بقلم: حاتم عزام الدستور هو الوثيقة الأسمى التي تعبر عن العقد الاجتماعي للدولة، وهو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة ونظام الحكم، وكيفية تشكيل الحكومة وتنظيم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات بين السلطات، وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة. وتولي الدول الديمقراطية عملية صياغة دساتيرها أهمية بالغة، حيث تتم تلك العملية عادة من خلال إحدى طرق ثلاث: الأولى تتاح للشعب فيها فرصة انتخاب ممثليه ليقوموا بصياغة الدستور من خلال جمعية تأسيسية منتخبة. وفي الطريقة الثانية يتم وضع الدستور بواسطة جمعية نيابية منتخبة من الشعب، أو جمعية تأسيسية مختارة من هذه الجمعية النيابية المنتخبة، وهي طريقة (الاستفتاء الدستوري)، التي سلكتها مصر عقب ثورة 25 يناير 2011. أما الطريقة الثالثة، فتوضع الدساتير فيها بواسطة لجنة حكومية مشكلة من طرف حكومة منتخبة، أو بواسطة الحاكم الشرعي المنتخب بنفسه، ثم يُعرض الدستور على الشعب في استفتاء عام، ولا يصبح الدستور نافذا إلا بعد موافقة الشعب عليه. ويبقى العامل المشترك بين كل الطرق الديمقراطية لصياغة الدساتير هو مراعاتها لأن يكون تشكيل الجمعية التأسيسية أو اللجنة الدستورية معبرا عن الشعب. بهذا الشرح الأكاديمي لماهية الدستور نجد أنفسنا في مواجهة حقيقية مع (اللقيطة). تلك اللجنة الخمسينية التي عينت بعد الانقلاب (اللقيطة) لأنها منقطعة النسب عن الشعب المصري، فلا هي منتخبة، ولا من عينها منتخب. باطلة دستوريا وقانونيا لأنها لم تتبع الأطر القانونية لإجراء التعديلات الدستورية التي أقرها دستور 2012 المستفتى عليه، ومن المفترض أن أي طعن على عمل هذه اللجنة يبطل عملها. لجنة الخمسين متخاصمة مع ثورة 25 يناير، بداية من مسودتها التي أنكرت أي ذكر للثورة الحقيقية، ونال بعدها مقص الرقيب العسكري داخل ظلام الغرف المغلقة من دستور الثورة. أما عن تشكيل الخمسينية فحدث ولا حرج عن تبوؤ رموز نظام مبارك السياسي -الذي قامت ضده ثورة يناير- مناصب القيادة فيها، بالتزامن مع تجاهل شباب الثورة الحقيقية الذين باتوا ملاحقين بتهم التخابر والخيانة في ظل الانقلاب، وتمت الاستعاضة عنهم بممثلي حركة تمرد التي هي صنيعة مخابراتية بالدرجة الأولى. يأتي هذا في الوقت الذي صار فيه العديد من أعضاء الجمعية الدستورية المنتخبة التي صاغت دستور مصر 2012 قيد الاعتقال والسجن، بدءا من رفقائي بحزب الوسط المهندس أبو العلا ماضي رئيس الحزب والأستاذ عصام سلطان نائبه، وغيرهما الكثير ممن لا تتسع لهم مساحة المقال. تلك اللجنة الانتقائية لا تمثل الشعب المصري، لأنها تضم ممثلين عن أربعة أحزاب سياسية فقط، منها حزب (مباركي) كرتوني لا يتعدى عدد أعضائه بضع مئات وهو حزب التجمع، والأحزاب الثلاثة الأخرى لم تمثل أكثر من 30 % من مقاعد برلمان 2012، وهو البرلمان الذي انتخبه العام الماضي 32 مليون مصري في أول انتخابات حرة بعد ثورة يناير، في حين غاب عن تشكيلها من مثل 70 % من الشعب المصري في هذا البرلمان. فضلا عن تشكيلها في أجواء قمعية تتميز -من بين أمور أخرى- بقتل آلاف المتظاهرين، وإصابة أضعافهم واعتقال الساسة في ظروف استثنائية، عادت فيها حالة الطوارئ وأمن الدولة وعسكرة مفاصل الدولة، ناهيك عن غياب الحقوق والحريات الأساسية كحق التعبير، إذ بات كل رافض للانقلاب العسكري متهما إما بالخيانة أو تهديد الأمن القومي، وهو ما ينفي وجود مناخ حر يسمح بالمناقشة أو الحوار المجتمعي الحقيقي حول عملها، خصوصا وأن عملها يتم في الغرف المغلقة. وكيف تصاغ تعديلات على دستور مستفتى عليه في ظل سلطة انقلاب عسكري يتظاهر الملايين ضدها في شتى محافظات مصر، على مدار أكثر من ثمانين يوما حتى الآن، رغم اعتقال عشرات الآلاف من المطالبين بعودة الشرعية التي منحوها أصواتهم. أما مدة الشهرين التي ستعمل خلالها الخمسينية، فالسؤال هو كيف ستخرج لنا منتجا جيد الطهو بمنطق من زعم أن ما تمت صياغته في ستة أشهر في جلسات معلنة على الهواء مباشرة كان مسلوقا. إنني أربأ بعدد قليل من الشخصيات صاحبة التاريخ المحترم في العمل الوطني أن تكون ديكورا في هذه اللجنة اللقيطة، مما يخصم حتما من رصيد نضالهم. دستور مصر 2012 في هذا السياق، تجب المقارنة بين عمل (اللقيطة) وبين عمل تأسيسية الدستور المنتخبة التي بذل فيها جهد كبير من الجميع، وشهدت حوارا مجتمعيا -لم يخل من تشويه إعلامي ممنهج ومتعمد- لإقرار دستور يليق بثورة يناير. وإذا كانت عملية كتابة دستور 2012 شهدت جدلا واسعا، إلا أنه من الإنصاف الإقرار بأنه دستور متصل النسب بشعبه، وجسد إرادة شعبية واضحة في مختلف مراحل صياغته وبنائه، فقد اكتسب شرعية أصيلة، إذ كانت الكلمة العليا فيه دائما للشعب المصري، وتشكلت جمعيته التأسيسية بموجب الإعلان الدستوري في مارس 2011، والذي (استُفتي) عليه الشعب المصري وصوت له بنسبة 77 %. وتشكلت الجمعية التأسيسية التي صاغته بموجب هذا الإعلان الدستوري (بانتخاب) 100 عضو من الجمعية العمومية للبرلمان (المنتخب) بغرفتيه مجلسي الشعب والشورى. ومع ذلك أثار تشكيل هذه الجمعية التأسيسية جدلا واسعا أيضا، إلا أنه من الإنصاف القول إن تشكيلها الثاني والنهائي قد نتج عن عملية توافق حقيقية، ناتجة عن حوار وتفاوض جاد ومتكافئ بين الأطراف السياسية الفاعلة. ويبقى دستور 2012 الدستور المصري الوحيد الذي لم يكن هبة من ملك ولا منحة من حاكم، بل وثيقة صاغتها جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب، مصدر السلطات والشرعية الذي صوت عليه بعد ذلك وأقره في ظل حكم رئيس منتخب من هذا الشعب. تشكيل لم يخل من توافق بعد إخفاق تشكيل الجمعية التأسيسية الأولى بحكم قضائي مسيس، اقترحتُ على ممثلي الأحزاب في البرلمان استضافتهم في اجتماع متصل ومغلق في مكان بعيد عن الإعلام والتأثيرات الخارجية التي لا تخلو من المزايدات، على ألا ينتهي الاجتماع إلا بأقصى توافق ممكن من الحضور حول تشكيل الجمعية التأسيسية قبل انتخابها. وبالفعل شرفت باستضافة ممثلين عن معظم الأحزاب والتيارات السياسية الفاعلة في فندق (سوفيتل) لمدة أسبوع متصل حتى توصلنا لتشكيل توافق اعتمد من الحضور. ومن الجدير بالذكر هنا أن وحيد عبد المجيد، وأيمن نور، وسيد البدوي، وفريد إسماعيل، وأسامة ياسين، وباسم الزرقا، ومحمد سعد الأزهري، كانوا مصرين على الوصول لهذا التوافق على التشكيل. وكان لجهد وحيد عبد المجيد دور محوري، حيث كان منسقا لتلك الجلسات، وكنت أساعده في هذا بعدما اشترطت على الحضور ألا أكون من الأعضاء المائة ليظل دوري حياديا في التوصل لتوافق حول التأسيسية، حتى توج هذا الجهد التوافقي بالإعلان عن تشكيل تأسيسية الدستور بشكل توافقي في مؤتمر صحافي بمقر حزب الوفد. الجمعية التأسيسية 2012 بعد ذلك عملت التأسيسية لمدة ستة أشهر متصلة بمقر مجلس الشورى، وبثت جميع جلساتها على الهواء مباشرة، بالتزامن مع عمل (لجنة التوافق) التي ضمت ممثلين عن جميع