العداء التاريخي بين "جمعية العلماء" والطرق الصوفية عداء سياسي لا علاقة له بالدين بعد الاستقلال، تنكّرت الجزائر للطرق الصوفية وتبنّت التوجه الإصلاحي السلفي الوهابي يرى الباحث في التصوّف، الأستاذ سعيد جاب الخير، أنّ الإحسان هو محتوى التصوف، ويشيد في هذا الحوار بدور الزوايا في توقيف العنف الذي وقع في الجزائر خلال عشرية التسعينيات من القرن الماضي. يستغرب مؤلّف كتاب "التصوف والإبداع"، الصادر سنة 2007، عن دار المحروسة والناشرون المصريون في القاهرة، وجود عشرات المكتبات في الجزائر التي تبيع الكتب التي تروّج للخطاب السلفي الوهابي الجهادي التكفيري، ويدعو التيار الإصلاحي إلى المراجعة الجدية والعميقة لمواقفه من التصوف والطرق الصوفية، بهدف الرجوع إلى المرجعية الدينية الأصيلة للجزائر، وتحصين البلد ضد التيارات الأصولية المتطرفة. يحمل الباحث شهادة الليسانس في الفلسفة والشريعة وأصول الدين من جامعة الجزائر(1994)، له تجربة في الصحافة المكتوبة (أشرف على الأقسام الثقافية في العديد من الصحف داخل وخارج الجزائر، مع تجربة سنتين كمحرر ثقافي بجريدة الخليج الإماراتية) ، والصحافة المسموعة (القناة الإذاعية الأولى، بثمانية برامج ثقافية آخرها "ناس الحضرة" الذي يبث حاليا)، والصحافة المسموعة والمرئية (تلفزيون كنال ألجيري؛ حيث يعد ويقدّم ركنا خاصا بالتصوّف ضمن برنامج: Bonjour d'Algérie. الباحث متخصص في مجال التصوف والطرق الصوفية والفن الصوفي. له عدة أبحاث في هذا المجال بعضها منشور في الصحف الجزائرية. كما صدر له كتاب جديد بعنوان:"الطرق الصوفية في الجزائر، دراسات وأبحاث"، الجزائر 2012. أسّس الباحث الموقع الإلكتروني "ولاد سيدي" المتخصص في الأديان والتصوف، باللغتين العربية والفرنسية، ويشرف عليه. حاوره: نورالدين برقادي - الكلّ يدعي التصوف، فما هو المعنى الحقيقي للصوفية ؟ التصوف هو البعد الروحاني في الإسلام، وهو الجوهر الحقيقي للإسلام. ومعروف أن التديّن عند المسلمين يتحرك في ثلاثة خطوط وردت في الحديث الشهير بحديث جبريل (عليه السلام) الذي أخرجه البخاري، وهي: الإسلام والإيمان والإحسان. فالإحسان هو محتوى التصوف وهو الذي يمثل البعد الثالث في الدين أو المرحلة الثالثة التي تأتي بعد الإسلام (الأعمال الظاهرة التي يقوم بها الإنسان) والإيمان (الأفكار التي يؤمن بها الإنسان). فالنبي صلى الله عليه وآله عرّف الإحسان في الحديث المذكور على أنه "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". والصوفية يقرأون العبارة النبوية هكذا "فإن لم تكن، تراه". أي كلما انخفض ضغط الجسد والمادة، ارتفع وتجلى خط الروح والمشاهدة الروحانية. وهذا هو في النهاية معنى "التحقق" الذي جاء في قول الإمام مالك رحمه الله: "من تفقه وتصوف فقد تحقق". والتحقق هو غاية كل إنسان، ولا يكون التحقق إلا عبر جسر التربية والتدريب الروحاني، وهي التي نسميها التصوف. فالتصوف في النهاية ليس سوى مجموعة المدارس والمنهجيات التربوية الروحانية في الإسلام، تماما كما هي المدارس أو المذاهب الفقهية بالنسبة إلى الجانب التشريعي. فكما تتعدد مناهج ومذاهب الفقهاء، كذلك تتعدد طرق ومناهج التصوف. ومن هنا نشأت الطرق الصوفية التي يعتبر اختلافها اختلاف تنوع وثراء لا اختلاف تناقض وصراع، والأمر كذلك بالنسبة للمذاهب الفقهية. والجميع في النهاية يستمد من المنبع الأول وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. تبقى مسألة المصطلح (التصوف) الذي لم يكن موجودا في بداية القرن الأول الهجري على أغلب الآراء، لكن العبرة بالمحتوى ولا مشاحة في الاصطلاح. وفي النهاية نجد أن كثيرا من العلوم التشريعية ومسمياتها (مثل الفقه والحديث والرواية والدراية وعلوم النحو والبلاغة وغيرها) لم تكن موجودة على عهد الصحابة رضي الله عنهم، لكن مضامينها كانت موجودة. -بوصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للحكم سنة 1999، أعيد الاعتبار للزوايا في الجزائر، ماذا حققت هذه الزوايا منذ ذلك التاريخ ؟ الدولة الوطنية بعد استقلال الجزائر، تنكرت للطرق الصوفية بعد أن تبنّت التوجه الإصلاحي السلفي الوهابي كخطاب رسمي لها، ممثلا في ما تبقى من رموز "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" التي كان خطابها وبشهادة نصوصها وأرشيفها، أقرب إلى المهادنة والاندماج مع المحتل الفرنسي، منه إلى الوطنية والمقاومة والثورة، وهو الخط الذي تبناه كل من نجم الشمال الإفريقي وحزب الشعب ثم حركة انتصار الحريات الديمقراطية. وفي هذا الإطار، تمت مصادرة أملاك الزوايا والطرق الصوفية بعد الاستقلال، ومنع نشاطها بل وسجن بعض شيوخها مثل الشيخ المهدي بن تونس والد الشيخ خالد بن تونس، الشيخ الحالي للطريقة العلاوية في الجزائر. لكن بعد رحيل الرئيس هواري بومدين زالت بعض الضغوط التي كانت مفروضة على الطرق الصوفية، ومع مجيء الرئيس بوتفليقة إلى السلطة، انفتح المجال أمامهم؛ حيث أصبحت لهم حرية العمل مثل غيرهم من الجمعيات الثقافية في إطار القوانين السارية في البلد. فالطرق الصوفية عادت بعد تغييب تعسفي طويل وقع ضدها، وهي منذ 1999 وحتى الآن تحاول لملمة شتاتها واستعادة نشاطها بعد هذا التغييب التعسفي الطويل الذي وقع ضدها. لذلك أقول يكفي الطرق الصوفية من الإنجازات أنها ساهمت وبشكل فاعل في توقيف العنف الذي عاث في البلد خلال تسعينيات القرن الماضي. وأتصور أنه مع فشل الخطابات والمشاريع الأصولية بعد العشرية الدموية التي عاشتها الجزائر وما تزال تعيش بعض مضاعفاتها، أصبح الشعب الجزائري اليوم، أكثر التفافا حول الثقافة الدينية الصوفية التي تتميز بالفطرية والشعبية والبساطة والانفتاح على جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية، بل وحتى على الآخر المختلف الذي لا ينتمي بالضرورة إلى دائرتنا الحضارية. -توجد في الجزائر مجموعة من الزوايا، ماهي خارطة انتشارها وطنيا؟ وفيم تتمثل الفروقات الموجودة بين هذه الزوايا ؟ الاختلافات الموجودة بين الطرق الصوفية ليست أكثر من الاختلافات الموجودة بين المذاهب والآراء الفقهية في الجانب التشريعي. واختلاف الطرق الصوفية هو اختلاف تنوع وثراء، لا اختلاف تناقض وصراع، تماما كما هو اختلاف الفقهاء والمحدثين والمفسرين في إطار علوم الظاهر. وغالبا ما يكون التنوع في الطرق الصوفية في جانب أوراد الذكر (مع ملاحظة أنها كلها من مرويات السنة النبوية الشريفة) أو في مناهج وأساليب التسليك الروحاني للوصول إلى مرتبة الإحسان المذكورة في حديث جبريل. على سبيل المثال نجد الطريقة الرحمانية الخلوتية، تنتهج أسلوب الخلوة والذكر بالأسماء الإلهية السبعة. وكما قلت سابقا، جميع الطرق الصوفية في مناهجها وأورادها تستقي من النبع النبوي الشريف. أما عن خارطة انتشار الزوايا على المستوى الوطني، فمن المؤسف أننا لا نملك لحد الآن إحصائيات وأعمالا مسحية بالمعنى الدقيق للكلمة. -تاريخيا، العلاقة بين الزوايا وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين تميّزت بنوع من العداء منذ ظهور الجمعية التي اتهمت الزوايا بممارسة الشعوذة وخدمة فرنسا، ما هي الخلفيات الحقيقية لهذا العداء؟ قاومت الطرق الصوفية الاحتلال الفرنسي الذي أشعلت ضده عدة ثورات، كانت أولاها المقاومة البطولية التي قادها أبناء الطريقة الرحمانية على أسوار الجزائر المحروسة (العاصمة) ضد جنود الاحتلال الفرنسي؛ حيث استشهد 17.000 (سبعة عشر ألف مجاهد)، كلهم جاءوا براياتهم وأسلحتهم من منطقة القبائل ليدافعوا عن الجزائر، ومن بعد ذلك جاءت ثورة الأمير عبد القادر وهو من الطريقة القادرية، ثم جاءت عشرات الثورات والانتفاضات الأخرى التي قادها الصوفية، من بينها ثورة لالة فاطمة نسومر الشريفة ابنة الطريقة الرحمانية، والتي هزمت وحدها سبعة جنرالات فرنسيين. لذلك لا يمكننا أن نقبل بحكاية تواطؤ الزوايا والطرق الصوفية مع الاحتلال الفرنسي. وحتى الطريقة التجانية التي يركّز عليها البعض في هذا الجانب، نجد عند البحث الدقيق أنها ساهمت في المقاومة الشعبية وحتى في الثورة التحريرية الكبرى، حيث انتسب إليها مجموعة من وجوه المقاومة الشعبية أمثال المقدم سيدي الطاهر بوطيبة وتلاميذه (ت 1878)، والشيخ حماه الله بن محمد، والشيخ يعقوب سلا، والشيخ أحمد بوعزة البكوش، والشيخ سيدي العيد الثاني، والمقدم سيدي العيد بن يامة. كما انتسب إلى التجانية عدد من كبار علماء الجزائر الذين كانوا يرفضون الاحتلال جملة وتفصيلا بل ويعملون على مقاومته، أمثال العلامة الشيخ عبد الحليم بن سماية، والعلامة الشيخ حمدان لونيسي، والعلامة الشيخ أحمد بن رابح طالب الندرومي، والشاعر محمد العيد آل خليفة، وعميد الصحافة الجزائرية المقدم عمر بن قدور. ذكرت هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر. استمرت المرجعية الدينية الجزائرية (ممثّلة في الزوايا والطرق الصوفية) ثابتة على خط المقاومة بعد الاحتلال الفرنسي، الأمر الذي جعل المحتل ينطلقُ في أكثر من أسلوب من أجل تشويه صورة الطرق الصوفية التي أذاقته الأمرّين حتى تمكّن من إخماد نار المقاومة. ومن المؤسف حقا، أن هذه المهمة قامت بها جزئيا الحركة "الإصلاحية" ممثلة في "جمعية العلماء" من حيث تدري أو لا تدري، عندما استوردت لنا الخطاب الوهابي السلفي الغريب تماما عن المرجعية الدينية الجزائرية التي وصفها ابن عاشر بقوله: "في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك"؛ حيث نجد أن خط "الإصلاح" انطلق ضد مفردات العقيدة الأشعرية والتصوف، وميدانيا عمل على هدم المرجعية الصوفية الأصيلة ولم يُنتج في المقابل أي بديل. "الإصلاحيون" شكّكوا الجزائريين في مرجعيتهم الدينية، ولم يطرحوا البديل المؤسس لتلك المرجعية (حيث لم يكونوا يملكون سوى خطابات، وما يزالون هكذا حتى اليوم) تاركين الساحة فريسة سهلة ونهبا للوهابية المتوحشة التي دخلت لتكرّس ذهنيات التعصب والوثوقية والإطلاقية والتكفير والإقصاء، التي بالنتيجة تنتج العنف الاجتماعي بشكل حتمي، وهو ما شهدناه وعايشناه واكتوينا بناره في مرحلة التسعينيات الدموية سيئة الذكر. ومع ذلك كله، نلاحظ أنه كان للجزائر مفت واحد لكل مذهب على عهد الاحتلال الفرنسي. هذا الإشكال الذي ظهر قبل الاستقلال، لم يكن ليهز الصرح الديني المرجعي في الجزائر، لو