توفي أمس الشاعر مالك بوذيبة عن 44 عاما، وقد شيعت جنازته في نفس اليوم ببين الويدان ولاية سكيكدة. الشاعر الذي كان يشتغل مخرجا بإذاعة سكيكدة ترك طفلا وثلاثة دواوين شعرية هي : عطر البلديات، قمر لأزمنة الرماد، ما الذي تستطيع الفراشة إلى جانب عدة مخطوطات. وظهر مالك كصوت شعري قوي في الثمانينات واستطاع عبر قصائده المنشورة في الصحافة أن يلفت الأنظار إليه، واعتبر من " المجددين" الذين تراهن عليهم القصيدة الجزائرية. وبالاختفاء المبكر لمالك بوذيبة يفقد الأدب الجزائري صوتا مهما كان يعد بالكثير. النصر التي نشرت النصوص الأولى لهذا الشاعر تخصص في هذا العدد من ملحقها الثقافي الذي كان ماثلا للطبع عند إعلان وفاة الشاعر، وقفة تكريمية لروحه، على أن نعود للوقوف على "الغياب" في العدد القادم من الكراس. قدري أن يؤلمَني "مالكُ" حتى الموت شرف الدين شكري أسبوعٌ أو يزيد، وأنا أتردّدُ في مكالمته، فقد كان كثيرَ السؤال عني، ولا أيامٌ قليلة دون سؤال منه. ترددتُ كثيرا، وأجّلت مكالمتي له، من باب الدّلال حتى يهاتفني هو، ريثما انتهي من وضع اللمسات الأخيرة في ترجمتي للإعمال الشعرية الكاملة ل"مالك حدّاد". قلتُ: سأكلِّمه هذا المساء، وأتباهى أمامه بإتمام العمل. رنّ الهاتفُ- سليم بوفنداسة على الخطّ - : "خبرٌ مزعجٌ أنقله لك يا صديق": مالك بوذيبة توفي الآن !!! ظلّ هاتفي معلّقا إلى سماء العدم، التي كلما لاح منها بريق أملٍ، إلا وخسفت به ظلال اليأس من جديد. لماذا اجّلتُ مكالمتي له؟ هل كان هذا اليوم فاصلا في تاريخ أحاديثنا الطويلة التي بدأت منذ عقدين ونيف من الزمن، "بالفيرمة"، حيث كان الشباب وعنفوان الأحلام والعشق المشترك لأشياء كثيرة، يجمعنا على ديانته، كشعراء اختزلوا كل شيء في دمهم، كتابةً وتجربة؟ كنت أسأله: أين ذهب دمك يا "مالك"؟ كان يجيب بكل خبثٍ ودهاء وطيبة: هو في أصابعي التي تكتب، ولك أن "تصفه" كما تشاء !!! . كتب بعدها قصيدة: "صفي لي دمي" ومنذها، ظل يُسائل العالمَ، وكلّ من عشِقه، عن صفات دمه التي لا يراها هو ذاته. دمه الذي كان يترصّدُ له عند مدخل فتوّة العمر، كي يأخذه بعيدا عن أصدقائه، في غفلة من منّا، كنا نظن فيها سني العمر مستحيلة الانتهاء، وإذ بها، تكذّبُ ظنّنا. دمُه الذي كان يخبؤه عنّا أياما وأياما، ثمّ يعود بعدها كأيوب كتوم، بقصيدة أو " تمنشيرة" طيبة، تسبتبق ألمه " الوجيع"... أجّلتُ السؤال عنه حتى نهاية هذا اليوم. أجّلتُ دعوته لأفراح الأدباء ببسكرة، التي لطالما كان يلحُّ على حضورها، دونا عن سواها من المدن، وقد اختار غرفة الفندق التي تُطلُّ على وادي وسط المدينة، كي يرى أمواجَ دمه، وما عشقناه سويا تتقلّب في صفحات الذاكرة.أجّلتُ السؤال عنه، واستبقتُ ندمًا لن اغفره لنفسي متى حييت، كان وراءه مالك حاضرا دوما؛ حدّادا كان أو ذيبةً. في الخروج لمكاشفة الصيف . مالك بوذيبة للفصول غواياتها المشتهاة ، وللصيف نكهته المستحبة ، هل تذكر الصيف ؟! قعدتنا في طريق النساء ، تحسسنا في المدى خطوهن، تلصصنا كلما انحسر الثوب.. عن ركبة امرأة سائحه! والتذاذاتنا ... بفساتين جارتنا في السطوح ، ابتهاجاتنا ... بتلاوين لذتنا الجامحه صمتنا .. وتلعثمنا في الكلام ، إذا فاجأتنا العيون .. بأسئلة فاضحه عن حبيباتنا السريات ، تثاوبنا في الصباح اللذيذ إذا أيقظتنا شوارع حارتنا بالزعيق الممل لأشرطة " الراي " ، أو بالصراخ الرتيب ... لأطفال جيراننا المزعجين ، وبالرائحه كل ذاك ، وعاداتنا السيئات ، كأن نختلي وحدنا بصغار البنات ، وأن نرسم السهم والقلب ، بالفحم فوق بياض الجدار ، وأن نتأخر عن موعد المدرسه *** إنه الصيف يأتي ... فيسرق منا الرؤى والحواس ، يعلمنا من غواياته ما يشاء ، ويمضي ... فتشتعل الحاسة السادسه *** وها .. إنه الصيف يأتي فيستيقظ الحب فينا ، وتستيقظ الرغبات الدفينة ، يكبر حب ملوك البنات ، بأعطافهن ، وينضج تفاح جارتنا الفائره من زمان الطفولة ، لم يعرف القلب شيئا كهذا .. ولم تشهد الروح شيطنة مثل هذه .. لكنه الصيف يأتي ... فتأتي الطفولة ، تأتي الغوايات ، كالسيف تدخل فينا .. وكالصيف تسكن فينا .. وتفعل فعلتها الماكره ما الذي تستطيع الفراشة أن تحمله؟ . مالك بوذيبة إلى بختي بن عودة 1 إنها الخامسه ! ... ... ... لا جرائد هذا الصباح ، ولا شاي ، لا تبغ ، لا قهوة بالحليب ، ولا غاز ، لا ماء ، لا كهرباء ، ولا شعر، لا بحر، لا رمل ، لا نورسه! ... ... ... إنهم يطلقون الرصاص من الخامسه ! يا تر ى ... عندما يطلقون الرصاص على شاعر ، أو على طائر ، أو على نرجسه ! في صباح حزين ، كهذا الصباح المعلق فوق حبال التردد ! بين الرطوبة واليابسه ! وطني ... من يصف الورود على شرفة الفجر، أو يفتح الباب للشمس كي تدخل القلب أو يعبر اللحظة الدامسه كحصان من البرق ، من يشعل البرق في طيلسان الأنوثة، أو يمنح العطر للأقحوان المجفف ، فوق سطوح البيوت ، في ضحكة امرأة عابسه ؟ ياترى... في صباح حزين ، كهذا الصباح الذي .. يشبه المكنسه! من يعيد النجوم إلى سقفها المتهالك، أو يرجع الوقت للساعة الحائطية ، حين تنام العقارب نوما عميقا ، على بعضها في الصباح الحزين ، على الخامسه ! يا ترى ... عندما يذهب الشعراء إلى النوم ، من يخرج الشعر من كشتبان الرتابة ، من يدخل الشعر في إكليروس الحداثة ، أو يوقظ الحاسة السادسه في قناع من الشمع ، من ؟ ومن يقرع الجرس المدرسي مساء الخميس لكي يخرج الطل ، والفل ، والياسمين الخجول من المدرسه ؟! يا ترى... عندما يترك الشعراء أصابعهم في البيوت وهم يخرجون إلى حاجز غامض ، أو إلى ... مومسه ! من يحذرهم من فساد الظنون ، ومن طعنة في الظلام الشفيف ، ومن شهوة امرأة جالسه فوق سرج الرجولة ، تحت سياط من البرق ، تأخذ وضعية الفارسه ؟! 2 في الصباح الحزين الذي ... يطلقون الشتائم فيه على .. أمنا! وطني ... كم من الورد يكفي ، وكم سوسنه ياترى سوف تكفي .. لنكذب كل صباح على حزين ، على ذقن أطفالنا الطيبين ، لنقنعهم أننا .. في الهزيع الأخير من الإنتظار الممل ، وأن الدماء التي في الشوارع ورد .. تفتح قبل الأوان ، وكم دندنه ياترى سوف تكفي لنوهمهم أننا .. أبرياء من الذنب والكبرياء ، ومن سنوات الجنون التي عذبتنا كثيرا. كما عذبتهم بنا؟! ما الذي خلفته لنا نشرة الثامنه من جميل الكلام عن الحب ، كي نكتب الشعر.. عن أجمل السيدات ، بلادي ، وعن زهرة الأمكنه ؟! ما الذي سوف نحكي لأطفالنا في ليالي الشتاء ، إذا سألونا.. عن الطلقات التي بيننا ؟ وماذا نقول لنقنعهم أننا أمة مؤمنه وفي كل فجر يموت الندى ، ويموت الشذا ، وتموت الخيول على بعد مترين .. من مئذنه ؟! 3 يا صباح الندى .. والجحيم ، ويا موطن الوحش ، والسنبله ! ما الذي تستطيع الفراشة.. أن تحمله! من هموم القصيدة ، أو تستطيع القصيدة أن تفعله في زمان التماسيح ، والديناصورات ، والفيله! ما الذي لم يقله لكم مهرجان الجنون ، لكي تسألوني ما قد تعسر يا أصدقاء ، من الشعر والعندله ؟! ما الذي يكتب الشعراء ، وهم خائفون ، كما ينبغي أن تخاف الطيور على ريشها من رذاذ المساء ، وهم جائعون ، كما ينبغي أن يجوع الكريم.. إلى كلمة حرة ، وإلى لقمة حرة ، في بلاد تقاسمها في بنوك الربا .. بالديون ، اللصوص ، وبالجدوله ؟! ما الذي يترك الشعراء لقرائهم.. في بريد الصباح ، وهم يسقطون بلا سبب واضح ، في الفراغ الرهيب ، كما تسقط الثمرة الذابله! أنضجتها البنادق ، أو أنضجتها الكوارث والمرحله! ... ... ... من سنين وهم يطلقون الرصاص ، ومن سنوات ونحن نموت ، تعبنا من الموت نحن ، ولم يتعب القتله ! ولم يستريحوا ، ولو ومضة من زمن لكي نستريح من الهروله ! ونكتب أغنية للوطن ونموت ؛ كما ينبغي أن تموت الخيول الأصيلة ، دون رصاص كثير ، ودون كلام كثير ،،