بقلم: فراس أبو هلال* مثل حزب النور السلفي بمصر منذ تأسيسه ظاهرة مثيرة للاهتمام في الساحة السياسية المصرية، وخصوصا بعد حصوله على المركز الثاني في الانتخابات وفوزه بأكثر من 25 بالمائة من مقاعد مجلس الشعب، على الرغم من قصر تاريخه الحزبي وحداثة عهده بالعمل السياسي المفتوح. وقد تزايد الاهتمام بحزب النور خصوصا بعد مشاركته بانقلاب 3 جويلية من خلال التوقيع على وثيقة خارطة الطريق التي قادها الجيش، حيث رأى البعض في الخطوة فرصة لاحتلال الحزب لموقع متقدم بديل لجماعة الإخوان المسلمين في السياسة المصرية، فيما رأى الآخرون في الحدث إساءة لموقع النور والتيار السلفي عموما، ومقدمة لتراجع شعبيته. فما هي أسباب الصعود السريع للحزب؟ وما هي احتمالات وسيناريوهات المستقبل لهذا الحزب؟ أسباب الصعود شكل حصول حزب النور على المركز الثاني في مجلس الشعب مفاجأة لبعض المراقبين، باعتباره حزبا جديدا لم يكن موجودا على الساحة السياسية قبل الثورة، ونظرا لما عرف من ابتعاد للتيارات السلفية بشكل عام عن العمل السياسي والبرلماني. ولكن دراسة تاريخ وواقع (الدعوة السلفية) التي أسست الحزب، يمكن أن يقدم تفسيرا علميا لهذا الصعود، لأن حزب النور لا يمكن أن يدرس بعيدا عن (الدعوة السلفية)، باعتبارها تشكل المرجعية الأيديولوجية و(الماكينة الانتخابية) للحزب، كما وصفها الناطق باسم الدعوة السلفية عبد المنعم الشحات في أكثر من مناسبة. لقد استند الحزب في صعوده إلى تاريخ الدعوة التي أسست في منتصف السبعينات في الإسكندرية، وعلى أجهزتها وهياكلها المتعددة التي مثلت مؤسسات للحشد والدعم الانتخابي للحزب الوليد، ومكنته من دخول عالم السياسة من أوسع الأبواب والاستفادة من ثورة يناير، على الرغم من الموقف المعلن لمنظري وشيوخ الدعوة السلفية برفض المظاهرات لتغيير الحكم إبان الثورة المصرية. وتتركز قوة الدعوة السلفية في مدينة التأسيس (الإسكندرية) ولكن مؤسساتها المختلفة الرسمية وغير الرسمية تتوزع في كل المحافظات المصرية، وهو ما شكل حاضنة انتخابية للحزب في انتخابات مجلس الشعب، وأهله ليفوز في عدد من المحافظات حتى على حزب الحرية والعدالة الذي حصل على أغلبية المقاعد على مستوى الجمهورية. ويشكل المسجد النواة الأولى للدعوة السلفية كغيرها من الحركات الإسلامية، وقد بدأت الدعوة فعلا من مسجدين من مساجد الإسكندرية قبل أن تنتشر في كافة أنحاء مصر، حيث يقيم شيوخ (الدعوة) علاقات مباشرة مع طلاب العلم ومع الناس الذين يرتادون المساجد للاستفادة من هؤلاء الشيوخ، ما يؤهلهم للتأثير بهم في الجوانب الشخصية الدينية، وفي المواقف السياسية والمعارك الانتخابية على حد سواء. وإضافة للمساجد، فقد أسست (الدعوة السلفية) معهد الفرقان لإعداد الدعاة، وهو معهد يقدم العلوم الدينية المختلفة على المنهج السلفي، وكان يستوعب حوالي 500 طالب سنويا حتى تم إغلاق المعهد في العام 1992 من قبل الحكومة، قبل أن يعاد افتتاح المركز الرئيسي للمعهد وعدد كبير من الفروع بعد ثورة يناير. وبالطبع فإن الدعوة السلفية التي خرجت من رحم العمل الجامعي، أولت اهتماما كبيرا بالجامعات، ما أهلها للتأثير في فئة مهمة من فئات الشعب المصري وهي الطلاب، كما أن الدعوة شكلت فرعا كبيرا يشرف على