عطاف يستقبل المبعوث الخاص للرئيس الصومالي    وزارة الداخلية: انطلاق التسجيلات الخاصة بالاستفادة من الإعانة المالية التضامنية لشهر رمضان    توقرت: 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الجامعة العربية: الفيتو الأمريكي بمثابة ضوء أخضر للكيان الصهيوني للاستمرار في عدوانه على قطاع غزة    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    التزام عميق للجزائر بالمواثيق الدولية للتكفّل بحقوق الطفل    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    اكتشاف الجزائر العاصمة في فصل الشتاء, وجهة لا يمكن تفويتها    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الأسبوع الاوروبي للهيدروجين ببروكسل: سوناطراك تبحث فرص الشراكة الجزائرية-الألمانية    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بغرداية : دور الجامعة في تطوير التنمية الإقتصادية    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    عرقاب يستعرض المحاور الاستراتيجية للقطاع    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    أمن دائرة بابار توقيف 03 أشخاص تورطوا في سرقة    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    هتافات باسم القذافي!    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    سيفي غريب يستلم مهامه كوزير للصناعة    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر.. الفرص الضائعة والأخطاء القاتلة
نشر في الجزائر نيوز يوم 05 - 07 - 2013

لا يمكن تصور أن هناك عاقلا، يمكن أن يؤيد أي شكل من أشكال إجهاض أي تجربة ديمقراطية، سواء عبر التدخل العسكري المباشر على أي هيئة منتخبة، أو بأي صورة أخرى. لكن ما ينبغي إيلاؤه أهمية قصوى هو أسباب تفجر الأوضاع في أي تجربة ديمقراطية وليدة كادت أن تشق طريقها نحو النور.
حيث لا يمكن النظر إلى الأوضاع التي عاشتها دول الربيع العربي، خلال قيام الثورات الشعبية وما تلا ذلك من استحقاقات انتخابية، ثم ما أفضت إليه تلك الاستحقاقات الانتخابية من ظروف سياسية بالغة التعقيد، سواء كنتاج لعقود من الاستبداد أو لمحاولة إعادة إنتاج صور الاستبداد من خلال الأنظمة التي أعقبت الثورات دون قطيعة حقيقة من السلوكات السابقة.
وإذا ما أمعن النظر إلى المشهد المصري خلال العامين المنصرمين، نلاحظ أن هناك "فرصا حقيقية" تم إهدارها بشكل مصرف. وأن هناك "أخطاء قاتلة" تم ارتكابها منذ تاريخ الحادي عشر من فيفري 2011 (موعد تنحي الرئيس حسني مبارك)، سواء من قبل المجلس العسكري الذي تولى الحكم في أعقاب سقوط النظام، أو ما أفضت إليه الاستحقاقات اللاحقة والمتعجلة، من ممارسات تشي بغياب العامل الموضوعي في الممارسة الديمقراطية.
أولى الفرص الضائعة في تصوري، تتمثل في استثمار اللحظة التاريخية التي وفرتها ثورة الخامس والعشرين من يناير، من التفاف شعبي كبير حول مشروع مجتمع جديد، يمارس قطيعة فعلية مع صور الاستبداد، ويتطلع نحو بناء نموذج ديمقراطي حقيقي. ينطلق من أرضية التوافق، حيث بدا ذلك واضحا ومكرسا، بشكل فعلي في 18 يوما، في ميادين التغيير وعلى رأسها "ميدان التحرير" ، حيث استدعى المصريون، أنبل ما ظل كامنا في الشخصية الحضارية المصرية. من قيم التكاثف، وإنكار الذات، والتطلع لبناء نظام حديث يواكب تجارب الأمم المتقدمة. حيث بدت الأشهر التالية خارجة عن هذا السياق الذي انتظم خلال أسابيع الثورة، فسرعان ما تكالب أولئك الذين تغيبوا عن ركب "الثورة" لسبب أو آخر، إلى القفز على المشهد معتقدين أنها اللحظة المناسبة لجني مكاسب آنية، سواء بطابعها الفئوي أو الاجتماعي، مما عطل السير الحسن للمرحلة الفارقة التي صنعها أحرار مصر، من أجل مخاض وطن ديمقراطي، لتتعطل تلك المسيرة أمام عجلة المتكالبين المتأخرين عن المسار. أو الساعين لاستثمار اللحظة من أجل مكاسب محددة. سيما وأنها أتت متزامنة مع انسحاب الشرطة من المشهد ككل منذ مساء الثامن والعشرين من جانفي، مما ضاعف من عمليات الانفلات الأمني في الشارع المصري.
