لا يتعجّب العاقل لما يجري في هذه الأمة، وقد تصدّر علماؤها الدينيون وأتباعهم الواجهة السياسية، حتى أصبحوا كالغربان تدل على طرق تشعّبت مسالكها، خاصة بعدما دمّرت أمريكا بفتاويهم بوابة الأمة الشرقية، حينما احتلت العراق بدعوى نشر الديمقراطية التي هي ما كان ينقص العرب والمسلمين، والدفاع عن حقوق الإنسان التي هُدِرت في بلادهم، وعلى أطلال بغداد تمّ التأسيس للطائفية بكل أنواعها، من خلال أذرعها الإعلامية التي عملت على نشر مئات الفضائيات التي استدل بها الغزاة الجدد، على توطين الحرية التي جاؤوا بها على ظهور الدبابات، فراحت هذه الفضائيات تُروِّج للفتن والاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، تحت مظلة الدِّين، الذي اكتشف العراقيون فجأة فيه أنهم منقسمون إلى سُنَّة وشيعة، وكل طائفة منهما تنقسم إلى عشرات الملل والنِّحل التي لا يتحمَّل بعضها العيش مع بعضه، ولم يعد بينهما مِن حَكَمٍ سوى السلاح، حتى أصبح البيت الإسلامي في قلب اللهب، ليس في العراق وحده، إنما في كل شبر من الأرض التي رفعت بالأمس لواء الجهاد ضد الاحتلال، والتي يبدو أنها استبدلته اليوم بلواء الجهاد ضد الاستقلال ! اجتمعت مؤخَّرًا في القاهرة ستٌّ وسبعون 76 رابطة ومنظَّمة »إسلامية« جاءت من كل صوب متهالك وحدب متساقط، ليبحث أعضاؤها ومشايخها أسباب الحرائق التي تُشعِل بعضها بعضا كلما هبّت عليها رياح الإطفاء، وبعد أيام من الدراسة والتمحيص وتحديد الأسباب توصّل »الزعماء« إلى ما أسموه »موقف علماء الأمة« ولا يدري أحد هل هي أمة الإسلام أم أمة الناتو، خاصة بعدما ضبطت موقفها على إيقاع سياسة الغرب المتصهين، فأقرّت أن النظام السوري هو السبب الأول والأخير والوحيد، فيما يتعرّض له المسلمون وما يتهدّد الإسلام، وأن ما يجري في سوريا هو »إعلان حرب على الإسلام والمسلمين« ومن ثم »لا بد من النفرة والجهاد بالمال والنفس والسلاح« حتى أن كبير شيوخ التحريض على القتل والتدمير، تمنّى لوكان شابا حتى يجاهد في سوريا الكافرة الملحدة، التي تمنع الإسلام من الانتشار والمسلمين من تحرير أراضيهم المغتصَبة، ولكن أصحاب الفضيلة لم يُعلِنوا يوما- كما لم يعلِن أصحاب الجلالة والسمو والفخامة- الجهاد في فلسطين التي بحّ صوتها على مدى أكثر من ستين عاما، ولم يسمعوا الاستغاثة المتواصلة التي أطلقها منذ ستٍّ وأربعين 46 سنة المسجد الأقصى المهان، وهو ثالث الحرميْن وأولى القِبلتيْن للمسلمين حينما كانوا كذلك، قبل أن يتآمرك بعضهم أو يتروّس نسبة إلى روسيا بعضهم الآخر، أو يفقد طعمَه البعض الثالث، كما لم يروا المشاهد المرعبة، التي نقلتها تلفزيونات العالم عن حالة مسلمي ميانمار، فلربما اعتبروا كل ذلك فصلا من فصول حوار الأديان ! الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط، والذي حوّله تضارب المصالح الحيوية للأقوياء إلى جنون متبادل، قسّم المنطقة سياسيا على حِلفيْن: أحدهما تقوده أمريكا المتصهينة ومعها الغرب، ومَن والاهم من عربٍ سُنَّةٍ وشيعة، ممن يفضلون المهادنة والمباطحة إلى درجةٍ جرّتهم إلى سقوطٍ مخزٍ في أحضان الولاياتالمتحدةالأمريكية، والآخر روسي صيني وراءه دوَلٌ من مختلف القارات، ترفض الهيمنة والانضواء تحت سور القطب الواحد، ومعها عرَبُ كذلك، بسنّتهم وشيعتهم ممن ينادون بالمقاومة والممانعة، وقد حوَّل قصيرو النظر- حتى لا أقول العملاء- هذا الصراع إلى حرب إسلامية إسلامية، وأعادوا إحياء ما دفنه معاوية رضي الله عنه وعليٍّ كرّم الله وجهه، حيث اكتشف فيها بعض السنة أن الشيعة هم أشد كفرا من اليهود، كما اكتشف بعض الشيعة أن السنّة هم أخطر على الإسلام من الملحدين، كما اكتشفوا فجأة أن إيران تريد تشييع أهل السنة من عرب وعجم، وهنا يتساءل المواطن البسيط كحالي: هل إيران الإسلامية كانت سنّية في عهد الشاه، ولذلك لم يثيروا حولها كل هذه الزوابع، وأنه وحده الخميني هو مَن شيّعها، وجعل منها خطرا دينيا داهمًا يراه الخليجيون بعيون صهيونية دون غيرهم ؟ ثم مَن أطاح بحكم السنة في العراق قبل عشر سنوات، وحوّل هذا البلد إلى مشتلة خصبة للطائفية الدينية، أصبح في ظلها العرب أعداء بعضهم البعض، وراح موظَّفو الإفتاء في عواصمهم السياسية، يوقظون النعرات والأحقاد النائمة، التي كان يلجأ إليها الحاكم قديما وقريبا كلما شعر بضعف حجته، فيدعون إلى الجهاد في بلاد المسلمين وهم الذين شُلَّت أفواههم وتعطّلت ألسنتهم عن حديث الجهاد في فلسطين، التي لم يعد مغتصبوها يقضمون بعض أجزائها كما كانوا يفعلون زمن المقاومة المسلحة، بل مضوا يلتهمون ما بقي منها، تاركين لشعبها سجن غزّة يموت فيه حيًّا،ويمكن إغراقه في البحر متى أُريدَ ذلك، والأخطر في فتوى الجهاد الذي أريدَ بها باطل، أن الاقتتال بين الأشقاء الذي اجتهد في إقرار »جهاديته« لن ينتهي بإسقاط الأسد كما يشتهي هؤلاء، إنما ستتوارثه أجيال وأجيال قادمة قسّمتها الفتاوى، تلبية لحاجة غربية صهيونية بحتة، إلى سنة وشيعة وإلى عشرات الطوائف يتم إخراجها إخراجا من صلب الطائفتين . تُذكِّرني فتاوى شيوخ القبائل العربية المعاصرة- التي تعيش خارج مجال العصر- بتلك الفتاوى التي كانت تُصدرها المؤسسة الدينية الجزائرية- الموالية لفرنسا أيام الاحتلال الفرنسي للجزائر، حيث كانت تُفرمِل الجزائريين كي لا يثوروا ضد الاحتلال، بتصوير هذا الأخير على أنه قضاء وقدر، ومَن رفضه فكأنما رفض إرادة الله فهو كافر، وسوريا العربية هي ضحية نظامها السياسي أولا وضحية معارضتها ثانيا، وكان الأجدر بالسكان التاريخيين لهذه الجغرافيا- مسلمين ومسيحيين، سنّة وشيعة، دروزا وأكرادا ومن كل الإثنيات- أن يعملوا على تضييق الهوة بين الشقيقيْن المتقاتليْن، والتي زادها الغباء والأنانية وقصر النظر لدى نظام الحكم العربي اتِّساعا كيْ لا يطول الصراع- وهو رغبة صهيونية- ويتعفّن الوضع، وهو ما يمثِّل خطرًا كبيرًا على الدولة السورية، التي ستكون إرثا هزيلا لأيٍّ من المنتصرين- إن كان هناك منتصر فعلا- من الطرفيْن المتحاربيْن اللذين تجاوز ما فعلاه في الشعب السوري ما لم يفعله العدو بعدوّه، إنه سيناريو مضبوط الحِبكة،فضحه وزير الخارجية الفرنسي الأسبق لوران ديما بقوله، إنه خُطِّط له قبل عامين لفائدة إسرائيل،من طرف بريطانيا التي دعته إلى المشاركة فاعتذر: إغراق الخارطة العربية في صراعات طائفية وإثنية، وتكوين تكفيريين أو فيالق »صحوة« من صلب كل طائفة، تمارس غواية القتل، وتُسرِّع بإعادة تقسيم المقسَّم، ومَن يحاول رفع صوته من دول الجوار، تُوكَل مهمة تأديبه إلى الشرطي الذي زرعته معدة السيناريو منذ وعَدَه »بلفورُها« وراح الغرب يرعاه بكل أنواع القوة والبطش، وإذا كانت الأجيال السابقة تأمل في توحيد جغرافية العرب بل والمسلمين، فإنه مع كل ما يصنعه السفهاء بهذه الأمة، لم يعد أمام الجيل الحالي سوى أن يحلم فقط بإبقاء الموروث من الأرض على ما هو عليه، إنني لا أدري هل هذه الأمة أجَّرت فكرها إلى أعدائها واختبأت في مغارة، لا تخرج منها إلا بعد حين من الدهر، أم أنها ترى ما لا يراه الرافضون لحياة الذل والهوان ؟ ولكن الأكيد أنها أمة وضعت رأسها في الرمل وتركت جسمها ينهشه الأعداء ...