يتصارع أمام مدخل بيته مع عدد كبير من قوارير المشروبات الغازية والعصير ومواد غذائية أخرى متنوعة، وعندما تسأله عن المناسبة وإن كانت البلد مقبلة على أزمة من نوع ما؟.. يبادرك: شهر رمضان على الأبواب، والناس كالجراد لا يتركون شيئا في الأسواق.. وينسي المسكين أو يتناسى أنه عنصر أساسي فعّال في سرب الجراد الذي يتحدث عنه. شهر رمضان الفضيل، هو مناسبة للعبادة وقراءة القرآن والعمل الصالح، هكذا يخبرك أغلب من تسألهم عن هوية وخصائص ذلك الشهر الكريم، لكن القليل فقط هم الذين يحاولون الزهد خلاله في الطعام والشراب.. زهد لا يعني حرمان الجسم من حاجاته الأساسية التي تجعله قادرا على الصيام والقيام وأعمال البرّ والإحسان، لكنه زهد نسبي يتناغم مع الحد المعقول من الطعام والشراب خلال الإفطار والسحور، ولا يصل إلى التوسع غير المحبب في الكماليات، فضلا عن الإسراف والتبذير المنبوذ شرعا وعقلا في رمضان وسواه من شهور السنة. في إحدى سنوات المرحلة التعليمية المتوسطة حكى لنا أحد الأساتذة الفضلاء عن قصة "وعي اقتصادي شعبي"، والحكاية تحديدا هي أزمة متوقعة في مادة البطاطا بكّرت الجهات المسؤولة في حكومة عربية بالإعلان عنها، حين بدا لها أن الموسم الزراعي على غير ما يرام، وهكذا دعت تلك الجهات المسؤولة الواعية الشعب إلى ضرورة الاقتصاد في استهلاك مادة البطاطا خلال تلك السنة. نسبة التعليم والوعي عند ذلك الشعب العربي كانت متقدمة في ذلك الوقت، وما حصل مع تلك الأزمة المتوقعة هو العكس تماما، حيث توفرت البطاطا بشكل معقول في الأسواق... ما حدث كان نتيجة التحرك الشعبي العفوي البسيط؛ فأغلبية المواطنين خففوا من استهلاك البطاطا أو استغنوا عنها تماما، وهكذا حافظت على تواجدها وأسعارها في الأسواق. وفي بلادنا تكررت "الرمضانات" التي ترتفع فيها أسعار المواد الغذائية، ومنها البطاطا، لتتحول المناسبة الدينية الروحية إلى مشاحنات ومناوشات مؤسفة بين التجار والمواطنين والمؤسسات الرسمية المعنية، ويتبادل الجميع التهم، لينساها الجميع أيضا عند حلول عيد الفطر المبارك دون أن تكون محطة لاستخلاص دروس حقيقية من هذه المشكلة يمكن أن تشكل معطيات أولية لتفادي الأمر في العام التالي. أحاديث من هنا وهناك تزدهر في رمضان حول اللوبيات والمافيات المستفيدة من ارتفاع الأسعار وإرباك المواطن والمؤسسات المعنية، وما نتمناه، ونحن نستقبل رمضان هذا العام، أن يكون ذلك الأمر من نسج الخيال فقط وأن تكون بلادنا بعيدة عن هذا المستوى المتردي، وأنها لم تصل بعد إلى أن يكون قوت المواطن الأساسي، وخاصة في شهر رمضان المبارك، رهن أيادي السماسرة وأغنياء الأزمات يتحكمون فيه كما يريدون.. نتفاءل خيرا ونتصور أن اقتصاد بلادنا، رغم ما فيه من دخن، ما زال بعيدا عن مرحلة الفساد الكامل الشامل. إن الاقتصاد كما تعرّفه إحدى الموسوعات هو: "العلم الاجتماعي الذي يهتم بتحليل الأنشطة التجارية، وبمعرفة كيفية إنتاج السلع والخدمات. ويَدرس علم الاقتصاد الطريقة التي تُنتج بها الأشياء التي يرغب فيها الناس وكذلك الطريقة التي توزع بها تلك الأشياء. كما يدرس الكيفية التي يختار بها الناس والأمم الأشياء التي يشترونها من بين الحاجات المتعددة التي يرغبون فيها". نعم إن الاقتصاد سلع وخدمات وعرض وطلب، لكن "مربط الجمل" يكمن في نهاية التعريف السابق ذكره، حيث نجد المواطن، المشتري والمستهلك، لاعبا أساسيا في ميدان الاقتصاد، بل اللاعب الأكثر تأثيرا في مجرياته، ومن خلاله يمكن أن يتعافى الاقتصاد ويزدهر بشكل سليم، أو يأخذ طريقه إلى مسالك قد تورده المهالك. ما أجمل أن تكون مناسبة شهر رمضان في بلادنا فرصة نساهم فيها، نحن المواطنون الصائمون، في حماية الاقتصاد الوطني عبر الوعي الذي يتجلى في تنظيم مشترياتنا وتحكّمنا في مآكلنا ومشاربنا، وعدم الاستسلام لسماسرة السوق الصغار، والكبار الذين وراءهم، أولئك "القوم" الذين أثبتوا دائما أنهم على أتم الاستعداد لممارسة لعبة القط والفأر مع المواطن كلما لاحت لهم الفرصة، فكل مادة يكثر حولها الطلب يسارعون إلى رفع أسعارها إلى ما يشبه الخيال، وما قلّ عنه الطلب سارعوا إلى تصريفه بأي شكل من الأشكال. إن الحل بسيط جدا وفي يد المواطن الواعي بالدرجة الأولى، فكل سعلة يغالى التجار في سعرها يبادر هو إلى تركها، أو التقليل منها على الأقل، والبحث عن بديل آخر لها، وسنلاحظ بعد ذلك أن عزوف نِسبٍ محدودة فقط من المواطنين عن السلع غالية السعر سيجبر السماسرة على التراجع وتغيير مواقفهم ، فكيف إذا صارت نسبة المقاطعين أكثر من المقبلين المستهلكين. لقد بادرت الجهات المسؤولة هذا الموسم إلى التشديد على أسعار مرجعية في عدد من المواد الأساسية خلال شهر رمضان المبارك، لكن المنطق والعرف والتجربة تؤكد أن الرقابة المطلقة على التجار أمر أقرب إلى المستحيل بالنسبة للجهات الحكومية، فلا يمكن نصب جهاز أو فريق على رأس كل تاجر ولمدة أربع وعشرين ساعة.. وهنا تظل رقابة المواطن هي الأكثر صرامة وفاعلية، حين يرفض شراء أي سلعة يرى أن سعرها خارج نطاق المعقول.. فلنبادر جميعا ونقول لأولئك "القوم": لقد ولّى ذلك الزمن الذي تستغفلون فيه المواطن وتنشرون الشائعات في طريقه لتقودونه بعد ذلك من بطنه إلى الأسعار الذي ترغبون والربح الذي تريدون.