إن التفكر من أعمال القلوب العظيمة، وهو مفتاح الأنوار ومبدأ الإبصار، و شبكة العلوم والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ولكن جهلوا حقيقته وثمرته، وقليل منهم الذي يتفكر ويتدبر، وقد أمر الله تعالى في التفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى، وأثنى على المتفكرين فقال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) (آل عمران: 191). قال عطاء رحمه الله: انطلقت يوماً أنا وعبيد بن عُمير إلى عائشة رضي الله عنها، فكلّمتنا وبيننا وبينها حجاب فقالت: يا عبيد؛ ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (زر غبّاً؛ تزدد حبّاً) قال ابن عمير: فأخبرينا بأعجب شيء رأيتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت رضي الله عنها وقالت: كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي ثم قال: (ذريني أتعبد لربي عز وجل)، فقام إلى القِربة فتوضأ منها ثم قام يصلي، فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه حتى أتاه بلال يؤذنه بصلاة الصبح، فقلت: يا رسول الله؛ ما يُبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: (لقد أنزلت عليّ الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبر فيها) ثم تلا قول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران: 190) ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وعن محمد بن واسع، أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت: كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر. وقال الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقال الفضيل بن عياض: الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك. وقيل لإبراهيم إنك تطيل الفكر فقال: الفكرة مخ العقل. وكان سفيان بن عيينة كثيراً ما يتمثل بقول القائل: إذا المرء كانت له فكرة؛ ففي كل شيء له عبرة. وقال الحسن: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، و من لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو. وكان عدد من أهل العلم والحكمة يطيلون الجلوس والتفكر، قال عبد الله بن المبارك يوماً لسهل بن عدي لما رآه ساكتاً متفكراً: أين بلغت؟ أي بفكرك وتأملك قال: الصراط. أي أنه صال وجال بفكره في أحداث يوم القيامة، حتى بلغ أمر الصراط وما فيه من أهوال. وقال بِشر: لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكر خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب. وبينما كان أبو شريح يمشي، إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكي فقيل له ما يبكيك؟ قال: تفكرت في ذهاب عمري وقلة عملي واقتراب أجلي. وقال أبو سليمان: عوّدوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر. وقال: الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية، والفكر في الآخرة يورث الحكمة ويحيي القلوب، ومن الذكر يزيد الحب، ومن التفكر يزيد الخوف. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وإذا كان همّ العبد وهواه في الله عز وجل جعل الله صمته تفكراً وكلامه حمداً. وقال الحسن رحمه الله: إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة. وكان داود الطائي رحمه الله على سطح في ليلة قمراء، فتفكر في ملكوت السموات والأرض وهو ينظر إلى السماء ويمشي، حتى وقع في دار جار له، فوثب صاحب الدار من فراشه وبيده سيف ظن أنه لصّ، فلما نظر إلى داود رجع ووضع السيف وقال: من ذا الذي طرحك من السطح؟ قال: ما شعرت بذلك.