تركت حرية النشاط للطرق الصوفية بعد الاستقلال. لكن ما حدث، هو أن الدولة الوطنية تبنت الخطاب الإصلاحي في نصوصها الرسمية وإعلامها وبرامجها التعليمية والثقافية، وذلك من باب المناورة السياسية ومحاولة استمالة المعارضة الإسلامية الأصولية الراديكالية ممثلة في جناح من بقايا "جمعية العلماء". في المقابل قمعت السلطة الخطاب الصوفي ومؤسسة الزاوية التي تمثله، ما فتح المجال واسعا أمام الاختراق الوهابي السلفي للفضاء الديني في الجزائر، وهو ما حدث من خلال ملتقيات الفكر الإسلامي والبعثات التعليمية (مدفوعة التكاليف بنسبة مائة بالمائة من طرف السفارة السعودية) نحو المشرق وبخاصة الحجاز أي المملكة العربية السعودية، والكتب والمجلات الدينية التي تموّلها المملكة وتوزعها الدولة الجزائرية دون حسيب أو رقيب؛ حيث قوي الخط السلفي الوهابي، وبدأنا نشهد ما سُمي آنذاك (مطلع الثمانينيات) المساجد الحرة التي يُفتي المدرّسون فيها على خلاف الفتوى المالكية، لتنطلق حرب الفتاوى حول مفردات التوحيد والصلاة والصيام وصندوق التوفير والحجاب والموسيقى والعادات والتقاليد والسُنة والبدعة وغيرها، ومن بعدها حرب المساجد التي دارت رحاها بين الحركات الإسلامية حول من يسيطر على الفتوى والتدريس والتوجيه في المساجد الحرة. لهذا كله أقول: إن العداء التاريخي بين "جمعية العلماء" وبين الطرق الصوفية هو عداء سياسي لا علاقة له بالدين، وإنما اتُخذت المسألة الدينية (في قضية ما يسمى السنة والبدعة) غطاء لهذا العداء السياسي. لأن "جمعية العلماء" التي تقول نصوصها التأسيسية "إنها لا تشتغل بالسياسة"، هي في الواقع كانت غارقة في السياسة، يؤكد ذلك المرحوم مالك بن نبي في مذكراته وغيرها من كتبه. ولا يتسع المجال للدخول في تفاصيل هذه المسألة، وقد فصلتها في العديد من مقالاتي وأبحاثي المنشورة في الصحافة الوطنية. وعندما نبحث وندقق في الجانب الديني من المسألة، نجد أن "العلماء" لا يملكون الحجة الدينية على الصوفية بالمعنى المطلق. وإنّ أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الجانب، هو أن ل"العلماء" رأيٌ، وللصوفية رأيٌ، وكلاهما يملك الشرعية الدينية. هذا أقصى ما يمكن أن يقال في المسألة. لذلك أدعو التيار الإصلاحي ممثلا في "جمعية العلماء" إلى المراجعة الجدية والعميقة لمواقفه من التصوف والطرق الصوفية، بهدف الرجوع إلى المرجعية الدينية الأصيلة للجزائر، وتحصين البلد ضد التيارات الأصولية المتطرفة. -تم تشجيع الزوايا لسحب البساط من التيار السلفي عموما وما يعرف بالتيار الجهادي بشكل أخص، هل تحقق هذا الهدف ؟ التوجه السلفي الوهابي بفرعيه "الجهادي التكفيري" و"العلمي"، أتصور أنه لم يعد يحتاج إلى محاربة، على الأقل في الجزائر، لأنه حارب نفسه بنفسه، وأسقط نفسه بنفسه من خلال مئات الآلاف التي أزهقها من أرواح الجزائريين الطاهرة عندما أفتى قادته وأفتى معهم أعوانهم من شيوخ وأبواق السلفية والوهابية في المشرق، بوجوب أن يقاتل الجزائري أخاه الجزائري، وبالتالي فهم مسؤولون عن الأرواح التي أزهقت بشكل أو بآخر مهما اختلفت التحاليل والقراءات والرؤى حول خلفيات وأسباب الأزمة التي مرت بها الجزائر. ومع ذلك أقول إنه ما يزال يوجد الكثير من التساهل من طرف النظام الجزائري في محاربة هذا الخطاب السلفي الوهابي التكفيري العدمي، الذي يدعي الوثوقية وامتلاك الحقيقة المطلقة واحتكار صكوك الجنة من خلال مقولة "الفرقة الناجية" وتكفير الآخرين.. فأنا مثلا لا أفهم، بعد العشرية الدموية التي شهدتها الجزائر وراح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، كيف أنه ما تزال في العاصمة عشرات المكتبات التي لا تبيع سوى الكتب التي تروج للخطاب السلفي الوهابي الجهادي التكفيري ؟ ومن الذي يمنح التراخيص لتلك المكتبات التي تتكاثر مثل الفطر ؟ كما أنني لا أفهم لماذا تخاف السلطة في الجزائر من فتح نقاش واسع وصريح على مستوى وسائل الإعلام كلها حول جذور ومفردات هذا الفكر العدمي المتخلف ؟ - تدّعي الزوايا الابتعاد عن السياسة ولكنها تدعو للمشاركة في الانتخابات، كيف تفسر هذا التناقض ؟ أحبّ أن أوضح هنا أني لا أعبر سوى عن رأيي الخاص الذي لا يلزم أحدا غيري. على هذا الأساس أقول: أنا لا أرى أنه من مصلحة الزوايا أن تتدخل في الشأن السياسي. لكني في الوقت نفسه ألاحظ أن بعضها يدعم المسارات السياسية التي يرى أنها تصب في مصلحة البلد. هذا نهجهم وهم أحرار فيه. لكني شخصيا لا أحبذ ذلك. أتصور أن الطرق الصوفية والزوايا ينبغي أن تكون مستقلة عن السلطة والسياسة بأقصى ما يمكن، حتى لا تفقد مصداقيتها في الجانب المرجعي الديني والروحاني. -ماذا يمكن أن تقدمه الزوايا للمجتمع الجزائري الذي يعاني جزء منه من عدة أمراض اجتماعية ونفسية هذا من جهة، ومن جهة ثانية طغيان المادة ؟ في هذا الإطار كنت قدمت مجموعة من المقترحات إلى الملتقى الذي نظمته زاوية سيدي سالم الرحمانية بالوادي حول موضوع "دور الزوايا في المحافظة على المرجعية الدينية والشخصية الوطنية". ومنها: ضرورة تجديد دور الزوايا والطرق الصوفية، رؤيتها وأدواتها ووسائلها، في جميع المجالات: الروحانية والتعليمية والعلمية والثقافية والإعلامية والاجتماعية وغيرها، وصولا إلى إيجاد نخبة صوفية جزائرية ذكية، ما يزال ينتظرها الكثير من العمل والكثير من الجهد العلمي البحثي الأكاديمي، من أجل تأسيس خطاب صوفي جديد يتمكن من استقطاب الجيل الجديد ويسلّط الضوء على مختلف الجوانب المتعلقة بالثقافة الصوفية وعلاقتها بالواقع الجزائري في جميع أبعاده، التاريخية والراهنية والمستقبلية. ومنها ضرورة تجمع الزوايا والطرق الصوفية في هيكل تمثيلي حقيقي له رؤية مشتركة وبرنامج عملي واضح. ومنها ضرورة كتابة ونشر تاريخ الزوايا في الجزائر وعلاقتها بمختلف أوجه العمل الوطني والحركة الوطنية، وذلك من خلال الوثائق المتوفرة على المستويين الداخلي والخارجي. ومنها ضرورة الارتفاع بالزوايا إلى دورها السابق بوصفها مرجعية دينية علمية وروحانية واجتماعية ثقافية، وذلك من خلال تأسيس معاهد حقيقية على مستوى عال من الكفاءة العلمية والروحانية، بالتفاعل مع مختلف القدرات والكفاءات الوطنية والمغاربية والعربية والعالمية في هذا المجال، لأن التصوف لا ينبغي أن تحده الحدود الجغرافية. ومنها ضرورة تجديد أساليب ومنهجيات العمل على مستوى الزوايا والطرق الصوفية، من أجل تغيير الصورة النمطية السلبية التي توحي بالتقوقع على الذات والجمود والانغلاق، والموجودة في أذهان الشباب حول الزاوية، من أجل الانفتاح على الواقع والانخراط أكثر في نشاط المجتمع المدني والاقتراب أكثر من رؤية وطموحات وآمال الأجيال الجديدة من الشباب الجزائري، وذلك من خلال الانخراط في العمل الجمعوي بأساليبه الحديثة وتأسيس المكتبات ومراكز البحث وفضاءات الأنترنت والنوادي الثقافية والعلمية المنفتحة على النقاش والحوار الحر والبناء في مختلف المواضيع التي تقترب من انشغالات الشباب. وعلى مستوى المنظومة التربوية : المطالبة بتدريس التصوف ولو كمدخل عام ملحق بالتربية الدينية، وذلك في جميع مراحل التعليم. -هناك من يرى بأنّ التصوف مقترن بالصحراء أكثر من التلّ وبالشيوخ أكثر من الشباب، كيف هي علاقة الشباب الجزائري بالتصوف ؟ بالنسبة إلى الشيوخ والشباب، أنا أرى العكس لأني أتنقل إلى الزوايا في جميع المناطق الجزائرية، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وأجد عدد الشباب يعادل أو يفوق عدد الشيوخ. وعموما أتصور أن ثمة تعطشا إلى التصوف بين الشباب الجزائري. لكن حتى يقترب الشباب أكثر من التصوف، لا بد من تحرير الكلمة الصوفية والسماح لها بولوج المنابر الإعلامية أو بتأسيس منابر حرة تنقل خطابها إلى المجتمع ككل والشباب منه بصفة خاصة. وانطلاقا من تجربتي المتواضعة في المجال الإعلامي والبحثي ومشاركاتي في الندوات والملتقيات، أجد أني كلما تحدثت عن التصوف ينفتح الحوار وتطرح الأسئلة حول ماهية التصوف وتاريخه ومدارسه وشيوخه وواقعه ومستقبله. الشباب راغبون في المعرفة والحوار، لكن المنابر في الجزائر مع الأسف مغلقة أو شبه مغلقة في وجه الكلمة الصوفية، إلا ما قلّ وندر. -تقدم برنامجا إذاعيا حول الغناء "الصوفي"، هل من تفاصيل أكثر حول هذا الفن ؟ أقدم للقناة الأولى في الإذاعة الوطنية الجزائرية، برنامج "ناس الحضرة" الذي يبث كل جمعة ابتداء من الثانية مساء، يهتم بالموسيقى والسماع الصوفي. وهو برنامج أقدم فيه خلاصات أبحاثي النظرية والميدانية في هذا الجانب الذي أعتبره خزانا كبيرا للتراث الروحاني الوطني، كما أنه رافد أساسي من روافد الثقافة والهوية الوطنية. والفن الصوفي هو "السماع" بمصطلحات القوم، وهو فن يمارس غالبا في "الحضرة" التي هي مجلس ذكر ليس أكثر. وتأتي أهمية السماع الصوفي الجزائري من تنوع طبوعه الفنية، حيث نجد على سبيل المثال أن مدرسة الطريقة العيساوية تتحكم في جميع طبوع ومقامات المالوف بشكل رائع وبنصوص صوفية أصيلة تختلف عن نصوص النوبة الأندلسية، مع العلم أنه حتى النوبة الأندلسية عند البحث العميق، هي ذات جذور صوفية سماعية كما تقول الكثير من الدراسات الأكاديمية. فالشيوخ الذين يؤدون الفن العيساوي أو السماع العيساوي، على سبيل المثال، كانوا قديما هم أساتذة المالوف والنوبة الأندلسية أيضا، سواء في قسنطينة والشرق عموما، أو في الجزائر العاصمة أو حتى تلمسان. قديما لم يكن ممكنا أن يتخرج أحد في المالوف القسنطيني إلا إذا مر على المدرسة العيساوية. وقد كنت وما زلت أطالب بتأسيس معهد وطني للموسيقى الصوفية أو الغناء الصوفي أو السماع الصوفي الجزائري، وذلك حتى نتمكن من إخراج هذا التراث الوطني الرائع إلى العالم عن طريق شيوخ وفنانين متخصصين في هذا الشأن ومسلحين بالأدوات الموسيقية العلمية. -مشيخة الطرق الصوفية شبه محتكرة من قبل الرجال دون النساء، ما هي أسباب ذلك ؟ الواقع أن المسألة ليست مسألة احتكار بقدر ما هي مسألة ظروف تاريخية فرضت هذا الواقع. ومع ذلك عندنا نماذج من نساء جزائريات استلمن مشيخة الطرق الصوفية. ويمكنني هنا أن أذكر على سبيل المثال لا الحصر، لالة زينب بنت سيدي محمد بن بلقاسم التي استلمت مشيخة الزاوية القاسمية في الهامل بعد وفاة والدها، وكانت احتراما لمقام والدها ورجال العائلة القاسمية، لا توقّع "شيخة الزاوية" بل توقع "قائمة مقام الشيخ"، مع أنها كانت في الواقع تمارس مهام شيخ الزاوية. وعندنا مثال آخر من طريقة سيدي بلال أو "قناوة" كما تسمى أيضا، حيث نجد أنهم في مستغانم كانت عندهم "مقدمة" تسمى لالة الزهور. ففي الطرق الصوفية ليس ثمة منع أو تحريم أن تكون الشيخة امرأة، لكن المسألة غالبا ترتبط بظروف وملابسات واقعية ترتبط بالثقافة والتاريخ وتتأثر حتما بطبيعة المجتمعات العربية والإسلامية منذ القرن الأول الهجري، وهي مجتمعات بترياركية (أبوية أو ذكورية) في الغالب. -يعتقد البعض بأنّ أتباع الزوايا يقدّسون ما يعرف بالأولياء الصالحين ويعتقدون بقدرتهم على تحقيق الرغبات كما يمارسون بعض الطقوس القريبة من الوثنية، بم ترد على هذا القول ؟ ليس في الطرق الصوفية شيء اسمه وثنية، كما إن الصوفية لا يعتقدون بأن الولي الصالح هو من يقضي حوائج الناس، بل لقد انعقد إجماعهم وإجماع المسلمين جميعا على أن الفاعل الحقيقي والمؤثر الحقيقي في الأشياء كلها هو الله تعالى وهو الذي يقضي الحوائج. كما أنّ الصوفية لا يوجهون الناس إلى دعوة الأولياء والصالحين بشكل مباشر. المسألة هي أن الصوفية يتوسلون بالأولياء والصالحين ويتبركون بمقاماتهم وآثارهم، يعني أن يقول الإنسان مثلا: اللهم إني أسألك بجاه فلان من الصالحين، وهذه مسألة مشروعة بنصوص الكتاب والسنة الصحيحة، والنقاش الفقهي يطول كثيرا في مثل هذه المسائل. لكني أشير إلى غياب التوجيه الديني والروحاني الذي نتج عن تغييب المرجعية الصوفية من الساحة الوطنية بعد الاستقلال، ما نتج عنه بالضرورة ظهور بعض المسلكيات والممارسات الشعبية الغريبة عن التوجيه الصوفي الأصيل. أقول بعض الممارسات وليس كلها، لأن بعض الممارسات الصوفية الشعبية في الأضرحة والمزارات مشروعة أيضا. وقد فرض الله تعالى في القرآن الحكيم تقديس مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، بل وأمر باتخاذه مصلى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) مع العلم أن مقام إبراهيم الذي يصلي عنده المسلمون بمقتضى النص القرآني، ليس سوى آثار قدمي سيدنا إبراهيم على الحجر الذي كان يقف عليه ليُمد ابنه سيدنا إسماعيل عليهما السلام بالأحجار عندما كانا يبنيان الكعبة المشرفة، ليس أكثر. من هنا فإن النقاش في مسألة ما هو "وثني" وما هو "غير وثني" من الطقوس والشعائر الإسلامية في التصوف أو خارج التصوف، هو نقاش نسبي جدا. -اختار التيار السلفي في مصر دخول اللعبة السياسية من خلال مشاركته في الانتخابات التشريعية التي احتل فيها المركز الثاني بعد حزب الإخوان، هل ترى بأن هذا التيار تطور بحيث أصبح يؤمن بالتعددية وبالطرق السلمية للوصول إلى الحكم ؟ وهل تعتقد بأنهم يمتلكون مشروع مجتمع شامل (سياسي، اقتصادي، اجتماعي، ثقافي) غير أقوال السلف وادعاء امتلاك الحلول السحرية لكل المشاكل كما يتهمهم البعض ؟ لا أتصور أن السلفيين في مصر أو خارج مصر، يملكون مشروع مجتمع، لأن فكرهم أصلا عدمي، مبني على إقصاء الآخر وكل من لا يفكر مثلهم. كما إن تعامل "العقل" السلفي مع النص الديني (القرآن والسنة) هو تعامل عقيم وغير منتج، ليس منذ اليوم، بل منذ القرن الأول الهجري، فهم لا يعرفون سوى لغة التحريم والإقصاء والتكفير. لذلك أقول إن وجودهم اليوم في الواجهة السياسية المصرية وغير المصرية، ليس سوى ديكور يراد من ورائه تحقيق أجندات غربية معينة. من جانب آخر نلاحظ أنه