمع منذ 1962، لكن نتائج هذه المسيرة تبقى دون مستوى التضحيات الغالية التي قدمها الشعب الجزائري وما يطمح إليه من رقي وازدهار وما يتناسب مع قدرات البلاد وإمكانياتها المادية والبشرية الكبيرة والنوعية، ما يستدعي إلزاما المزيد من الجهود والتضحيات لتدارك النقائص وتصحيح الأخطاء السابقة وتسخير كل الطاقات لمجابهة الضغوطات والتحديات المتزايدة في عالم مفعم بالمخاطر والتهديدات.