زكية عياش شاعرة جزائرية،قادها القدر إلى الإستقرار في فلسطين،لكن الجغرافيا و الحدود المرسومة بعشوائية على خارطة العالم،لم تتمكن من قطع حبال الود بينها وبين بلدها وبالتحديد بينها وبين قسنطينة،هذه المدينة الأسطورية التي لازالت مرتبطة بها بحبل سري،فهي التي تمدها بالحياة والإبداع ولازالت سببا في غزارة إنتاجها الشعري الذي يتدفق من قريحتها كشلال لا يفتر، بلغة رقيقة وحالمة.في هذا الحوار الذي أجرته «آخر ساعة» معها،تجيب صاحبة»سماء الغوابات» على الأسئلة التي أثارت فيها شجونا وذكريات،مع الإنفراد بآخر أخبارها. 1- زكية عياش موزعة مشاعريا وشاعريا ما بين قسنطينةوفلسطين،وبين هذين المكانين تستتر قصة الإغتراب التي تبعث الأسئلة من مراقدها،فما هي قصة انتقالك من عشقك الأبدي قسنطينة إلى بلد الزيتون فلسطين؟ * بداية بودي أن أشكرك «آخر ساعة» على استضافتي و فتح دفاتر القلب كي أجنح بعيدا عن ديار الغربة ، و أحط على أفنان وطني، وددت لو كان اللقاء مباشرا، لكنها الجغرافيا التي تقوم دائما حائلا بين القلب و شرايينه. شكرا لمساحة الدفء هنا. تسألني عن قسنطينة....؟ هل تاب أوديسيوس عن حب إثيكا - قريته الأم- ؟ و هل تلك شمس وجدت كي تختفي من قارات الروح...؟ كلما تفقدتها على مرايا القلب ازددت شوقا إلى أن أكتب عن كل شبر عبرته خطاي ابتداء من القصبة و نزولا عند رحبة الصوف و رحبة الجمال و السويقة و الجسر المعلق.... هي مدينة /ذاكرة..! و مهما تحدثت عنها فلا حدود فاصلة تصف لغة الشوق لها....أشعر أنها أكبر من لغتي و أوسع من محابري. ربما ما يميز الغربة هو اكتشاف الإنسان لذاته، تعرفت على نفسي أكثر من خلال وحدتي و مدينة عمان هي وحدها من تعرف الشيء الكثير عني، حين حطت بي الطائرة ذات شتاء قارص ، بمطارها، يومها كان الوطن يقطع شرايينه و يمتص دم أبنائه ، ما اخترت المملكة الأردنية طوعا لكنها كانت أقداري التي ساقتني إلى أن أرتبط بفلسطيني مقيم بالأردن و كانت البداية......! 2- إذا طلب من زكية عياش أن تعرف بنفسها في جملة واحدة فماذا تقول؟ * أنا عكس ما قال نزار قباني...( أكتب لأنني لم أجد طريقة أفضل للإنتحار)... أنا أكتب لأكتشفني...ولازلت أحاول...! 3 - قلت مرة بأنك امرأة تحترف الكتابة - والشعر بالتحديد- مع سبق إصرار و وجع،فماذا يمثل الشعر بالنسبة إليك؟ * أحب أن أستهل بقول لبودلير...:( إن وظيفة الشعر هي أن الشعر نفسه وظيفة . فهو يساعدنا على اكتشاف ذواتنا و إعادة ترتيبها كما يجب...).و أنا أجد أن الكتابة علاج ، نلجها بفكرة ما، و بصورة ما، جوهرها هو أن الحرف ذات متكاملة محسوسة، تتوارى بكل سموها الروحي و الفلسفي خلف النص الشعري. و القلق الإنساني هو رحم النص الشعري ، و قرين وحدة الشاعر خاصة و إن كانت الروح قد استأصلت من منابتها ، و سجنت خلف عهر الجغرافيا. و أرى أن الكتابة فعل اكتشاف للذات داخل عالم من الهيولى و السديم المطلق، فكي لا تضيع مني زكية عياش ، و كي لا أكون مجرد دخان يعبر المجرة و يستقر في عالم من العدم ... أكتب ....و أهذي كثيرا ,,,, كثيرا حتى أدخل بقلقي إلى منطق الخيال، و بالتالي فأنا أسطر إنتاجا و لو بسيطا في عمري القصير جدا ، لعلي أذكر يوما داخل هذا الكون الأكبر، و لأحمد مطر رأي أراه يرضي أحلامي في الكتابة كثيرا إذا ما عدّت الأيام بالنعمى و باليسرِ، فعمري ليس من عمري لأني شاعرٌ حرٌّ ، و في أوطاننا يمتدّ عمر الشاعر الحرّ من الميلاد للقبرِ. 4- منطق الأشياء يقول بأن لكل علة سبب،وبأن لكل طريق بداية،فكيف اكتشفت زكية ذاتها الشاعرة وكيف خطت خطواتها الأولى في طريق الكتابة، وكيف استطاعت أن تسقي موهبتها التي أزهرت وأثمرت «سماء الغوايات» وعشرات النصوص؟ * وحيداً ، مثلما جئنا .. بلادي لا ترى وجهي ، و لا أمّي ، و لا أدري أبَعْدَ الموتِ أمنية يجوز لمن رأى عينيك أن يرقى بعيداً كي يلمّ بها !...) مروان الغفوري..... علة كتاباتي تكمن بالتأكيد من تجرعي لكأس الغربة، هذا شيء مفروغ منه، مع أنني ما ارتويت بعد من كل ما دونته أو «خربشته» سمه كما تشاء.... ففي صدري ظمأ ما أدركته المحابر بعد...فأنا كما قال الشاعر»من بين كل تلك القبلات التي ذقتها... بقيت تلك القبلة التي لم أنلها هي ألذها على الإطلاق». أما سماء الغوايات فهي اللحظة التي اقتربت فيها روحي للظل، هي رضوان من الله حين ارتقيت و مسحت السماء الكون عشقا ، و هي جواب لما كان لابد أن يكون منذ احتضنتني المطارات وتلقفتني المنافي، حين كنت غادية إلى اللاشيء ... و حين أذابني صوت ملائكة دست يدها في جنح الليل كي تنجيني ، و تقيم بأخضرها عند عتبات روحي ...أهديتها سماء الغوايات...( الذين نحبهم لا نهديهم كتابا....الذين نحبهم نكتبهم...)...لا أخفي حقيقة أن هناك كائن مطري يشد من أزر قلبي و يدفعني أن أهطل و أتنفس الحرف... كائن يحمل دائما في كفه صباحا مورقا، ينبت من جهته العليا زنبقا ، يقول لي كلما وهنت إرادتي ....( انطلقي نحو القمر.... فحتى لو أخطأته....فسوف تهبطين بين النجوم...)...و هي اللحظة التي رفعت فيها حرفي إلى مقامه العالي و هتفت ...أوااااااه يا ابن شعري.... يا طفلا نام في الضلوع و ظللني من حر المنافي ، يا حزني و يا فرحي, و يا ماء ذاب في حنجرة النهر....! 5- الغالب على جل كتاباتك اللمسة الرقيقة برغم أنك عشت سابقا في غزة والآن في الضفة الغربية،ويبدو أن قريحتك لا تؤثر فيها رائحة الحرب وقسوتها،وتأبى أن تستسلم للظروف الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون في ظل الاحتلال،فهل أضافت هذه الظروف وهذه الحياة شيئا لموهبتك الإبداعية؟ * اسمح لي أن أصحح معلومة مهمة هنا ...أنا أقمت لفترة وجيزة في عمان / الأردن ثم انتقلت مباشرة إلى مدينة الخليل , و غزة كانت مجرد محطة عبور ليس إلا ، مع أنها على مرمى منا لكننا لا نستطيع احتضان أريجها و هذا ما شاءه لها من لا يخشون الله و لا البشر...أما عن كتاباتي فهي عين تعكس ما بداخلي من متناقضات الحياة، في بلاد ليست بلادي، و عادات ليس عاداتي و لهجة شتان بينها و بين تاء أو ياء قسنطينة لذلك. و جدت في الكتابة في ديار الغربة صبر...صبر على الواقع المر، صبر على الحنين للوطن، و صبر على نائبات الدهر و هي كثيرة جدا ، ألمتني بما لا يحتمله بشر ، و مع ذلك فأنا مع قول قاسم حداد : « نترك النسيان يأخذنا على مهل .. لئلا نفقد السلوى «..بالتأكيد أضفت أشياء كثيرة لمعجمي المعرفي و لثقافتي التي حصلتها هنا في المشرق، لكنها وحدها- قسنطينة- التي خرجت من بين أكف التاريخ قبل أن يولد، هي من تنادي دوما على اسمي، و من حفظتها عن ظهر قلب و حملتها بين طياتي كرسمي. 6- ما هي النشاطات الشعرية والأدبية التي تشاركين فيها،وهل لك تواصل مع الشعراء والأدباء هنا في الجزائر أو في المهجر؟ *كنت ضيفة شرف لنادي الاتصال الثقافي لمدينة عنابة قبل سنتين من الآن ، التقيت بثلة من الوجوه الطيبة و الأدبية هناك مثل: د. نوار عبيدي، و الصحافية كنزة مباركي و الرائع جمال صمادي و الفنان عبد الرحمان غزال، و الشاعر جمال الدين بن خليفة و القاص أخي و صديقي عبد الرزاق بادي و القاصة الرائعة لامية بلخضر من باتنة و الشاعرة توأم الروح أسماء مطر.... وغيرهم لا يسعني المقام لذكر أسمائهم الطيبة.