الأطياف السياسية، وممثلين عن الأزهر والكنيسة للتوافق حول صياغة المواد الأكثر حساسية في الدستور، ولعب المهندس أبو العلا ماضي دورا محوريا في عمل هذه اللجنة هو وزملاؤه حتى انتهت بتوقيع الحضور جميعهم على الصيغة النهائية لهذه المواد لينتهي الجدل حولها. إلى جانب الاتفاق على تحسين تشكيل الجمعية بعد ثلاثة أشهر من بداية عملها، بتصعيد عدد من الاحتياطيين بدلا عن الذين لم يحضروا أو اعتذروا عن الحضور (تنفيذا لوعد الرئيس محمد مرسي في اتفاق فيرمونت)، وفي هذه المرحلة تم انتخابي، بعدما رفضت أن يطرح اسمي في التشكيل الأساسي، كما تم تصعيد عبد الجليل مصطفى وجابر جاد نصار وآخرين. وبعد خمسة أشهر وصلنا خلالها لهذا القدر من التوافق، بدأت حمى انسحابات البعض لأسباب سياسية بحتة، ولكن بقي كل ما توافقوا عليه بالدستور دون أن يمس منه حرف، وبالتوازي مع ذلك جابت لجان المحافظات المصرية لشرح مواد الدستور للمصريين، ولجان أخرى لتلقي الاقتراحات من الأفراد والجمعيات المختلفة، لتتم الجمعية عملها ويتم الاستفتاء على الدستور بإشراف قضائي كامل، رغم حملات التشويه الإعلامي، ورغم حشد جبهة الإنقاذ للتصويت ب(لا). تشويه ممنهج أما المنسحبون من لجنة الدستور في اللحظات الأخيرة فهم من قادوا حملات التشويه الإعلامي للدستور الوليد، وتشويه جمعيته التأسيسية التي تعرضت للحصار والهجوم بالمولوتوف بشكل خلا من أي سلمية، وكان على رأس هؤلاء جابر جاد نصار. وفي لقاء جمع بين عضوي الجمعية التأسيسية جابر جاد نصار ومنار الشوربجي، والأستاذ وائل قنديل وآخرين في مكتب جريدة الشروق بالمهندسين، أسرّ لهم جابر نصار بأن هذا الدستور هو أفضل وثيقة دستورية مصرية على الإطلاق، فتعجب الحضور، وسأله وائل قنديل مدير تحرير جريدة الشروق في حينها -ولم يكن عضوا بالجمعية التأسيسية للدستور- لماذا إذن تهاجمه وأنت عضو بجمعيته التأسيسية؟ فرد نصار قائلا: الهجوم محاولة ضغط لتحقيق أقصى المكاسب. وما أرويه واقعة معلومة والشهود عليها أحياء يرزقون. آلية للتعديل ورغم كل ذلك يبقى دستور 2012 عملا بشريا يحتمل الصواب والخطأ، لكنه يظل أيضا في تقدير كثير من المنصفين أفضل ما كتب من دساتير مصرية حتى الآن، وما يعوزه من تعديل تعهد الرئيس مرسي بطرحه على أول برلمان منتخب للتصويت عليه. وقد تشكلت بالفعل لجنة في رئاسة الجمهورية، حضرها ممثلون عن العديد من الأحزاب السياسية وأرسل لها آخرون اقتراحاتهم لتعديل الدستور، وكان الحديث يدور عن تعديل من 10 إلى 15 مادة من أصل 236 مادة، وتعهد الرئيس مرسي بتقديم هذه التعديلات للبرلمان المنتخب القادم لإقرارها، وهي إحدى الآليات التي نص عليها هذا الدستور لتعديله. بدأ الدستور بالديباجة التي جسدت روح وأهداف ثورة 25 يناير، وهي جزء لا يتجزأ من مواده، ولا تفسر تلك المواد إلا في إطارها، بحسب أحكام سابقة للمحكمة الدستورية العليا بمصر، لذلك هيمنت مكتسبات ثورة 25 يناير المجيدة على هذه الوثيقة. وبالطبع، لم تكن الديباجة فقط هي التي تتحدث عن ثورة 25 يناير، بل ترجمت العديد من مواد الدستور مكاسب هذه الثورة، منها على سبيل المثال باب الحقوق والحريات الذي يعد من أفضل ما كتب في الدساتير المصرية على الإطلاق. بعد هذه المقارنة الكاشفة، أستطيع أن أخلص مطمئنا إلى أن هذه اللجنة (اللقيطة) لن تلد سوى جنين سفاح مشوه ماديا وأدبيا، لا شرعية له، ولن يستطيع الحياة وسط مجتمع من الأصحاء الشرعيين الأحرار، لذا فهو ميت حتى قبل ولادته.