بقلم: فهمي هويدي إذا جاز لي أن أرشح عنوانا لعام 2013 كما خبرناه في مصر فإنني اختار أن أسميه عام الكراهية. أدري أن كثيرين تحدثوا عن الانقسام والاستقطاب الذي بلغ ذروته في مصر خلال العام الذي نودعه، لكنني أزعم أن ما شهدناه كان أعمق وأكثر حدة، بحيث يغدو الاستقطاب وصفا مخففا له. ذلك أن الانقسامات في أوساط الرأي العام أمر ليس مستغربا، وهو من تداعيات الاختلاف الطبيعي بين الأفكار والأقوام. لكنني لا أعرف في التاريخ المصري الحديث نموذجا تطور فيه الانقسام إلى كراهية يفضي إلى سحق الآخر واجتثاثه كهذا الذي نعيش في ظله الآن. وأعني بالكراهية ذلك القدر من تسميم الأجواء وقطع الأواصر مع الآخر، على نحو يستصحب شيطنته وتحويله إلى كيان أو كائن مرفوض، ليس سياسيا فحسب، وإنما اجتماعيا وإنسانيا أيضا. في التشخيص سنلاحظ أن رذاذ الكراهية أصاب الأقباط حينا، كما أصاب الذين اعتنقوا المذهب الشيعي حينا آخر، وهو أمر مخزٍ ومحزن يتعين ملاحظته واستهجانه بطبيعة الحال، لكن الكراهية التي مصدرها الخلاف في النظر السياسي كانت القاصمة، بمعنى أنها أحدثت الشرخ الأعمق في المجتمع المصري. وإذ أوافق على أن البلوى واحدة.. إلا أنني أزعم أن هذه الكراهية الأخيرة تفردت بثلاث خصوصيات هي: 1- أن وباءها انتشر بين أعداد كبيرة من البشر بحيث شمل قطاعات عريضة من العامة والخاصة من عقلاء القوم وأسويائهم، بينما الذين عبروا عن مشاعر البغض للأقباط والشيعة ظلوا أعدادا محدودة من المتعصبين والمهيجين والغلاة. 2 -أن مؤسسات الدولة وإعلامها ظلا محبذين ومروجين لكراهية المختلفين سياسيا، بينما كان معارضا لكراهية الأقباط والشيعة. وترتب على ذلك أن المؤسسات السياسية والأمنية ظلت متسامحة مع المسؤولين عن الحالة الأولى، لكنها تعاملت بحزم وشدة مع الحالة الثانية. 3 - أن أغلب القوى السياسية المدنية والمنابر الإعلامية كانت شريكة في تغذية ومساندة حملة الكراهية ضد المختلفين سياسيا، في حين أنها تبنت موقف المعارضة والاستهجان إزاء الإساءة إلى الأقباط والشيعة. لقد تمت استباحة كرامات وأعراض العدد المحدود من المثقفين الذين اختلفوا سياسيا مع الوضع القائم، سواء كان ذلك الاختلاف كليا أو جزئيا. ومن يتابع وسائل الإعلام المصرية خلال الأشهر الماضية يجد أن هؤلاء على قلتهم أصبحوا يصنفون ضمن العملاء أو الخونة أو الطابور الخامس، الأمر الذي دفعني إلى القول في مرة سابقة بأن الأمر بهذه الصورة بات يعنى أنه لم تعد في مصر معارضة وطنية على الإطلاق. ولا يقف الأمر عند حد التشهير بهؤلاء أو اغتيالهم معنويا، لأن موقفهم ذاك يكلفهم الكثير، من حيث إنه يترتب عليه منعهم من الظهور على شاشات التليفزيون ومنعهم من الكتابة للصحف، أما المنابر التي تسمح لهم بذلك في حدود معينة (مثل جريدة الشروق) فإنها لا تسلم من التشهير والابتزاز والضغوط السياسية والاقتصادية. يضاف إلى ذلك أنهم يلاحقون بتهمة انتمائهم إلى الإخوان رغم أن أغلبهم لم يكن لهم سابق علاقة بهم، بل كانوا لايزالون من معارضيهم. وباء الكراهية كانت له تجلياته في عمق المجتمع على نحو مدهش وغير مسبوق، حتى لا يكاد المرء يصدق عينيه حين يقرأ أن رجالا طلقوا زوجاتهم بسبب اختلافهم حول تأييد الفريق السيسي أو معارضته، وأن أما مريضة طلبت من ابنها الذي كان يزورها بألا يعودها مرة أخرى لذات السبب، وهو ما حدث أيضا بين الآباء والأبناء، وبين الأشقاء والشقيقات، فضلا عن صداقات العمر التي انقطعت وسكان البنايات الذين تخاصموا. حتى قرأنا ذات مرة أن بعض السكان أرادوا أن يبلغوا الشرطة عن وجود أسرة إخوانية تقطن شقة في بنايتهم (باعتبارها