لعل من أبرز المظاهر التي اجتاحت الأحزاب السياسية، بعد الانتخابات التشريعية، تلك التي تمثلت في احتدام الصراعات الداخلية لبعض الأحزاب الكبرى، سواء المحسوبة على السلطة أو المعارضة لها . وإذا كانت الانقسامات بدأت بوادرها قبل موعد الاستحقاقات التشريعية التي جرت في العاشر ماي المنصرم، فإن الظاهرة انتشرت وتوسعت لتشمل أحزابا مثل الأرندي وحمس، والأفافاس، والأفانا وغيرها من التشكيلات التي تأتي في المرتبة التالية من حيث التصنيف السياسي . وبالرغم من أن قيادات أركان الأحزاب التي تعيش حالة من التشرذم، لا تعترف في الغالب وصراحة بالأزمات التي تعصف بكياناتها، وتحاول التقليل من حجم تلك الأزمات، إلا أن الشيء الأكيد في الميدان، هو وجود حركية كبيرة تنم عن رغبة في إحداث تغييرات جوهرية على الأحزاب التي ظلت تسمى إلى حد الآن بالتقليدية . إن الديناميكية التي تشهدها العديد من التشكيلات السياسية الكبيرة، تكشف بما لا يدع أي مجال للشك عن ملامح خارطة حزبية جديدة، قد تبرز على أنقاض الأحزاب التقليدية القائمة، وما يدلل على هذا التوجه المحموم، ميلاد تشكيلات حزبية جديدة من رحم الأحزاب الأم، كما هو الحال بالنسبة لحزب الوزير غول المنشق عن حركة حمس، وحزب طابو الذي انشق عن جبهة القوى الاشتراكية، وكذلك الشأن بالنسبة لما يحدث في الأرندي والأفانا وغيرهما، الأمر الذي يوحي، بل ويؤشر إلى بروز معالم خريطة حزبية وسياسية جديدة . ولئن كانت أسباب احتدام الصراعات الداخلية للأحزاب، والانشقاقات التي عرفتها، والانشطارات التي أدت إليها الأزمات، تختلف من حزب إلى آخر، تبعا لطبيعة التركيبة البشرية التي يتكون منها كل فصيل، وتبعا للممارسات الموصوفة باللاديمقراطية، أو تفرد القيادات والزعامات باتخاذ القرارات والمواقف والسياسات المنتهجة، فإن الواضح للعيان، هو أن تداعيات نتائج الانتخابات التشريعية كان لها مفعولها في الوضعية التي آلت إليها معظم الأحزاب السياسية. الواقع أنه بقدر ما كانت النتائج التي أفرزتها الانتخابات التشريعية ناجحة، كونها جاءت معبرة بصدق عن رغبة غالبية الجزائريين وتطلعاتهم للتغيير الهادئ والآمن، البعيد عن ما يسمى »الربيع العربي«، الذي يوصف ب»العنيف والدامي«، بقدر ما كانت هذه النتائج وبالا على عديد الأحزاب التي فقدت استقرارها ولم تعد قادرة على السيطرة والتحكم في جماح الرغبة في التغيير. التساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح في سياق هذه الموجة التي تجتاح الكثير من الأحزاب، هو هل ما يحدث حاليا يتعلق بمحاولة إعادة ترتيب الأمور داخل الأحزاب التي تعرف بأنها تفتقر إلى ممارسة الثقافة الديمقراطية أو النضال الحزبي الحقيقي، القائم على الانضباط والالتزام، أم الأمر يتجاوز ذلك ويتعلق بإرهاصات ميلاد خارطة حزبية وسياسية جديدة في البلاد، تأخذ في الحسبان المعطيات المستجدة والتطورات الحاصلة مع بداية التطبيق الفعلي للإصلاحات التي باشرها رئيس الجمهورية قبل عام؟ مهما يكن من أمر، فإن المخاض الذي تعيشه الساحة السياسية ومن خلال الحركية التي تعرفها الأحزاب، قد لا يكون شرا كله حسبما تراه قيادات أركان الأحزاب القائمة، المعنية بمظاهر الأزمة التي تمر بها، ذلك أن ما يحدث داخل الأحزاب، قد يكون ظاهرة صحية، من شأنها إضفاء ديناميكية جديدة على الحياة السياسية، وإعطائها أبعادا إيجابية، كأن تتخلص الكثير منها من الممارسات والسلوكات السائدة في تسيير شؤون الأحزاب على المستويات الهيكلية والتنظيمية من كل الشوائب وتصحح المسارات وتقوم المناهج والسياسات والاستراتيجيات المتبعة إلى حد الآن، لتجعلها في خدمة الوطن والمواطن، وتنأى بالممارسة السياسية، بعيدا عن الزعامات والولاءات والعصبيات والتكتلات التي أضرت بالحياة العامة للبلاد.