قال بديع الزمان النُّورْسي: إن هناك حِكَماً عدة يتوجه بها صيام رمضان المبارك بالشكر على النِّعَم التي أسبغها الباري علينا، منها: أن الأطعمة التي يأتي بها خادم من مطعم سلطان لها ثمنها، ويُعدُّ من البلاهة توهم الأطعمة النفيسة تافهة غير ذات قيمة، وعدم معرفة مُنْعِمها الحقيقي، في الوقت الذي يمنح الخادم هبات وعطايا لأجلها. وكذلك الأطعمة والنِّعَم غير المعدودة التي بثها الله سبحانه في وجه الأرض، فإنه يطلب منا حتماً ثمنها، ألا وهو القيام بالشكر له تجاه تلك النِّعَم. والأسباب الظاهرية التي تحمل عليها تلك النِّعَم، وأصحابها الظاهرون هم بمثابة خَدَمة لها، فنحن ندفع للخدام ما يستحقونه من الثمن، ونظل تحت فضلهم ومِنَّتهم، بل نبدي لهم التوقير والشكر أكثر مما يستحقونه، والحال أن المنعم الحقيقي سبحانه يستحق -ببثه تلك النِّعَم- أن نقدم له غاية الشكر والحمد، ومنتهى الامتنان والرضا، وهو الأهل لكل ذلك، بل أكثر. إذن، فتقديم الشكر لله سبحانه، وإظهار الرضا إزاء تلك النِّعَم إنما يكون بمعرفة صدور تلك النِّعَم والآلاء منه مباشرة، وبتقدير قيمتها، وبشعور الحاجة إليها. لذا، فإن صيام رمضان المبارك لهو مفتاح شكر حقيقي خالص، وحمد عظيم عام لله سبحانه، وذلك لأن أغلب الناس لا يدركون قيمة نِعَم كثيرة -غير مضطرين إليها في سائر الأوقات- لعدم تعرضهم لقساوة الجوع الحقيقي وأوضاره. فلا يدرك -مثلاً- درجة النِّعَم الكامنة في كسرة خبز يابس أولئك المتخمون بالشبع، وبخاصة إن كانوا أثرياء مُنَعَّمين، بينما يدرك المؤمن عند الإفطار أنها نعمة إلهية ثمينة، وتشهد على ذلك قوته الذائقة، لذا ينال الصائمون في رمضان -ابتداء من السلطان، وانتهاء بأفقر الفقراء- شكراً معنويًّا لله تعالى، منبعثاً من إدراكهم قيمة تلك النعم العظيمة. أما امتناع الإنسان عن تناول الأطعمة نهاراً، فإنه يجعله يتوصل إلى أن يدرك بأنها نعمة حقاً؛ إذ يخاطب نفسه قائلاً: (إن هذه النِّعَم ليست ملكاً لي، فأنا لست حرًّا في تناولها، فهي إذن تعود إلى واحد آخر، وهي أصلاً من إنعامه وكرمه علينا، وأنا الآن في انتظار أمره). وبهذا يكون قد أدى شكراً معنويًّا حيال تلك النِّعَم. وبهذه الصورة يصبح الصوم في حكم مفتاح للشكر من جهات شتى، ذلك الشكر الذي هو الوظيفة الحقيقة للإنسان. .../ ... يتبع