وبالرغم من أن تلك اللحظة التاريخية، قد ضمنت "للقوات المسلحة" فرصة سانحة من الالتفاف الشعبي، سيما بعد انحيازها لمطالب الثورة، ووضعها في مشهد تحسد عليه فعلا، في لحظة نادرة من التاريخ، جعلت منها معبرا عن ضمير الأمة المصرية، إلا أن تلك الميزة لم تكن تحمل وجها إيجابيا واحدا، بل أيضا كانت حمالة أوجه، سيما لجهة الإسراف في الطموح والتطلعات المنشودة لدورها، وهي التي لم تكن مهيئة لإدارة ضفة الحكم. في غياب تجربة فعلية، فضلا عن غياب الرؤية الواضحة لإدارة المرحلة الانتقالية المثقلة بهواجس وتكاليف ست عقود من الاستبداد، مما وضع "المجلس العسكري" أمام تحدٍ جديد، بين غياب الرؤية والتجربة من جهة، وتحقيق مطالب الثورة ومتطلبات إدارة الدولة من الجهة الأخرى.
ولعل ما يفسر ذلك التخبط الذي وقع فيه المجلس العسكري الحاكم، خلال تلك الفترة، قد تجلى في أحداث ال 10 من مارس 2011، حين داهمت وحدات من الجيش "ميدان التحرير" (ذو الرمزية الخاصة) في محاولة لإخلاء الميدان ممن تبقى فيه من "الثوار" مما أوقع عدد من الضحايا، وهو الأمر الذي أعاد للأذهان تعاطي شرطة النظام السابق مع المتظاهرين السلميين. الأمر الذي دفع المتحدث باسم "المجلس العسكري" إلى المسارعة للقول "إن للجيش رصيد يشفع له لدى الشعب" مقدما اعتذاره البالغ للضحايا ومتعهدا بعدم تكرار الأخطاء!
ويؤرخ المتابعون للوضع المصري انطلاقا من هذا التوقيت لبداية أزمة المرحلة الانتقالية، وضياع الفرص المواتية للانتقال السلس للسلطة.
وقد بدا واضحا منذ تلك اللحظة أن غياب الرؤية والإدراك الموضوعي لجثامة الوضع السياسي ومتطلباته في هذا الوضع الثوري المتفجر، قد دفع بالمجلس العسكري إلى اللجوء لجملة إجراءات يمكن عدها ضمن "الأخطاء القاتلة" التي وقع فيها المجلس الذي أدار المرحلة الانتقالية، ولعل أهمها لجوءه إلى اتخاذ تدابير "التعديل الدستوري" عبر لجنة لا تعبر عن التعدد الذي يزخر به المجتمع المصري، ولا عن روح ثورة يناير وأهدافها الرئيسية المتمثلة في التأسيس لجمهورية ثانية، من خلال إحداث قطيعة حقيقية مع النظام السابق، فعوض الذهاب إلى انتخاب "جمعية تأسيسية" لدستور نابع عن ضمير الثورة، تم اعتماد تعديلات جزئية لدستور 1971، في غياب توافق سياسي ومجتمعي يعبر عن الحالة القائمة بعد الثورة، وذلك من أجل مرور متعجل نحو الحالة الدستورية. التي ظلت تمثل كابوسا حقيقيا يرهق مضاجع القادة العسكريين الذين وجدوا أنفسهم أمام مشهد يجهلون تفاصيله الكاملة. وهي التدابير التي يصح فيها عاملي "إضاعة الفرصة الذهبية، وارتكاب خطيئة سياسية ودستورية" في آن.
وبصرف النظر عن تشكيل اللجنة المكلفة بإعداد مسودة "التعديلات"، التي غلب عليها تيار سياسي بعينه، يرأسها مستشار محسوب على التيار الديني ومحامي يتبع "جماعة الإخوان المسلمين"، فإن ما ظلت تؤكده الوقائع التالية، أن "المجلس العسكري" وفي سعيه الحثيث لتأكيد عزوفه عن السلطة التي لم يسع إليها، ومواجهة الضغوط الداخلية والخارجية المكثفة، من أجل الانتقال نحو الشرعية الدستورية، قد اختار ما رأى أنه الطريق الآمن أو الأكثر يسرا، من خلال تقديره أن القوة الوحيدة المهيئة للسلطة، والقادرة على حشد الشارع، نظرا لامتدادها الشعبي، هي "جماعة الإخوان المسلمين" مما دفعه إلى إقامة قنوات اتصال قوية معها، وفي الكثير من المناسبات الاسئناس لرؤيتها وقراءتها للأوضاع السياسية، وبالتالي التماهي مع أطروحتها الخاصة بالاستحقاقات التي تتطلبها المرحلة. فيما سعت "الجماعة" التي ظلت تتحين الفرص لأكثر من ثمانية عقود من أجل القفز على السلطة، إلى استثمار هذه اللحظة على أكثر من صعيد، فمن جهة تنصلت عن الأهداف التي يرفعها "الثوار" ومن الجهة الأخرى رافعت لصالح المجلس العسكري وضمنت له تأييد الشارع الذي بدا أنه متعاطفا مع الجماعة التي ظلت مستهدفة من النظام السابق.
