لاشك أنها الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه العظام، لا يصح إسلام مسلم بدونها، بل ذهب بعض أهل العلم إلى كفر من لا يؤديها، مستشهدين بقول الله تعالى في سورة التوبة: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) فرتّب الأخوة الإيمانية على أداء الصلاة والزكاة، وقد قرن الله الزكاة مع الصلاة في أكثر من ثمانين موضعاً في كتاب الله. والزكاة هي النماء والطهارة والبركة وإخراجها طهرة لمال المسلم وقربة إلى الله عز وجل، والزكاة في الإسلام هى أول نظام عرفته البشرية لتحقيق الرعاية للمحتاجين والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، إذ يُعاد توزيع جزء من ثروات الأغنياء على الطبقات الفقيرة والمحتاجين. والزكاة طهرة لأموال المزكي وطهرة لنفسه من الأنانية والطمع والحرص وعدم المبالاة بمعاناة الغير، وهي كذلك طهرة لنفس الفقير أو المحتاج من الغيرة والحسد والكراهية لأصحاب الثروات. وتؤدى الزكاة إلى زيادة تماسك المجتمع وتكافل أفراده والقضاء على الفقر، وما يرتبط به من مشاكل اجتماعية واقتصادية وأخلاقية إذا أُحسن استغلال أموال الزكاة وصرفها لمستحقيها. لن أخوض في أحكام الزكاة فهذه مبسوطة في كتب الفقه ومواقع الإنترنت، لكن ما يهمني حقيقة في هذا المقال مناقشة ما أسميته بثقافة الزكاة، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمصارف الزكاة في الإسلام وهي بيت القصيد، فالله -عز وجل- يقول في سورة التوبة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:60]، ويمكن تسليط الضوء على هذه الأصناف الثمانية الواردة في الآية بشيء من الاقتضاب: الفقراء والمساكين: وهم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم. والمساكين قسم خاص من الفقراء، وهم الذين يتعففون عن السؤال، ولا يفطن لهم الناس، ويُعطى الفقراء والمساكين من الزكاة ما يسدّ حاجتهم، ويخرجهم من الحاجة إلى الكفاية. العاملون على الزكاة: وهم الذين يتولون العمل على جمع الزكاة ولو كانوا من الأغنياء، ويدخل فيهم الجباة والحفظة لها، والرعاة للأنعام منها، والكتبة لديوانها. المؤلفة قلوبهم: وهم الذين يُراد تأليف قلوبهم وجمعها على الإسلام أو تثبيتها عليه، لضعف إسلامهم، أو كف شرهم عن المسلمين، أو جلب نفعهم فى الدفاع عنهم. وفي الرقاب: ويشمل المكاتبين والأرقاء، فيُعان المكاتبون بمال الصدقة لفك رقابهم من الرق، ويُشترى به العبيد ويُعتقون. الغارمون: وهم الذين تحمّلوا الديون وتعذر عليهم أداؤها، فيأخذون من الزكاة ما يفي بديونهم. وفي سبيل الله: المراد المجاهدون في سبيل الله، فيعطون من الزكاة سواء كانوا أغنياء أم فقراء. ويُنفق من الزكاة على الإعداد للحرب وشراء السلاح وأغذية و احتياجات الجند. (وفي سبيل الله) هو مصرف عام يشتمل على كل ما من شأنه إعلاء كلمة الله. ويدخل فيها إعداد الدعاة وبناء المدارس والمساجد فى غير بلاد المسلمين، والنفقة على المدارس الشرعية وغير ذلك. وابن السبيل: وهو المسافر المنقطع عن بلده، فيُعطى من الزكاة ما يستعين به على تحقيق مقصده نظراً لفقره العارض. ولعل مفهوم أو ثقافة الزكاة في المجتمعات المسلمة ارتبطت لدينا بالفقراء والمساكين، وكأن الآية الكريمة لم تتحدث عن غيرهم حتى بات الواحد منا عندما يخرج زكاة ماله يبحث عن المحتاج من الفقراء والمساكين، دون أن يعرج على بقية الأصناف الثمانية الذين هم من أهل الزكاة، وهذا الفهم الخاطئ قد يكون إفرازاً مجتمعياً بربط مفهوم الزكاة بالحاجة، وربط الحاجة بالفقير والمسكين فقط، حتى بات المزكي يتحرج أحياناً إذا أخرج زكاة ماله لأسرة محتاجة أن يقول لهم هذا من الزكاة لما تلبّس هذا المفهوم من تشويه، حتى بات جزءاً من ثقافة العيب التي تحدثت عنها في مقال سابق. مفاهيم خاطئة تُرتكب في حق هذه الشعيرة العظيمة، من أهمها حصرها في طائفة معينة من المستحقين دون نظر أو اعتبار لبقية الأصناف. خذ على سبيل المثال لا الحصر (الغارمين)، وهم من أصناف الزكاة وهم من تحملوا الديون التي أثقلت كواهلهم حتى اسودّت الدنيا في وجوههم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، واعتراهم من الأمراض النفسية والعصبية ومن الهموم والأوصاب ما الله به عليم، ولو حققنا