ثقافة القسوة إحدى ملامح التفكير في بعض الرؤى الدينية وهي لا تتفق مع المنهج النبوي الذي يتسم بالرفق واللين واليسر وبين الفينة والأخرى تظهر فتاوى وخُطَب تتسم بهذه الثقافة وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة حِينَ أُتِيَ بِابْنَةِ زَيْنَبَ وهي تحتضر فَقَالَ رَجُلٌ : تَبْكِي وَقَدْ نَهَيْتَ عَنِ الْبُكَاءِ، فَقَالَ: (إِنَّمَا هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ منْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ). وملامح الحب والرحمة والرفق واليسر والسماحة في الدين واضحة وأمثلتها كثيرة جداً ولكن من يطبق هذا المنهج ومن يأخذ بهذا الجانب السمح من الشريعة السمحة؟ ولكن يلحظ في بعض مناهج الخطاب الديني التركيز على جانب الشدة وأحاديث اللعن والتكفير والهجر والترهيب مع إن نصوص القرآن تقرن بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب في موازنة قل نظيرها في مناهج التفكير وفي السنة النبوية أمثلة رائعة للسماحة والحث على التيسير والتبشير وعدم التنفير ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)) والدعوة إلى الاعتدال وعدم الغلو. بل جعل سبب هلاك الأمم من قبلنا هو هذا المنهج الذي يتصف بالقسوة والشدة والعنف والغلو ((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا أُهْلِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ)) وتتسم بعض الرؤى الدينية برؤية قاصرة تعتمد على وجه واحد من أوجه التفسير الديني للنص ذلك إن ملامح القسوة تتجسد لدى بعض المنظرين أو المتحدثين باسم الدين والخطباء بينما كان المنهج النبوي يختلف جذرياُ عن تلك الرؤى القاصرة. فحتى مواطن الشدة والقوة كالجهاد مثلا كانت الرحمة هي التي يحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم بالدين من الضرورة تحريم قتل النساء والصبيان وكبار السن ولما جاء أسامة بن زيد وقد قتل أحد الذين أعلنوا الشهادة نهره النبي صلى الله عليه وسلم نهراً شديداً وقال منكراً عليه ((أشققت عن قلبه)) مع إنه لم يكن مؤمناً والقرينة عند الصحابي أنه لم يقلها إلا لما رأى السيف ومع هذا كانت الرحمة هي التي تقدَّم للناس وحتى في مواطن العقوبة كعقوبة الزنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للزاني ((لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت)) ويلقن ماعزاً التوبة وحين رُجم آلمته الحجارة فهرب فلحقوه ورجموه قال النبي صلى الله عليه وسلم ((هلا تركتموه فلعله يتوب فيتوب الله عليه)). ولما جيء بشارب خمر قال النبي صلى الله عليه وسلم للذين شتموه (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) والأمثلة أكثر من أن تحصر من نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. ولدعاة الخطاب الذي يتسم بالشدة والقسوة نقول رفقاً بالأمة وامتثلوا لو قليلاً من هدي الإسلام دين الرحمة والرأفة والسلام وليس دين القسوة والقهر والظلم. ويلحظ المتابع إنه يغلب على بعض مناهج التفكير لدينا فكر التخويف والتنفير من الدين وتتجلى القسوة في كثير من ملامح الخطاب الدعوي مما جعل كثيراً من الناس ينفرون من الدين والمتدينين بسبب تغليب جانب القسوة على جانب الرحمة واللين وهو خلاف النهج القرآني في الدعوة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (159 آل عمران). وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ((عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، فَإِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ))، ((إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ))، ((مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ))، ((إنما بعثتُ رحمةً ولم أُبعث عذاباً))، وفي رواية ((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا)). وعن أبي هريرة _رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: ((بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا وهو الخُف فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ)). وفي المقابل روى البخاري وغيره عن ابن عمر _رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم-: ((دخلت امرأة النار في هرة، حبستها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)). وروى البخاري في صحيحه أيضاً عن أبي هريرة _رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم- يقول: ((قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ اللَّهِ؟)) وفي رواية أخرى في الصحيحين: ((فهلا نملةٌ واحدة؟)) حتى النملة شملتها الرحمة الربانية في سمو عظيم شمل الإنسان والحيوان وكل ما في الوجود بحب ورحمة ويسر وسماحة. * عن موقع الإسلام اليوم -بتصرف-