أولى صفقات الإخوان مع المجلس العسكري تمثلت في اعتماد التعديلات الدستورية الجزئية، من خلال تجيش واضح للشارع سواء من خلال النشاط السياسي أو المنابر المسجدية، ساعد في ذلك التيار السلفي الذي قفز بدوره نحو المشهد السياسي بعد أن ظل "يرفض الانتخابات كوسيلة للحكم" و«يحرم الخروج على الحاكم" حتى أثناء قيام الثورة.
لتبدأ ما عرفت ب "غزوة الصناديق" التي نشط فيها التيارين الإخواني والسلفي بشكل متناغم، من أجل اعتماد "التعديلات" والتي تم فيها الترويج لأول مرة، وعبر منابر المساجد، فرضية "الإسلام والكفر" أو التيار العلماني اللائكي الدخيل، والتيار الإسلامي الأصيل، في غياب تام لضبط هذه التصورات المخلة بالصورة العامة لمصر ولتحديات الانتقال الديمقراطي.
وبدت هنا فرصة أخرى تضيع من أيدي المصريين الذين تطلعوا إلى "نظام مدني ديمقراطي" ليجدوا أنفسهم أمام تجيش غير مسبوق في تاريخ مصر، ينحو بهم نحو "ملامح دولة دينية" يتم فيها تمييز المواطنين على أساس التزامهم الديني، بل ويُكفر بعضهم وفقا لمدى تأييدهم لمشروع سياسي معين.
كما مثل هذا التوقيت علامة فارقة في تاريخ "جماعة الإخوان" التي ظلت تسوق نفسها لوقت قريب على أنها حركة إصلاحية مدنية، تسعى إلى تبني نظام ديمقراطي ذات طابع مدني ليبرالي. فهي في هذه المرة بدت أنها تتماهى مع أطروحات التيار السلفي، فعوض أن تقترب من القوى الليبرالية والاشتراكية والقومية. بدت أنها تميل يمينا حتى لا تترك المساحة واسعة أمام التيار السلفي الصاعد، الذي بدا أنه يزايد عليها، خاصة لدى الطبقة المحافظة التي ظلت مغيبة من التمثيل السياسي في الدولة إلى حد ما.
وهو ما يفسر تنصلها عن الالتزامات السياسية التي قطعتها على نفسها، منذ سقوط النظام والمتمثلة في عدم تقديمها مرشحين لأكثر من 30٪ من مقاعد مجلس الشعب (البرلمان) في الانتخابات التشريعية المقررة. حيث قررت بُعيد كسب معركة "التعديلات الدستورية" أن ترشح أعضائها لكافة الدوائر الانتخابية على امتداد البلاد، وذلك أمام تعاظم الشعور بالقوة لدى قيادتها في ظل ضعف القوى الأخرى التي بدت مشتتة ومتهمة بالعلاقة "المفترضة" مع النظام السابق، فضلا عن غياب التحالفات في مواجهة حشد الجماعة المعتمدة على الدعاية الدينية، والمظلومية التاريخية. في مجتمع يحاول نفض غبار أزمنة الفساد والاستبداد الذي جثم على صدره أمدا من الزمن. مما أتاح للجماعة كسب المعركة البرلمانية بأغلبية بسيطة. يليها التيار السلفي الذي حقق مفاجأة كبرى عبر حزبه الوليد (حزب النور) الوافد الجديد للحياة السياسية. حيث كان من الواضح أن المزاج الشعبي نحى كثيرا نحو اختبار "التيار الديني" غير المتورط في لعبة السياسية من قبل. سيما وأن أزمنة الفساد قد تركت آثارا بليغة في ذاكرة المصريين، ما جعلهم يقيمون مقاربة غير معقدة تربط بين نظافة اليد وعامل "التدين"!