خلية نائمة). وتوازى ذلك كله مع صدور قرارات إدارية بتطهير مؤسسات الدولة من الإخوان، وإشارة الصحف بين الحين والآخر إلى إلقاء القبض على أناس لمجرد انتمائهم للجماعة. وفي هذه الأجواء لم يكن مستغربا أن يبادر مدير مدرسة بإبلاغ الشرطة عن تلميذ وُجدت معه (مسطرة) عليها إشارة رابعة، وأن تقرر النيابة احتجاز التلميذ ثم إطلاق سراحه بعد أيام بكفالة قدرها 500 جنيه. كل ذلك في كفة، وتحول الكراهية إلى اعتداءات على البيوت والممتلكات أسفرت عن تهجير البعض واضطرارهم إلى الانتقال إلى بلدات أخرى في كفة أخرى. وكنا قد سمعنا عن حملات أدت إلى تهجير بعض الأقباط من قراهم في أعقاب مشاحنات معينة، وأثارت الرأي العام في حينها،بحيث لم يهدأ غضبه إلا بعدما تضافرت الجهود لحل الإشكالات وعودة الأمور إلى سابق عهدها، إلا أن عمليات التهجير والاعتداءات التي تمت خلال الأشهر الأخيرة جرى التكتم عليها ولم يسمع بها أحد. لا يوجد حصر لما أسفرت عنه تلك الحملات، لكن ما أعرفه أنها بلغت ذروتها في محافظة المنوفية التي يتردد أنها محافظة (الفلول)، وقد وقعت فيها الحوادث التالية: في بلدة بركة السبع تم إحراق محلات التابعي التي يحتل أحدها طابقين في إحدى البنايات وإلى جوارها ثلاثة محلات أخرى أتت النيران عليها جميعا والتهمت بضائع قدرت بخمسة ملايين جنيه، فضلا عن أنها أدت إلى تشريد 350 عامل، علما بأن صاحب هذه المحلات ليس من الإخوان، إلا أن أحد أبنائه عضو في الجماعة. وفي بلدة الشهداء تم إحراق مول (سندس) الكبير الذي يحتل خمسة طوابق في إحدى البنايات، لأن صاحبه من الإخوان. في مدينة السادات أحرق مكتب المهندس أ.ح، عضو مجلس الشعب السابق، وفي أشمون أحرقت ونهبت عيادة أحد أطباء الرمد كما أحرق معمل أشعة في المدينة. في كفر المصيلحة نهب وأحرق منزل المواطن ن. ع، وفي قويسنا أحرق ونهب منزل رجل الأعمال ح. ن، وفي شبين الكوم نهبت محتويات مكتب للمحاماة يملكه عضو سابق في مجلس الشعب. كما أشعلت النيران في مطعم (مؤمن)، وتكرر ذلك مع أكبر محل لبيع الأحذية في المدينة، ومن المضحكات المبكيات أنه تم إحراق محل (إخوان عرفة) لمجرد أن الكلمة وردت في اسم المحل، الذي لم يكن لأصحابه علاقة بالجماعة. ما حدث في المنوفية تكرر في محافظات أخرى بما لا يتسع المجال لذكره، لكنني على سبيل المثال أشير إلى أنه في بلدة فاقوس بالشرقية أحرقت ونهبت صيدلية الدكتور ف. أ، وفي بلدة ههيا بالمحافظة ذاتها هوجم مكتب شركة المقاولات التي يملكها المهندس د.ض وسرقت خزينته، وفي التل الكبير أحرق بيت وسيارة مهندس مقاولات شهير بالمدينة.. إلخ. لم يلق القبض على أحد من الفاعلين في هذه الحملات، التي لا أشك في أن الأجهزة الأمنية على علم بها وتعرف عنها أكثر مما يعرف واحد مثلي، وهذا الصمت الأمني رتب صمتا إعلاميا مشهودا، حيث جرى كل ذلك دون أن يسمع به أحد. إدراك ما جرى مهم، لكن تفسيره أهم، وإذا كنت قد غامرت بإطلاق وصف عام الكراهية وترشيحه عنوانا لعام 2013، إلا أنني أزعم أن تفسير تفشي الظاهرة يحتاج إلى حوار يسمع فيه صوت أهل الاختصاص من رجال التحليل الاجتماعي السياسي، وإلى أن يحدث ذلك فإنني أستأذن في أن أبدى رأيا في الظاهرة، ألخصه في النقاط التالية: - يمثل موقف السلطة السياسية والمؤسسة الأمنية ملمحا مهما في المشهد، ذلك أن الخطاب السياسي والأداء الأمني اتبع منهجا ضيق الصدر إزاء المعارضة عموما، وكان استئصاليا في التعامل مع الإخوان والتيار الإسلامي خصوصا. وفي رأى المستشار طارق البشرى أن إرهاصات التوجه الاستئصالي لدى السلطة ظهرت في عام 1984، حين استشعرت أن الإخوان يمكن أن