رعاية طلاب المدارس أطلقت عليه اسم (طلائع الدعوة السلفية)، ويعمل على إدارته جهاز يتكون من حوالي 1300 شخص. إن الاستعراض السريع لهذا العمل المؤسسي الضخم الذي تشرف عليه (الدعوة السلفية) وتطوره منذ تأسسيها وحتى اليوم، يهدف إلى تفسير الصعود السريع لحزب النور في الحياة السياسية المصرية، إذ أن الحزب اتكأ على تاريخ الدعوة السلفية الممتد لأكثر من ثلاثة عقود، وعلى مؤسسات عريقة تمثل أدوات للحشد السياسي والانتخابي لكل من (الدعوة) والحزب، لا يماثلها في مصر سوى العمل التنظيمي لجماعة الإخوان. بين الأيديولوجيا والسياسة استطاع حزب النور أن يخوض غمار السياسة ببراغماتية كبيرة، بعيدة عن الصورة التي حاول منظرو (الدعوة السلفية) رسمها للحزب على أنه حركة (أيديولوجية). فقد أقام الحزب منذ تأسيسه تحالفات سياسية مع أطراف مختلفة، وتنقل في مواقفه من الخصومة الشديدة مع بعض الأطراف في مراحل معينة، إلى التقارب أو التحالف في مراحل أخرى، ما يعني أنه مارس السياسة بحسابات سياسية دقيقة وباعتبارات أيديولوجية أقل. لقد أقام الحزب على سبيل المثال تحالفا انتخابيا نافس حزب الحرية والعدالة بشراسة في الانتخابات البرلمانية، ثم أجرى بعض المواءمات مع الحزب لتوزيع المناصب في لجان البرلمان، ثم وقف إلى جانب المرشح الرئاسي عبد المنعم أبو الفتوح في مواجهة مرشح الحرية والعدالة محمد مرسي، قبل أن ينتقل إلى تأييد مرسي في الجولة الثانية، وهي تنقلات تعبر عن قراءة سياسية مرنة للحزب. ولكن المسار الأكثر إثارة للجدل في علاقة النور مع الحرية والعدالة، هو تلك التبدلات منذ بدء كتابة الدستور وحتى الانقلاب، إذ توثق التحالف بين الطرفين في الموقف من تشكيل وأعمال الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، وازداد التحالف قوة خلال أزمة الإعلان الدستوري في نوفمبر الماضي، ثم عمل الطرفان جنبا إلى جنب في دعم التصويت لصالح الدستور في الاستفتاء الشعبي، قبل أن يتحول حزب النور في اليوم التالي لإعلان نتيجة التصويت على الدستور للهجوم الكثيف على سياسات الرئيس مرسي، واتهامه بأخونة الدولة. هذا الموقف استمر بشكل تصاعدي حينما رفض النور المشاركة في مظاهرات دعم الرئيس بمواجهة مظاهرات حركة تمرد، وحتى نقطة الانعطاف الأشد خطورة في تاريخ حزب النور القصير والتي تتمثل بمشاركته في توقيع خارطة انقلاب 3 جويلية. إن الحكم على هذه التبدلات ونقاشها بشكل موسع يحتاج إلى وقفات طويلة، ولكن ما يعنينا هنا أن الحزب كان قادرا على اتخاذ مواقف سياسية قد تبدو متناقضة مع بعضها البعض، ولكنه في الوقت نفسه كان يجد المبررات السياسية والأيديولوجية أيضا لشرح هذه المواقف. وهو ما يؤكد أن الحزب استطاع أن يخوض غمار اللعبة السياسية بكثير من الحسابات المصلحية وقليل من التفسيرات الأيديولوجية، وهو بذلك ينسجم مع منطق العمل السياسي (الواقعي). ويبدو هذا التحليل أكثر وضوحا في موقف النور من احتجاجات 30 جوان وانقلاب 3 جويلية وما تبعها من أحداث استطاع الحزب خلالها أن يخرج بأقل الخسائر على المستوى السياسي، ولكنه خسر فيها كثيرا على مستوى صورته كحزب إسلامي يمثل التيار السلفي، بعد أن اتخذ مواقف براغماتية بحتة، لم تنجح المبررات الأيديولوجية التي طرحها الحزب