محمود القلعاوي حينما نرى جنود الإسلام البواسل في غزة المحاصرة، الذين يتحملون القصف الوحشي المتواصل بالطائرات والزوارق ومدافع القصف وآلات التدمير، ونجد أنهم لا يزالون يضحون بكل غال ونفيس، ونتعجب كيف لا يبخلون بأرواحهم وأموالهم؟ فنجد حبهم للتضحية والجهاد في سبيل الله تعالى، وتفانيهم للبذل والعطاء وانتظار الأجر والثواب من عند الله تعالى، فما السر في تقديم هذه التضحية؟ السر في الحرص على التضحية هو إرضاء الله تعالى، والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلقد تعلمنا التضحية من الأنبياء والمرسلين، ومن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن صحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان، ويمكن أن ننظر لدرس عظيم أن يرتبط تاريخنا الهجري، والذي يربطنا بهذا الجيل النوراني الذي صُنع التاريخ على يده، هذا الجيل الذي بتضحيته وببذله وبعطائه بعد فضل الله عليه قام بهذا البناء، إشارة إلى أن الأمم لا تقوم لها قائمة ولا يُصنع لها مجد إلا بمثل هذه التضحيات. وهذا نموذج واحد للثواب الجزيل الذي ينتظر من يضحي بماله: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة. وإذا نظرنا إلى معنى التضحية نجد أنه مرتبط وملازم لمعاني الجهاد، سواء بالمال والنفس، فهي تضحية لنيل الثواب الجزيل، والحصول على الأجر الكبير للمجاهدين في سبيل الله. ويعرف واحد من العلماء المعاصرين، وهو الإمام البنا التضحية في رسائله: (أريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل)، وقد حدد الإمام البنا ملامح الشخصية المضحية المجاهدة: (أستطيع أن أتصور المجاهد شخصاً قد أعد عدته وأخذ أهبته وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير عظيم الاهتمام على قدر الاستعداد أبداً، إن دعي أجاب وإن نودي لبى، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه وترى في بريق عينيه وتسمع في فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم في قلبه من جوىَ لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزيمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة). وقد ضرب صهيب الرومي بن سنان المثل الرائع في التضحية بالمال في سبيل الله، واستبدل بعرض الدنيا الزائل ثواب الله الباقي، يرجو تجارة لن تبور، فقد كانت عنده من المال الكثير أواقٍ من ذهب وغيرهم، فلما همَّ بالخروج مهاجرًا اعترضه ظلمة قريش، فحبسوه مساومين له أن يتنازل عما معه مقابل أن يتركوه وشأنه، فلما قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم، بشره الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا يحيى، ربح البيع. ثلاثاً، فعندئذ قال صهيب، يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام. (أخرجه الطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وحسنه الوادعي في صحيح أسباب النزول، وحسنه الهيثمي في المجمع). يقول د.ماهر عباس جلال: (وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لصهيب، إنما هو لكل مسلم أو مسلمة يضحي بماله في سبيل الله، ولنصرة الإسلام والمسلمين، ولوضع لبنة في صرح الحضارة الإسلامية، إذ المال عصب الحياة، وشريان الحضارة، ووقود التقدم والرقي، فحينئذ يقال لكل من ضحى بماله في سبيل ذلك كله: ربح البيع يا عبدالله! ربح البيع يا أمة الله!) وهيا إلى ليلة العمر التى يحلم بها كل شاب وما فعله حنظلة بن أبي عامر الراهب فيها، فعندما سمع داعي الجهاد ليلة زفافه، نهض من فراش عروسه إلى المعركة، دون أن يغتسل، ولقي ربه شهيداً، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه رأى الملائكة تغسله بين السماء والأرض، وسمي (غسيل الملائكة)، ضحى بحياته كلها وضحى بعروسه في ليلتها الأولى(وحديث حنظلة أخرجه الزيلعي في نصب الراية، وحسنه الألباني كما في السلسة الصحيحة). ويحدثنا التاريخ عن هذه الروح التى يحملها العملاق عمرو بن الجموح رضي الله عنه حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى غزوة أُحُد يشكو إليه أبناءَه الذين يمنعونه من الخروج، قائلين له: (لقد عذرك الله - وكان ذلك بسب عرج في رجله- ونحن نقاتل عنك، وإني يا رسول الله أحبُّ أن أجاهدَ معك فأُستَشهد فأدخل الجنة فأطأ بعرجتي هذه الجنة).. فقال صلى الله عليه وسلم لأبنائه: اتركوه، لعل الله يرزقه الشهادة، وخرج معهم إلى أحد. وهنالك نال ما كان يتمناه الشهادة في سبيل الله(راجع فقه السيرة للغزالي، والحديث حسنه الألباني). أما مصعب الخير مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي عاش مترفاً، تراه يؤثر العيش الخشن في جوار رسول ربه صلى الله عليه وسلم، وقد رق له صلى الله عليه وسلم ذات مرة وأشار إليه قائلاً: (انظروا إلى هذا الفتى الذي نوَّر الله قلبه، وصل به حب الله وحب رسوله إلى ما ترون، ولقد رأيته في مكة بين أبوين يغذوانه أطيب الطعام ويلبسانه أفخر الثياب) أخرجه ابن كثير، وضعفه وأيضا ضعفه الألباني، ووردت فضائل لمصعب وتحمله الفقر بعد إسلامه، وبعد أن كان غنيا، راجع الإصابة في معرفة الصحابة. أما أبو خيثمة (عبد الله بن خيثمة) في جيش العسرة (فقد أعدت امرأتاه طعاماً شهياً وماء بارداً ومجلساً ليناً وظلاً ظليلاً، فصرخ: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر وأنا هنا؟! جهزاني، وما نزل عن راحلته حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم (راجع الاستيعاب لابن عبد البر). بمثل هذه النماذج وهذه الروح وهذه التضحية نبني بلادنا ونسعد بدنيانا وآخرتنا. * عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.