قال تعالى: "ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذه باطلا سبحانك..." آل عمران 191. لقد ميز الله تعالى الإنسان عن غيره من المخلوقات بميزة التفكير وأعطاه نعمة العقل ليتبصر بها النافع والضار، والخير من الشر ويسلك في حياته مسالك النجاة، وجعل الدليل الأعظم على ألوهيته وحكمته هو التفكر والتدبر، وقد ورد أن قريشاً أتت اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى؟ قالوا عصاه، ويده بيضاء للناظرين وأتوا النصارى فقالوا: بم جاءكم عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً، فدعا ربه فنزلت هذه الآيات: "إن في خلق السماوات والأرض..." أخرجه الطبراني وغيره. ودلالة أسباب النزول هذه أن نعمة التفكر والعقل أعظم من نعمة المال من الذهب والفضة، فقد جعل هذا الكون الفسيح بأرضه وبحاره وجباله وسمائه والملائكة ميدانا للعقل والفكر حتى يكتشف نواميسه ويظهر خباياه وكنوزه ويستمر في اكتشافاته ما بقيت الحياة، فالفكر في تجدد ومعطيات الكون ونواميسه من انكشاف وظهور، تسهل لهذه الإنسان وجوده وحياته وتيسر له هدفه وغايته في معرفة خالق هذا الكون والسير على هداه. إن هذا الفكر والعقل حين يراكم تجاربه الفكرية ويبنيها صعودا مستمرا تفتح أمامه مغاليق الكون ويتعرف على نظامه وقوانينه فيسخرها لخدمته، وقد وعده الله تعالى بذلك حين قال: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى تبين لهم أنه الحق" فصلت 53. وان مسيرة الفكر والعقل وتراكم التجارب البشرية لم يحصرها القرآن الكريم بدين أو شعب أو لغة، بل مشاع مشترك بين الناس جميعاً يأخذها بعضهم عن بعض ويتساعدون في انجازها لتعود عليهم جميعا بالنفع والإفادة، وينال المبدعون التقدير والاعتبار من كل البشرية، لقد أثرت هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات الكثيرة التي تحض على التأمل والتفكير والتعقل، فجعلوا التفكير والاعتبار من ارفع العبادات، يقول الحسن البصري: "تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة" وقال "الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك"، قال سفيان بن عيينة: "الفكرة نور يدخل قلبك"، وجاء عن عدد من الصحابة أنهم كانوا يقولون: "إن ضياء الإيمان التفكر"، ومن هذا المنهج القرآني الذي يقوم على التفكير وإعطاء العقل مجاله الفسيح في هذا الكون، وعدم الحجر عليه انطلقت الإبداعات على كل صعيد فكري واجتماعي ومادي وتنافس العلماء في ذلك أيما تنافس وخلدوا وراءهم أعظم الآثار التي صمدت في وجه الأعاصير والتقلبات، وكان ذلك منهم عن إيمان بالخير واستجابة لندائه الذي ما زال قائما ينادي العقلاء ويستجيش ضمائر النبهاء لوصل الحاضر بالماضي والأخذ بسديد الفكر، وصحيح التجارب، والنظر للمستقبل الزاهر "وتلك الأمثال نضر بها للناس لعلهم يتفكرون" الحشر 21.