في إقناع قطاع عريض من مؤيدي التيار الإسلامي بصحتها من ناحية (السياسة الشرعية). احتمالات المستقبل ترى كثير من المقالات والتعليقات في الصحف الغربية أن حزب النور قد يكون أكبر الرابحين من التحولات السياسية التي رافقت الانقلاب، باعتبار أن الحزب سيتكرس بديلا لحزب الحرية والعدالة الذي يعاني من الانقلاب وارتداداته، خصوصا بعد الأداء (البراغماتي) المتقدم للحزب في الأحداث الأخيرة. ولكن هذه المقالات تغفل عن حقيقة مهمة وهي أن هذا الحزب ليس مجرد حزب سياسي، بل هو امتداد لجماعة دعوية سلفية، وأنه قد تأسس ابتداء لدعم هذه الدعوة وتنفيذ أيديولوجيتها الإسلامية عبر المشاركة السياسية، وهو ما يعني أن محاكمة أداء حزب النور لا تقتصر على القراءة السياسية الواقعية فحسب، بل إنها ترتبط أيضا بمرجعيات أيديولوجية وأخلاقية تقول الأحزاب الإسلامية إنها تلتزم بها. ولعل المتابع لتعليقات كثير من الإسلاميين سواء كانوا مستقلين أو أعضاء في أحزاب سياسية إسلامية، يجد أن محاكمة هؤلاء لمواقف حزب النور تستند بشكل كبير إلى أسس أخلاقية ودينية وأيديولوجية، دون إعطاء وزن كبير لحسابات الربح والخسارة في تحليل الموقف السياسي للنور. إن القراءة الأخلاقية والأيديولوجية من قبل مناصري التيارات الإسلامية لمواقف حزب النور تنزع إلى حد كبير إلى تجريم الحزب بسبب مشاركته في الانقلاب، وتتهمه بخيانة مرجعيته الإسلامية، وهو ما قد يمثل أزمة كبيرة في مسار الحزب المستقبلي، وذلك لأن هذه الصورة التي تتشكل للحزب تضعه في مواجهة مع قطاع عريض من جمهوره (الإسلامي) الذي لم يقتنع على ما يبدو بمبررات الحزب الأيديولوجية لمواقفه السياسية الأخيرة. وإضافة إلى أزمة النور مع التيار الشعبي (الإسلامي) فإن المسار السياسي الذي أعقب الانقلاب يضع النور و(الدعوة السلفية) في مأزق كبير، إذ تتهاوى يوما بعد يوم الأسباب التي قال الحزب إنه شارك لأجلها في الانقلاب. فقد سقطت فكرة منع إراقة دماء المصريين بعد استمرار حمامات الدم منذ 3 جويلية وحتى الآن، وها هي فكرة حماية مواد الهوية والشريعة في الدستور تتهاوى أيضا في أروقة (لجنة الخمسين) لكتابة الدستور المعدل. إن محاولة استقراء مستقبل حزب النور تتطلب الجمع بين حسابات الأيديولوجيا والسياسة، وهي حسابات تقود إلى توقع تراجع شعبية الحزب كثيرا بسبب الصورة المتشكلة في وعي جمهور الإسلاميين عنه، بغض النظر عن صحة هذه الصورة أو عدمها، إضافة إلى الآثار السلبية على الحزب نتيجة لسوء إدارة المسار الانتقالي بعد الانقلاب واستهدافه المباشر للتيار الإسلامي برمته. وقد يكون في قراءة تاريخ (الدعوة السلفية) درس مهم في استقراء مستقبل حزب النور، حيث فضلت (الدعوة السلفية) الامتناع عن العمل السياسي المفتوح منذ تأسيسها وحتى سقوط مبارك، لأن ثمن المشاركة كان أكبر من ثمارها حسب وصف الرجل القوي في (الدعوة السلفية) الشيخ ياسر برهامي. ولذلك، فإن من الممكن أن تصل (الدعوة السلفية) في المستقبل القريب إلى نتيجة مماثلة، يكون فيها ثمن المشاركة السياسية أكبر من نتائجها الإيجابية، وهو الأمر الذي قد يدفع (الدعوة السلفية) إلى مقاطعة العمل السياسي مجددا، وإلى إعلان نعي مبكر لحزب النور. * كاتب وباحث في شؤون الشرق الأوسط مقيم في لندن