وهو ما أخرج برلمان يسيطر عليه "التيار الديني"، بشقيه الإخواني والسلفي، الذي بدا للمرة الثانية أنه يعمل بتناغم، حيث قرر الإخوان أن ينحو مرة أخرى نحو اليمين وأقاموا تحالفا استراتيجيا مع السلفيين، (الخصوم الفكريين لهم) بل وقرروا إشاحة وجوههم للتيارات الثورية (ائتلافات الشباب الثوري والتيارات الأخرى)، معتبرين أن "الشرعية" انتقلت للبرلمان، وأن لا جدوى من وجود "الميدان" بل ووجدوا كل التبريرات المناسبة "للجرائم" التي ظل يرتكبها المجلس العسكري بحق "شباب الثورة" خاصة أثناء الموجة المتجددة للثورة في شوارع محمد محمود وميدان التحرير، وهذه إحدى الأخطاء الكبرى التي لن تغيب عن ذاكرة المتعاطفين مع الثورة. حيث سقط عشرات الشهداء أمام وزارة الداخلية على يد الشرطة. كما تمت محاكمات عسكرية للشباب الثائر، وكشف عذرية الناشطات وسحل بعضهن في الشارع مما هز ليس مصداقية المجلس الحاكم فحسب بل مصداقية السلطة التشريعية التي يسيطر عليها تحالف التيار الديني، الذي انحاز لرواية "العسكري"!
وفي ظل ارتهان قرارات "المجلس العسكري" لمشورة الإخوان، (أو العكس)، كان واضحا رضوخ "صانع القرار" إلى طرح "الانتخابات أولا" عوض البناء الطبيعي للانتقال الديمقراطي الذي يفترض "كتابة دستور جديد يعبر عن الجمهورية الثانية" مما جعل الأمور تسير بشكل عكسي لحركة التاريخ. حيث تمت الانتخابات البرلمانية في ظل دستور معدل بشكل جزئي. ثم الدعوة لانتخابات رئاسية في ظل البنية الدستورية ذاتها التي لا تعبر عن روح الثورة ومكتسباتها واستحقاقاتها. فضلا عن أن المحكمة الدستورية قد قضت بعدم دستورية الانتخابات التشريعية، وحكمت بحل البرلمان القائم.
عام ونصف بالكمال والتمام مضى في تخبط واضح وفي استحقاقات انتخابية في غياب بنية دستورية مناسبة، ليدخل المشهد من جديد في انتخابات الرئاسة، التي دفع فيها الإخوان مرشحين هما خيرت الشاطر (نائب المرشد وعرّاب المرحلة الإخوانية) ومحمد مرسي (رئيس حزب الحرية والعدالة- الذراع السياسية للجماعة) متجاوزين تعهدهم السابق بعدم ترشيح أي عضو منهم للرئاسة!
ومع خروج "الشاطر" من السباق لعدم استيفائه الشروط القانونية، بدا محمد مرسي هو مرشح الجماعة، في مواجهة بضع مرشحين من مختلف التيارات. ومن مفارقات القدر المصري أن التأهل للجولة الثانية من الانتخابات مرشح يوصف بأنه من النظام السابق، باعتباره آخر رئيس وزراء لعهد مبارك، وهو الفريق أحمد شفيق، ومرشح الجماعة محمد مرسي، ما وضع التيارات الثورية المصرية أمام خيارين أحلامها مُر. بين مرشح يمثل جماعة تسيطر على البرلمان وتدين التيارات الثورية في الميدان وتتنصل من استحقاقات الثورة، وآخر ينحدر من منظومة النظام السابق.
وأمام هذ االقدر العبثي لجأت الحركات والأحزاب الثورية (حوالي 53 حزب وحركة) إلى عقد اتفاق مع مرشح الجماعة حول "وثيقة العهد" التي تضمنت 7 بنود أساسية، تمثل التزامات الثورة أهمها إنجاز دستور توافقي، عبر تشكيل هيئة تأسيسية تضم كل الأطياف السياسية والمجتمعية، وإقامة تحالف حكومي واسع (حكومة إنقاذ وطني تتألف من الأحزاب والشخصيات الوطنية)، تعيين ثلاث نواب للرئيس، منهم نائب قبطي، ونائبة امرأة، وثالث من شباب الثورة إلى جانب التزامات أخرى وافق عليها مرسي، وتعهد في كافة تدخلات حملته الانتخابية، بإنجازها فورة انتخابه.
وبعد معركة حامية الوطيس، تمكن محمد مرسي بفارق بسيط جدا من كسب المعركة الانتخابية ليكون أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر الحديثة.