شاركت قبل فترة في أمسية نظمها نادي زدني برام الله، التقيت فيها بالعديد من الشعراء ، و كانت تجربة جميلة حيث تعرفت على أقلام شبابية جميلة لها مستقبلا واعدا. في فلسطين أقلام رائعة و ريادية تربطني بهم صلة وطيدة ، لكن شح اللقاءات بفعل الراهن السياسي و الاقتصادي الصعب أصبح الكل متوجها إلى عالمه الخاص و وسيلتنا الوحيدة للتواصل هي العالم الافتراضي و المواقع الاجتماعية. 7- هناك عقبات كثيرة قادت الكثيرين إلى تطليق الكتابة والإنصراف عنها،خصوصا النشر والطبع،فهل تصادفين مشاكل من هذا القبيل أم أنك تواجهينها بحلول أخرى حتى لا يفتر قلمك ويبقى يصب على بياض الورق إبداعك وعشقك للحياة في كل مناحيها؟ *عشت تجربة فريدة من خلال مجموعتي الأولى سماء الغوايات ، حيث سلمت أول مخطوط لمديرية الثقافة لمدينة قسنطينة سنة 2010، سلمته باليد للشاعرة الصديقة منيرة سعدة خلخال، و حظيت يومها بالحديث عن مخطوطي للسيد مدير الثقافة جمال فوغالي و تبادلنا أطراف الحديث عن الكتابات الشبابية و فرص إنجاحها، مرت سنتان و ليومنا هذا ما سمعت عن المخطوط شيئا و لا عن مصيره...!خلال السنة الماضية توجهت إلى وزارة الثقافة برام الله ، وضعت نفس المخطوط لعله يرى طريقا للنور , مع الأسف كان مصيره كسابقه، فقررت أن أتحمل مسؤولية كتاباتي و توجهت إلى مطبعة الجمال برام الله و وهبت لحروفي شهادة ميلاد رغما عن الكل. و بذلك ولد ( سماء الغوايات ) ، و كانت مساعدة الصديق الشاعر عصام الديك كبيرة و راقية ،،، فله الشكر و العرفان. 8- برأيك ما هي الأسباب التي قادت الكثير من الأدباء الجزائريين المهاجرين، إلى التفوق وزحزحة نظرائهم المشارقة عن عرش اللغة وجمالياتها،فصاروا أيقونات لا غنى عنها في سماء الأدب العربي،كمواطنتك أحلام مستغانمي مثلا وحتى فضيلة الفاروق وغيرهما؟ * الكتابة هم وجودي ، و هي محاولة حمل المشاعر و الأحاسيس كقربان على بياض الورق، هو الحنين ربما.... أو الحزن أو الفقد ... بحيث لا تكون القصيدة أو النص الأدبي إلا شعورا مطلقا يفتح عوالم اللغة ، و يسرد بحميمية تاريخ الأشياء و التراب ، و ربما ما يجمع بيننا نحن العرب هو العاطفة للديار و الحنين للوطن, أما عاطفة الجزائري لوطنه فهي حالة سوسيولوجية صرفة . فجاءت ( النوستالجيا) ، كحالة وجدانية مع التوحد التام في النص ، شعرا كان أم نثرا، فيكون حقيقة صرخة لابد أن تأتي بشتى ألوانها. و هذا لا ينفي مدى تميز العديد من الأقلام في المشرق العربي و الخليج أيضا. 9- لزكية عياش نصوص غزيرة صارت صفحات التواصل الإجتماعي والمواقع الإلكترونية تحفل بها بشكل يومي ومكثف،فهل هناك مشروع ديوان في الأفق وهل لنا بالتلصص على تفاصيله؟ *ما أنتظره في القريب العاجل ربما ، هو ديوان يحمل سيمة ( الهايكو) الومضية، يعج بالكثير من الشعر الوجداني، كما يحمل أنهرا تفيض بالحنين لوطني لأنني أعتبر الجزائر هي قصيدتي الأجمل والأصدق و الأنقى. 10 - وماذا عن الجزائر و قسنطينة بالتحديد،هل تواعدتما على اللقاء قريبا؟ * بين غربة المكان و الزمان، غربة الجسد و غربة الروح ، أبقى دوما حبيسة شوارع علق أريجها بأذيال طفولتي، فألجأ دوما إلى عالم من صنع دمي ، و وطن سكانه أبيات شعر و شوارعه شلالات من حبر... يبقى التواصل من بعيد مع الوطن و أحبة الوطن هو القائم في الزمن الراهن، لأن ظروفي الحالية تحول دون السفر إلى هناك. 11- ماذا يمكن أن تقول الشاعرة زكية عياش في نهاية هذا الحديث الشائق الذي أثار - بكل تأكيد- الكثير من الشجن في نفسيتك،وسلط بعضا من الضوء على جوانب من حياتك الشعرية ومشوار حياتك؟ *أحلم أن تسقط الحدود .... أن نبني مكان كل سجن مدرسة، أن أكتب دون أن يقال عني ( هي امرأة مصابة بالتهاب حبري...!) ...أن أسمو كي أحتضن اللغة كأم ، و بشجاعة مريم العذراء، حين انتبذت مكانا قصيا، بينما الرهط يهتف بها... ( لقد جئت شيئا فريا...