بقلم: رشيد يلوح اعتقلت السلطات في طهران قبل أيام رجل الأعمال الإيراني بابك زنجاني، وذلك على خلفية تقرير برلماني كشف عن تورطه في قضايا فساد مالي واقتصادي تتصل ببيع النفط الإيراني والتحايل في تحويل مبالغ مالية ضخمة للبنك المركزي. جاء اعتقال من يوصف بإحدى أقوى الشخصيات الإيرانية الاقتصادية في ظرف تسعى فيه حكومة روحاني إلى إسعاف الأوضاع الداخلية وإعادة تأهيل نظام الجمهورية الإسلامية على المستوى الدولي، فما هي خلفيات هذا الاعتقال وتداعياته المحتملة؟ من هو بابك زنجاني؟ تشير المصادر التي اهتمت بالصعود السريع لشخصية بابك زنجاني (ولد سنة 1971) إلى أنه بدأ حياته المهنية بالعمل في وظيفة صغيرة بالبنك المركزي الإيراني، مما فتح الباب أمامه لولوج مجال الوساطة المالية وتجارة العملات، لينتقل بعد ذلك إلى بيع جلود المواشي وتصديرها إلى الخارج. وهكذا بدأ زنجاني نفوذه إلى النظام الاقتصادي الإيراني ليصبح بعد سنوات صاحب أربع وستين شركة منتشرة في إيران والإمارات وتركيا والعراق وماليزيا ودول أخرى، ويشتهر كأحد كبار رجال الأعمال الإيرانيين النشطين في مجال الخدمات المالية والتأمين والنقل الجوي والوساطة الدولية في بيع النفط الإيراني. توسُّع أنشطة زنجاني وقربه من دوائر صنع القرار في طهران جعلاه محط اتهامات متعددة، كان أبرزها اتهامه من طرف الإدارة الأميركية في أفريل 2013 بخرق قوانين الحظر الاقتصادي الغربي ضد إيران، وذلك من خلال تورطه في عمليات غسيل أموال ضخمة لصالح الحكومة الإيرانية. وفي الإطار ذاته، اتهمته تقارير أميركية أخرى بكونه مجرد غطاء لذراع الحرس الثوري الاقتصادية في الخارج. وداخل إيران برز اسم بابك زنجاني بعد الفيديو الذي عرضه الرئيس السابق أحمدي نجاد داخل البرلمان الإيراني في فيفري 2013 كدليل على تورط شقيق رئيس البرلمان في أنشطة فساد، وما تلا ذلك من اتهامات وشكوك بشأن دور زنجاني في قضايا تهريب وفساد مالي، وعلاقته بشخصيات أمنية وسياسية إيرانية. أزمة الحكومة التركية برز مرة أخرى اسم بابك زنجاني بقوة مع تفجر أزمة الحكومة التركية، إذ ورد اسمه في تقارير إعلامية تتهمه بإدارة شبكة إيرانية تركية متورطة في خرق الحظر الغربي ضد إيران، وذلك بنقل مبالغ مالية وكميات ضخمة من الذهب بين إيرانوتركيا. وتؤكد تلك التقارير أن رجل الأعمال الإيراني علي رضا ضراب والمتهم رسميا في تركيا بالضلوع في ملفات فساد مالي هو منسق أعمال ومشاريع زنجاني في تركيا، وهو حلقة الوصل أيضا بين زنجاني وشخصيات ومؤسسات اقتصادية ومالية تركية. ومع تأكيد بابك زنجاني أكثر من مرة أن أنشطته الاقتصادية والمالية شفافة وتحترم كل القوانين والقرارات الدولية، وفي ظل تعقد ملف الأزمة التركية الحالية وغياب معطيات دقيقة وموثوقة عن حدود وطبيعة الدور الإيراني فيها، يبقى المؤكد هو أنه كان بالفعل عاملا أساسيا في إنعاش وخدمة الاقتصاد الإيراني المحاصر من خلال عمليات تجارية ومالية كبيرة. لكن هل تبرر هذه الخدمات الحيوية السماح باستمرار وضع تراه حكومة روحاني غير سليم في مرحلة إصلاحات يراد منها إخراج البلاد من عنق الزجاجة؟ رسائل من روحاني من الواضح أن اعتقال بابك زنجاني لم يكن قرارا برلمانيا فحسب، بل كان على الأرجح نتيجة توافق مشترك بين المرشد والبرلمان والحكومة، وليس مستبعدا وجود ضوء أخضر من الحرس الثوري الذي اتهمه بالعمل لصالحه في الخارج. وعلى ما يبدو يمثل هذا التوافق تجسيدا لعنوان المرحلة التي يقودها روحاني وترفع شعار الاعتدال والوفاق الوطني من أجل إنقاذ البلاد من مخاطر حقيقية، وقد رأينا بوادرها الأولى في العملية الانتخابية التي أفرزت فوز روحاني وفي تشكيلته الحكومية ومشروعه التقاربي مع الغرب والولاياتالمتحدة الأميركية تحديدا. وفي اعتقادي يحمل اعتقال الرجل الاقتصادي المثير للجدل داخل إيران وخارجها ثلاث رسائل أراد حسن روحاني توجيهها إلى من يهمهم الأمر، وهي: أولا: بعد بروز اسم زنجاني في أكبر ملف فساد فجر الأزمة التركية، أراد روحاني أن يستبق الأمر ويحاصر تداعياته المحتملة على العلاقات الإيرانية التركية المتعافية أخيرا، فاعتقال الرجل سيمنع خروجه من إيران ويضمن التصرف مع ملفاته بما لا يضر بالمصالح الاقتصادية والسياسية الإيرانية، ويثبت في النهاية للجار التركي أن الحكومة الجديدة تستحق أن تكون طرفا مناسبا لتعميق التنسيق والتعاون في ملفات ثنائية وإقليمية حاسمة. ثانيا: تحدث حسن روحاني مرارا عن وجود جهات معينة داخل إيران تستفيد من استمرار العقوبات الاقتصادية الغربية ضد البلاد، وهو يقصد بالطبع المستفيدين من هوامش الربح التي تدرها عليهم أنشطة الوساطة المالية والاقتصادية مع الحكومة، أو ما يراكمه بعضهم من ثروات خيالية مقابل خدماتهم المتنوعة في التحايل على العقوبات الدولية ونقل الذهب والأموال إلى إيران، أو في إدخال بعض السلع والبضائع بطرق غير قانونية تحرم الحكومة من منابع مالية كبيرة، وهذا يشمل بالطبع الأنشطة المالية والاقتصادية للحرس الثوري والمؤسسات التابعة للمرشد علي خامنئي. ورغم حرص روحاني على ترسيم حدود حركته وعدم الاصطدام مع مصالح المركزين الأخيرين، فهو يرغب في استعادة الحد الأدنى من الاعتبار لمؤسسات الدولة الاقتصادية، وإدخال ما يستطيعه من الأنشطة المالية والاقتصادية ضمن الرقابة الحكومية، وهذا من أهم التحديات التي فشل أحمدي نجاد في كسبها بعدما اصطدم بشكل مباشر مع الحرس الثوري متهما إياه بالتهريب وممارسة الأنشطة الاقتصادية بعيدا عن القانون وأعين الرقابة الحكومية. من المحتمل أن يكون هناك تفاهم بين روحاني والحرس الثوري على حدود معينة من السياسات التي لن تضر بمصالح الطرفين، وقد برز هذا التفاهم عندما دعا روحاني الحرس الثوري إلى الاستمرار في أداء دوره الاقتصادي الوطني، على الرغم من أن هيمنة الحرس على الاقتصاد كان ولا يزال مرفوضا من طرف خبراء وسياسيين. ولاشك في أن هذا المنهج الواقعي هو ما يقصده روحاني بالاعتدال في السياسة الاقتصادية داخليا، أي أن يتم الاعتراف والإقرار بالأمر الواقع مع تحقيق حد معين من الأهداف يضمن إخراج الوضع الاقتصادي من انسداده. فمع تأكيده على مساهمة تدهور السياسية الخارجية في تأزيم الأوضاع، يؤكد روحاني أيضا أن الفساد الاقتصادي المستشري في المؤسسات الاقتصادية الحكومية والخاصة له بدوره سهم في عرقلة التنمية وإضعاف المجتمع. ثالثا: حكومة حسن روحاني هي حكومة إنقاذ وطني، وكان واضحا أن وظيفتها الأساسية هي إعادة تأهيل الوضع داخليا وخارجيا، لذلك كان شعار الاعتدال الذي رفعه روحاني الكلمة المفتاح في كل سياساته. فإذا كان الاعتدال داخليا هو تجنب المواقف المتطرفة، والاستفادة إلى أقصى الحدود من تجارب السابقين رفسنجاني وخاتمي ونجاد، فإن الاعتدال في السياسة الخارجية يعني بالدرجة الأولى الإنصات لمطالب القوى الدولية، لاسيما الولاياتالمتحدة الأميركية التي تذكِّر طهران في كل مناسبة بقائمة من العناوين التي تنتظر بشأنها ردودا عملية. وفي اعتقادنا يحقق اعتقال بابك زنجاني أحد المطالب التي سبق للإدارة الأميركية أن رفعتها أمام طهران، فالرجل متهم أميركيا بخرق قوانين العقوبات الدولية والعمل لصالح الحرس الثوري. التهم الموجهة له طبعا في إيران لا تتحدث عن دوره في خرق قوانين العقوبات الدولية وعلاقته بالحرس، لكن اعتقاله سيطمئن الأميركيين من جهة، وربما قد يؤثر سلبا في أنشطة الحرس الثوري المالية خارج إيران، وهذا ما تسعى إليه واشنطن باستمرار. ومن جهة أخرى، سيثبت لهم أن بإمكان حسن روحاني أن يكون مخاطبا جديرا بالثقة في إيران، وأنه حتى الآن ما زال يثبت أن لديه صلاحيات حقيقة تفوق صلاحيات سابقيه. فابتداء بتعيينه محمد جواد ظريف على رأس وزارة الخارجية وتكليف هذه الأخيرة بمهمة المفاوضات النووية، ومرورا بمنعه تنظيم المؤتمر الدولي المناهض للصهيونية في طهران، إلى مكالمته الهاتفية مع الرئيس أوباما، كلها محطات ظهر فيها الرجل جادا في بناء الثقة مع الطرف الأميركي. الفساد في إيران يؤكد حدث اعتقال رجل الأعمال الإيراني بابك زنجاني أن الفساد الاقتصادي والمالي لا يزال يمثل عقبة حقيقية أمام أي مشروع إصلاحي في إيران، بل يؤشر على احتمال وجود تحول نوعي وخطير في معضلة الفساد الإيرانية، هو انتقالها إلى محيطها الإقليمي، مما يرجح إضافة مشكلة أخرى إلى باقي المشاكل العالقة بين طهران وجيرانها. وتؤكد التهم الموجهة إليه قاعدة تحكم ملفات الفساد داخل إيران، وهي أن معظم أبطال ومتهمي ملفات الفساد الاقتصادي والمالي ينحدرون من محيط النظام الحاكم، أو لهم علاقات متشابكة مع رجال نافذين في الحياة السياسية والدينية، ما شكل نتيجة طبيعية لسيادة ثقافة الريع والزبونية لإيديولوجية ولاية الفقيه، وضعف قوانين النظام المالي القائم. وقد كان تصريح عضو البرلمان الإيراني علي رضا زاكاني السنة الماضية مؤشرا خطيرا في هذا الاتجاه، وذلك عندما صرح بأن الفساد قد انتشر في كل هياكل نظام الجمهورية الإسلامية. ويبدو الرئيس الإيراني حسن روحاني -بدوره- مدركا لخطورة التهديد الذي يشكله استشراء الفساد في هياكل الدولة، إذ خصص فصلا كاملا من كتابه (الأمن القومي والنظام الاقتصادي الإيراني)، مقترحا الإصلاح السياسي مدخلا لمواجهة الفساد، فبرأيه ينبغي لأي سياسة تريد أن تواجه الفساد المالي والاقتصادي أن تنطلق من الأخلاق والشفافية والمنافسة السليمة والمشاركة الشعبية ونجاعة السلطتين التشريعية والقضائية. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بقوة هو هل سينجح روحاني في سياسته ضد الفساد المالي والاقتصادي؟... * باحث مغربي متخصص في الشأن الإيراني -بتصرف-