يشكلوا تهديدا لها حين تحالفوا مع حزب الوفد وقتذاك وتم انتخابهم في مجلس الشعب، فعمدت منذ ذلك الحين إلى تخويف المجتمع منهم وتأليبه ضدهم. - عبرت وسائل الإعلام بتأثيرها الهائل عن ذلك التوجه الاستئصالي باستمرار التعبئة والتحريض، الأمر الذى حوّل حملة الكراهية إلى إعصار أطاح بكل مقومات التوازن والنظر المنصف. وبينما حجبت تلك المنابر أصوات الرأي الآخر، فإن بعضها ذهب إلى أبعد في التحريض والتهييج، وثمة تسجيلات لبعض مقدمي البرامج التلفزيونية الذين دعوا الجماهير إلى تعقب الإخوان ومقاطعة محلاتهم التجارية (في بورسعيد مثلا)، وطول الوقت كان البث الإعلامي يعمل على شيطنة الآخر وتصويره بحسبانه شرا يجب قمعه والقضاء عليه. - هشاشة وتشوه الثقافة السياسية في المجتمع المصري، ذلك أنه حين عطلت الديمقراطية وتم حل الأحزاب منذ خمسينيات القرن الماضي فإن الناس هجروا السياسة واستقالوا منها. لكن الأغلبية الساحقة إن لم يكن الجميع عادوا إلى السياسة بعد ثورة 2011، فدخلوا إليها بغير خبرة أو تراكم معرفي، وظلت وسائل الإعلام هي المرجع والباب الذى تعرفوا منه على السياسة، الأمر الذى نقل إلى المجتمع تحيزات وتشوهات الأداء الإعلامي، فغرس في الوجدان العام بذور القابلية للبغض والكراهية، التي تجلت ثمارها في الآونة الأخيرة. - لأن أداء حكم الإخوان لم يكن ناجحا وبعض سياساتهم أشاعت قدرا من الاستياء والنفور فإن ذلك شكّل تربة مواتية للاصطياد والمبالغة، سواء من جانب الجماعات السياسية المنافسة أو من جانب وسائل الإعلام المتربصة والمدعومة من جانب قوى مؤثرة وقادرة محليا وإقليميا. - أسهم تحالف الإخوان مع المجموعات الإسلامية -السلفية خصوصا- في تخويف الناس، وكان من أسباب إشاعة الاستياء والنفور، وظلت القنوات الدينية أحد مصادر التخويف، بجنوحها إلى التشدد وإثارتها قلق الناس على مستقبل نمط حياتهم وحرياتهم الشخصية. - حين استعانت المؤسسة الأمنية بمجموعات البلطجية لتفريق المتظاهرين وترهيبهم، فإنها قدمت نموذجا في حسم الخلاف السياسي من خلال أساليب البلطجة، التي استلهمها الذين هاجموا المقرات والممتلكات ونهبوا أموال معارضي النظام، وبسبب التجاهل الأمني والتكتم الإعلامي فإنه لم يتسن لنا أن نعرف شيئا عن هوية المهاجمين ومدى علاقتهم بالأجهزة الأمنية. هذه الكراهية التي يجرى الترويج لها صباح مساء في مصر لا تصنع سلما أهليا ولا تهيئ الأجواء للاستقرار، كما أنها تنسف أسس الوفاق الوطني الذى أصبح مجرد الإشارة إليه سُبَّة في جبين المتكلم، وأمرا مشينا يستهوله (شبيحة) التحريض وسدنة الكراهية. ليس ذلك فحسب، وإنما تعد تلك الممارسات بمثابة جرائم ضد الإنسانية، بمقتضى القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتنطبق عليها المادة 20 من العهد الدولي لحقوق الإنسان التي تحظر بالقانون التحريض على الكراهية والعنف، ولا تحاسب في ذلك الفاعلين وحدهم ولكنها أيضا تحاسب الدولة إذا ما قصرت في وقف حملات الكراهية أو حبذتها. وقد نبهني إلى ذلك أحد خبراء مفوضية الأممالمتحدة السامية لحقوق الإنسان في جنيف، الذى أبدى دهشته ذات مرة من رياح الكراهية التي باتت تهب على مصر كل صباح من خلال التصريحات السياسية والمنابر الإعلامية المختلفة، وقال إن الأمر إذا وصل إلى المحافل والمحاكم الدولية فسوف يكون لها معه شأن آخر وحساب عسير. إذا سألتني ما العمل، فردي أننا يجب أن نعترف أولا أننا بإزاء أزمة تهدد حاضر ومستقبل الجماعة الوطنية المصرية، لكي نناقش بعد ذلك كيفية حلها، ومالم يتم الاعتراف بالمشكلة كما هو حاصل الآن، فإن الحديث عن حلها يصبح بلا جدوى.