من (سقوط الخلافة) إلى (الطارق) و(السيرة الهلالية)، يغوص الكاتب والسيناريست المصري يسري الجندي في فصول التاريخ العربي والإسلامي قارئا ومنقّبا ومتمعّنا، يحول المادة التاريخية إلى بناء درامي لا يخلو من إسقاطات سياسية واجتماعية كما يبحر في التراث الشعبي ليؤسس لتجربة مسرحية مميزة. اشتهر الجندي بأعمال درامية ومسرحية كثيرة، ويثير مسلسله الجديد (خيبر) -الذي كتب له القصة والسيناريو، وأخرجه المخرج الأردني محمد عزيزية- الكثير من الجدل حتى قبل أن يعرض، وقد طلبت المنظمة الصهيونية الأميركية من الرئيس الأميركي باراك أوباما التدخل لمنع عرض المسلسل. ويحلل المسلسل الذي يستحضر سمات المجتمع اليهودي في السنوات الأولى من ظهور الإسلام طبيعة الصراع بين اليهود والمسلمين، حيث كان اليهود يتقرّبون من الإسلام علنا، لكنهم يقاومونه سرا من أجل مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، وهي اللعبة التي ما زالوا يحذقونها ويمارسونها من أجل بسط هيمنتهم كما يرى الجندي. ويقول الجندي إن مسلسل (خيبر) يطرح قضيتين، الأولى هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الدولة المدنية بمواطنة كاملة، ومساواة بين المواطنين بمن فيهم اليهود، والثانية أنه رغم هذه الحقوق المدنية، التي وفرتها وثيقة (عهد المدينة)، لم تجد تجاوبا من اليهود، فنقضوا العهد ولم يستطيعوا التكيف والتوافق مع هذا النظام الجديد، والذي لم تشهده البشرية من قبل، بل قابلوا ذلك بالغدر والتآمر، ثم الخيانة الصريحة. ويضيف صاحب (جمهورية زفتي) أن المسلسل يؤكد أن اليهود هم اليهود، ما زالوا يمارسون طبيعتهم رغم مر القرون، ويعيثون فسادا في كل مجتمع عاشوا فيه، ولا يستطيع نظام أن يأتمنهم على عهد أو ميثاق، والأزمة التي يعيشها العالم العربي خير شاهد، ومن هنا يأخذ المسلسل معناه العصري. وأشار إلى أن المسلسل -المقرر عرضه تلفزيونيا في رمضان- يعطي درسين الأول: أن المجتمع الذي كوّن الدولة الإسلامية الأولى، إنما مثل أرقى طموح للإنسان في ذلك العصر، وهو العيش في ظل المساواة والمواطنة، أيا كان انتماء المواطنين ومعتقداتهم، وهو الدرس الذي ما زلنا نطمح إليه حتى وقتنا المعاصر، وبما يمكن أن أسميه درس (ديمقراطية الحياة). أما الدرس الثاني فيتمثل في أن اليهود يعادون أي محاولة للنهوض والتحديث، حيث وقفوا ضد مدنية الدولة الإسلامية الأولى، ويقفون الآن ضد استعادة الأمة لحضارتها ومجدها، وكلما حلوا بأمة مارسوا فيها ذات المكائد وبذات الأسلوب، حصل ذلك منهم في بابل، ومع الرومان في بلاد الشام، وفي روسيا القيصرية، وألمانيا الهتلرية، ثم رحلهم الغرب ناحية العرب، وظلوا خدما له حتى الآن. ولفت الجندي إلى أن المسلسل دخل في قلب المجتمع اليهودي في (يثرب)، وعرض كبار أحباره وصيارفته وتجاره وزعمائه، كما تناول (بني قريظة) و(بني النضير) و(بني قينقاع)، وكيف سقطوا في اختبار المواطنة واحدا تلو الآخر، وكيف فروا إلى حصنهم المنيع (خيبر) ظانين أنه يمنعهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا. كما يتناول العمل المنافقين في المدينة، ومن الشخصيات المحورية فيه عبد الله بن أبي بن سلول، ودوره مع حيي بن أخطب، في محاولة إجهاض التجربة المدنية الجديدة، بالإضافة إلى شخصيات أخرى متخيلة، تتناسب مع السياق. وأشار إلى أن العمل يكاد يكون هو العمل التاريخي الوحيد في خريطة مسلسلات رمضان هذا العام، وهو العمل الثاني له بعد (سقوط الخلافة)، وكلاهما من الأعمال الدرامية الناجحة. وأكد أن النزعة التجارية التي اقتحمت الدراما المصرية، وعششت في ساحتها لسنوات وسنوات، أفسدت الطموح الكبير في تقديم الأعمال التاريخية ذات القيمة، أضف إلى ذلك العامل الاقتصادي وعامل التسويق. وقال إن العمل يتكون من جزء واحد، وهو عمل تاريخي بالدرجة الأولى وليس دينيا، ولم يتطرق إلى شخصيات يحظر ظهورها، والعمل لا يحتاج إلى رقابة، سواء من ناحية المضمون أو الأحداث، وقد تمت مراجعته من قبل متخصصين في التاريخ. وبالنسبة لصاحب مسرحية (ما حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر) فإن الاستلهام التاريخي غير التاريخ، حيث أن استلهام التاريخ يعني إعادة قراءته لمعالجة قضية أو مشكلة معاصرة، وبذلك تجيب الدراما التاريخية عن السؤال: ما علاقة هذا بعصرك؟ وما علاقة ما تطرحه بقضاياك؟ وإذا لم يجب المسلسل التاريخي على ذلك يفقد تأثيره، وهذه إحدى التحديات التي تواجه من يكتب مثل هذه الأعمال. ونبه الجندي إلى أن تطوير الدراما مرهون بانتعاش الواقع العربي، وكلما انتعش الواقع انتعشت الدراما، وكلما تدهور تدهورت، وهذا ينطبق أيضا على الثقافة العربية بشكل عام.