حتى بقية الإسلاميين من غير السلفيين (الإخوان المسلمون على سبيل المثال) لا يملكون مشروع مجتمع، بل إنهم إلى اليوم لم يتمكنوا من الإجابة بشكل واضح عن مسائل شديدة الحساسية في حياة الإنسان المعاصر، ومن بينها: طبيعة الدولة (دينية أم مدنية)، الموقف من الديمقراطية، المرأة، الحريات الفردية والجماعية، حقوق الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية، الإبداع والفن، وغيرها من المسائل. -انتشرت في السنوات الأخيرة فتاوى غريبة أثارت كثيرا من ردود الأفعال مثل: فتوى إرضاع الكبير، فتوى التبرك ببول الرسول صلى الله عليه وسلم، جلد الصحفي الذي يكتب عن صحة الرئيس... الخ، كيف تنظر إلى هذه الفتاوى، وهل تجيب على الأسئلة الكبرى التي تواجه واقعنا ؟ هذا السؤال مرتبط بالذي قبله. والمسألة كلها تتلخص في أزمة العقل المسلم الذي أصبح غير منتج على المستوى الفقهي منذ تقرر إغلاق باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري. لذلك شخصيا لا أستغرب صدور هكذا فتاوى وأعتبرها ببساطة خارج التاريخ بل حتى خارج الجغرافية، لأنه لا يمكن أن يكون لها مكان سوى ضمن جغرافية التخلف التي ما زال المسلمون يعيشون داخلها مع الأسف الشديد. -خلال الأزمتين الليبية والسورية تدخّل الفقيه في السياسة، هل من السهل على رجل الدين فهم عالم السياسة المعقد والتدخل إلى جانب طرف ما على حساب طرف آخر ؟ طرح علي هذا السؤال من قبل في ما يخص حالة الشيخ القرضاوي، فكان جوابي كما يلي : الشيخ القرضاوي أصلا لا يعتبر شخصية بريئة من الناحية الدينية بالمعنى العلمي الأكاديمي الدقيق، لأنه ينتمي سياسيا إلى جماعة الإخوان المسلمين أو بتعبير أدق "التنظيم الدولي للإخوان المسلمين". وهو بهذا الاعتبار غير بريء لجهة الآراء والفتاوى الدينية التي يصدرها، وبخاصة إذا ارتبطت تلك الفتاوى بالشأن السياسي. من جانب آخر، نلاحظ أن القرضاوي تحول في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه مخلب قط لدى بعض المواقع الإعلامية وبخاصة قناة "الجزيرة" التي تحولت مع "الربيع العربي" إلى آلة حرب أكثر منها وسيلة إعلام، على أساس الإغراض الواضح في بعض تغطياتها إن لم نقل الكثير منها أو أغلبها. ومعلوم أن "الجزيرة" وظفت القرضاوي، وربما هو استغلها أيضا كمنبر إعلامي أو سلاح إعلامي، وذلك من خلال برنامجه "الشريعة والحياة". والجميع يذكر كيف أن القرضاوي خلال تسعينيات القرن الماضي أفتى على المباشر في "الجزيرة" بشرعية العمل الإرهابي في الجزائر على أساس أنه "جهاد في سبيل الله". حتى أنه منع من دخول الجزائر حتى سنة 2000. أتصور أنه لا ينبغي لرجال الدين أن يحشروا أنفسهم في الشأن السياسي، لأنهم يوجهون الناس جميعا ومن مختلف الحساسيات الأيديولوجية والسياسية والانتماءات الحزبية. فإذا تدخل رجل الدين في الشأن السياسي فقد تحزب. وإذا تحزب تخلى عن وظيفته أو أصبح يمارسها بغير نزاهة في أحسن الأحوال. وفي هذه الحال لا يمكن أن يكون شخص مثل القرضاوي بريئا ولا بعيدا عن تأثير بعض المواقع واللوبيات هنا وهناك. ومن خلال تدخله في الأزمات التي عاشتها وتعيشها بعض البلدان العربية، أثبت القرضاوي أن خطابه الإفتائي يكيل بمكيالين بل ويخدم أجندات خارجية بشكل جد واضح إلا لمن لا يريد أن يرى. وهذا الأسلوب ليس من شأنه أن يساعد على حل الأزمات العربية، بل سيؤدي إلى المزيد من التعقيد على مختلف الساحات العربية.