المفهوم الصحيح للزكاة لكان لهذا الصنف من أموالنا نصيب. ومن فضل الله علينا تنوّع الوعاء الزكوي، فجميع الأموال القابلة للنماء سواء كانت قابلة للنمو حقيقة أم تقديراً تعتبر وعاء للزكاة بشروط معنية، ومن يدخل ضمن هذا التعريف كل الأصول المالية سواء كانت منقولة أم ثابتة، و كذلك منافع الأصول المادية، وجميع ما يتم إنتاجه من السلع خلال السنة، إضافة إلى الثروة الحيوانية والأرصدة النقدية السائلة، وما يتراكم لدى الأفراد من معدني الذهب والفضة بأي شكل من أشكالها. وتتراوح نسب اقتطاع الزكاة من الوعاء الزكوي الذي تجب فيه بين 2,5 بالمائة إلى 20 بالمائة، فمثلاً تبلغ النسبة في النقود والذهب والفضة وعروض التجارة وإيرادات العقار 2,5 بالمائة من قيمة الوعاء، في حين نجد معدل الزكاة يرتفع في الإنتاج الزراعي ليكون ما بين 5 بالمائة إلى 10 بالمائة حسب تكاليف الإنتاج المستخدمة في الإنتاج، ولا يتجاوز معدل الزكاة نسبة 20 بالمائة في وعاء إنتاج السمك على سبيل المثال. كارثة سوق الأسهم التي أكلت الأخضر واليابس، ولم يسلم منها إلاّ القليل والتي أفرزت أنماطاً اجتماعية لم نألفها من قبل، فاكتظّت العيادات النفسية بالمراجعين، وسجلت بعض حالات الانتحار، وأصبحت فئات كثيرة من أفراد المجتمع مدينة للبنوك والأفراد بعد أن عصف السوق بأموالهم في انهيار مدمر أكل آمالهم وأحلامهم في تداعيات محزنة أليمة، ومشهد تراجيدي مؤثر. لك أن تتصور هذا الموظف الذي جمع ماله على مدار (20 أو 30) سنة، ثم دخل هذه السوق مدفوعاً بالثراء الذي يدغدغ أحلامه وتحليلات المختصين الماليين الذين رسموا المشهد باحتراف وتميز، وغرّروا (بقصد أو بغير قصد) بالآلاف المؤلفة في سباق محموم، حتى هوى من هوى، وتعثر من تعثر، وسقط من سقط. هؤلاء الخاسرون في سوق الأسهم يشكلون رقماً في المجتمع، ونرى ونعيش معاناتهم، ونسمع حكاياتهم، ونتعاطف مع أوضاعهم، لكن كل هذا لايكفي إن لم يكن هناك حل فاعل ناجع يضع الإصبع على مكمن الداء ليداويه، وهذا يتمثل في شعيرة الزكاة، وتحديداً في صنف (الغارمين). لماذا لا يكون هناك تنسيق تتولاه مؤسسة النقد العربي السعودي بالتعاون مع البنوك لجرد المديونيات قدر الإمكان، ومن ثم جمع أموال الزكاة من الموسرين، والتي تبلغ أرقاماً فلكية، وجدولة هذه الديون على فترة زمنية مناسبة بحيث تُسدّد هذه المديونيات من أموال الزكاة، وتزيح عبئاً كبيراً عن كواهلهم، ولعل العمل المؤسسي لمعالجة ضحايا الأسهم أخف وقعاً، وأدعى للقبول من العمل الفردي الذي تتحكم فيه نظرة المجتمع السلبية إلى مستحق الزكاة وتصنيفه. من هذا المنبر أتوجه إلى المسؤولين بتبني هذا الاقتراح وتفعيله ودراسة أنجع السبل لتحقيقه، وقطع الطريق على المنتفعين والقافزين فوق الأسوار، ودراسة وافية متأنية لطريقة تنفيذ هذا المقترح الذي أجزم بأنه سيكون له انعكاسات مجتمعية رائعة في القريب العاجل بإذن الله، وأقترح بهذا الخصوص إنشاء مؤسسة للزكاة تعمل بشكل منفرد أو تكون تابعة لمصلحة الزكاة والدخل، بحيث تُعنى بجباية الزكاة من أفراد المجتمع، وتعالج أوضاع المستحقين للزكاة، وبالأخص ضحايا سوق الأسهم بما يكفل حياة كريمة لهم، كما أتوجه إلى أصحاب المصارف التي أقرضت المواطنين عن طريق تسهيلات مالية أن يُعفى أصحاب القروض عن طريق اقتطاع ما عليهم من مستحقات مالية من الوعاء الزكوي لصاحب المصرف أو من زكاة المصرف وفق تنسيق وترتيب مع الجهات المختصة، كما أدعو أيضا إلى تلمّس وتحسّس أصحاب الديون ومحاولة رأب الصدع على مستوى الأفراد، وعلينا أن نسعى جاهدين ما أمكننا لتغيير ثقافة المجتمع تجاه هذه الشعيرة العظيمة، وأنها من أركان الإسلام العظام التي فُرضت لتبني مجتمعاً مسلماً متضامناً متكاتفاً متعاوناً لا تلهيه لقمة العيش عن غاية وجوده في الحياة، ولاتشتته الديون فتؤثر على صحته النفسية والجسمانية. علينا أن نشيع مفهوم الحاجة وأن مستحقي الزكاة ليسوا دائماً هم الفقراء والمساكين، فالمليونير المنقطع (ابن السبيل) قد يفقد مؤونته، فيُعطى من الزكاة بما يكفي لرجوعه إلى بلده ولا غضاضة في ذلك، فحريّ بنا أن نشيع هذا المفهوم الشرعي للزكاة الذي انحسر في صنفين من أصناف مستحقيها، وصلّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.