هو رهين المحبسين، كفيف البصر، لكنه ثاقب البصيرة، شاعر وفيلسوف، مفكر وزاهد، إنساني يملك من الصفاء الروحي والسمو الذهني، ما جعله وكأنه يعرف منذ أكثر من عشرة قرون ما سيصيب بلده سوريا وما سيصيبه هو، ليس في جسده لأنه يدرك أن الجسد فانيا، إنما فيما يمثله من تسامح وفكر حر ورأيا وعقلا وجرأة. وأعيد قراءة ذلك البيت النبوءة من شعره الرائع العميق: ''في اللاذقية فتنة بين أحمد والمسيح، هذا بناقوسه يدق وذاك في المئذنة يصيح، كل يمجد دينه، ليت شعري ما الصحيح؟« إنه أبو العلاء المعري نزيل معرة النعمان ودفينها، صاحب رسالة الغفران التي نقلها داني الإيطالي حرفيا وسماها ''الكوميديا الإلاهية'' وصاحب اللزوميات وسقط الزند، الشاعر المتسامح الذي حرم على نفسه أكل اللحم، أي لحم لأنه يعتبر الحيوان مثله مثل الإنسان يملك روحا هل كان أحد يسمع أو يفكر آنذاك في كامل هذه المعمورة بجمعيات للرفق بالحيوان أو هيآت لحمايتها؟ ونعتقد عن الجهل أو عن السفاهة أو هما معا أن هذه فكرة أروبية أو غربية ولا أحد أشار إلى سبق الرجل للموجة التي أتت في بداية القرن العشرين، بعد أن كادت هذه الكائنات أن تنقرض نتيجة الصيد الذي مارسه نفس هؤلاء الغربيين في كل بقعة تواجدوا فيها... تألمت كثيرا حين قيل أن مجموعة من أولئك المفسدين في الأرض ''الإسلاميون الدمويون'' قطعوا رأس تمثال الشاعر وابتهجوا بذلك وتساءلت إن كانوا سيضعون مكانه تمثالا لأردوغان أو حمد أو هولاند أو القرضاوى، وقد يأتي ذلك إن استطاعوا بسط هيمنتهم على سوريا وإن كنت أشك في ذلك إلا أن مجرد التفكير في هذا الإحتمال يصيبني برهبة لأن السديم الذي سيغطي الشام سيكون شبيها بالعتمة التي تحيط ببعض المجرات وقد يدوم سنوات ضوئية. قبل الإعتداء على مقام هذا الشاعر، سبق لهؤلاء الظلاميين المبرمجين للهدم والقتل والتدمير، أن قاموا بنفس الأفعال في مواقع أخرى، في تمبوكتو، جوهرة الساحل الإفريقي وأحد معالم التراث الإسلامي حضاريا ودينيا وتسامحا وصفاء وأخوة، وهي الميزات التي جعلت منظمة اليونسكو تدرجها في قائمة معالم التراث الانساني. وفي نفس الفترة أحرق مقام سيدي بوزيد في تونس كما أحرق الجامع الأموي في حلب وقبل ذلك فجرت قبة سامراء بالعراق، مرقد الإمامين والموقع المقدس لدى الشيعة، وفي أفغانستان دمرت التماثيل البوذية العملاقة كما دمرت كنائس بالعراق وسوريا. الأمر هنا يتعلق بالعداوة تجاه ما يرمز إلى روح التسامح والتعايش حيث يتعلق الأمر بالأديان والمعتقدات، وإلى كل ما يتعلق بالفنون والثقافات وروح الابداع التي هي أيضا من خصائص كل نفس انسانية وحين يفعل هؤلاء المعتوهين العمية بصيرتهم مثل هذه الأفاعيل، باسم مذهب ما سلفي أو وهابي، تكفيري أو جهادي، فإن المعري قد أجابهم عن ذلك أيضا منذ عشرة قرون أو أكثر حين قال:''إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء''! والرؤساء هنا هم أولئك الذين يمونونهم أو يسلحونهم أو يؤونهم أو يفتون لهم، ومرة أخرى نجد نفس الأشخاص أمراء قطر، حكام تركيا والسعودية، وإمام الأطلسي ومفتي تدخلاته، القرضاوي والمنظر عزمي بشارة والمحلل العسكري ''للجزيرة'' صفوت الزيات.. بالاضافة لجامعة نبيل العربي.. ومع أن الأمر مجرد تمثال إلا أن رمزية ذلك تجعلني أردد مع رهين المحبسين:''إثنان أهل الأرض : ذو عقل بلا دين وآخر دين لا عقل له''! خاصية أخرى يشترك فيها هؤلاء الدمويون الظلاميون مع متطرفي الصهيونية وأحبارهم، إنها هدم كل ما يرمز إلى الحضارة والتسامح والتعايش فحين يعمد المتطرفون في اسرائيل إلى العمل على إزالة المسجد الأقصى لإعادة بناء الهيكل المزعوم ومحاولات هدم كنيسة المهد والاعتداء على مقام ابراهيم الخليل في مدينة الخليل فذلك لأنهم لا يؤمنون إلا بالتطرف التوراتي، كما لا يؤمن هؤلاء إلا بالغلو الاسلاموي. وكلا الطرفين يتلاقيان في هذا المستوى بالاضافة لتلاقيهما في هدف إخضاع كامل المنطقة للفكر الوهابي والتكفيري وللهيمنة الاسرائيلية التي هي جزء من الأمن القومي الأمريكي. إنه الصقيع الذي يهدد كامل المنطقة بالتجمد والتحنط، وتحت عناوين براقة قد يصل هؤلاء للسلطة والتسلط وبالفعل وصلوا في بعض المواقع والأماكن لكن سرعان ما تمزقت الخرق التي يتسترون بها وظهر ليس فقط بؤسهم الفكري والديني، إنما ضحالتهم في التسيير وقيادة المجتمعات التي لديها متطلبات ومشاكل وطموحات وحقوق فهم تعودوا على قيادة ميليشيات تدين بالولاء الأعمى للمرشد، أو للأمير أو للزعيم، ولا شيء غير ذلك. وها هم يتخبطون في المواقع التي سيطروا عليها والمواطن الجائع أوالبطال المريض والذي لا مأوى له، يحتاج للتقوت كما يحتاج للشغل كما يريد العلاج ويريد التعليم ويريد مسكنا يأويه القر والحر ويستره، وقد شبع المواعظ كما شبع من مظاهر التدين الزائف والنفاق الديني للوصول والبقاء في الحكم وفي التسلط. والمواطن، قبل أن يوعد بالجنة ويبشر بها يحتاج أن يحيا حياته قبل مماته.. وبعد، بئس قوم، والجواب على لسان المعري وكأنه يعيش هذا الزمان ويرى هذه النماذج:''ولا تطيعن قوما ما دياناتهم الاحتيال على أخذ الإتاوات''! .. وإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور''.