إلا أن إدارة الرئيس مرسي منذ توليه مقاليد الحكم، بدت أنها لا تقيم إعادة فرز بين مواقف جماعة الإخوان وبين كونه رئيسا لكل المصريين، حيث كان أول قرار اتخذه فور تسلمه مهام الرئاسة، هو إعادة "البرلمان المحل قانونا" ليخط أول تجاوز دستوري في تاريخ التجربة الديمقراطية في مصر. وهو القرار الذي لم يصمد طويلا.
مرة أخرى عاد مرسي ليحنث بيمين التزاماته مع الحركات الثورية، ومضى في تطبيق رؤية الجماعة، سواء على مستوى تشكيل الهيئة التأسيسية للدستور التي سيطر عليها التيار الديني بشكل كبير، ما دفع بالتيارات الأخرى بما فيهم الأزهر الشريف والكنيسة القبطية بالانسحاب من أعمال الهيئة، التي أضحت محتكرة بشكل كامل من قبل التيار الديني. ليكتب لمصر أول دستور يمثل طيفا واحدا من المجتمع في نقض لكل التعهدات السابقة. لتضيع مرة أخرى فرصة كانت سانحة لإعداد دستور يخطوا بالبلاد نحو إقامة جمهورية مدنية ديمقراطية.
إلا أن التجاوزات الدستورية للرئيس مرسي لم تتوقف عند هذا الحد، بل ذهب بعيدا هذه المرة بإصداره لإعلان دستوري (غير دستوري)، تضمن تحصين "قرارات الرئيس" من النقض القضائي، وتحصين الجمعية التأسيسية من الحل، وإقالة النائب العام في تجاوز خطير للدستور وتغول واضح على المؤسسة القضائية والإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات الذي يكفله الدستور المعدل. فضلا عن احتفاظ الرئيس بحق التشريع. وهو ما منحه سلطات شبه إلهية. ما أدخل البلاد في موجة ثورية جديدة كادت أن تعصف بحكم الرئيس، حينما تحركت ملايين الجماهير نحو قصر الرئاسة، ما دفع بالرئيس إلى التراجع عن بعض قراراته. لكنه في الآن نفسه، أكد بما لا يضع مجالا للشك أن الرئيس مرسي يمضي بشكل يؤسس نحو ممارسات استبدادية. فضلا عن إعادة طرح مدى استقلالية الرئيس عن تأثير الجماعة التي بدت أنها تمضي نحو "أخونة" مفاصل الدولة في إطار ما عرف ب "خطة التمكين".
لم يمض عام على تاريخ تولي محمد مرسي الحكم حتى كانت موجة ثورية ثالثة قد طرقت أبواب ميدان التحرير والميادين الأخرى على امتداد خارطة الوطن، في محاكاة تتجاوز عددا ونوعا مظاهرات 25 يناير، التي تحولت إلى ثورة حقيقية.
والمفارقة أن الدعوة للمظاهرات سبقتها حملة قوية وواسعة من قبل حركة شبابية عرفت بحملة "تمرد" تمكنت في فترة وجيزة من جمع 22 مليون توقيع لسحب الثقة من الرئيس المنتخب. قبل أن تحظى بتأييد قوى المعارضة خاصة جبهة الإنقاذ الوطني (التي تضم أكبر الأحزاب المعارضة)، وتدعوا لموجة ثورية جديدة، تصحح مسار ثورة يناير. وتحدد معالمها وأهدافها بسحب الثقة من الرئيس الذي فقد الشرعية (حسب رأيها)، وتحدد خطوات عملية تتضمن تمكين رئيس المحكمة الدستورية من إدارة المرحلة الانتقالية، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية، ومجلس أعلى للأمن والدفاع، إلى غيرها من التفاصيل الدقيقة التي تم تبنيها من قبل الحركة وقوى المعارضة قبل أن تهدر الملايين من الجماهير في الشارع مما دفع بوزير الدفاع إلى إصدار خطاب مسجل طالب فيه كل القوى الوطنية إلى التوافق خلال 48 ساعة، والاستجابة لصوت الشعب (حسب وصفه)، وإلا فإن القوات المسلحة مضطرة إلى تحمل مسؤوليتها الوطنية والتاريخية (حسب نص الخطاب) وهي الدعوة التي رفضها الرئيس وحزبه وحلفائه الإسلاميين، الذين أقاموا تظاهرات موازية بميدان رابعة العدوية.
ليأتي المشهد الأكثر درامية، الأربعاء الماضي، عندما قرر الجيش التدخل لإنفاذ خطة "تمرد" وعزل الرئيس محمد مرسي، بمشاركة عدد من ممثلي القوى السياسية المدنية وحركة تمرد وحزب النور السلفي، وكل من شيخ الأزهر والكنيسة القبطية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.