قد يكون من أصدق الناس تشخيصا لظاهرة التخنّث اللساني والهجانة اللغوية، الراحل قاصدي مرباح الذي قال لمحدِّثه قبل ما يزيد عن العقديْن من الزمن: »لا تثِقْ إلا فيمَن يفكِّر بلغته الأم« وما التعثّر المتعمَّد لتعميم استعمال اللغة الوطنية، إلا دليل على فساء الوعاء الذي يغرف منه المندسون الكُثر في مفاصل الدولة، بمباركة القائمين على إدارة شئون المجتمع، فكل الزعماء الذين مرّوا بجزائر ما بعد الاستقلال، أصابتهم لوثة خبيثة حينما لم يفكروا بلغتهم، حتى وإن كتبوا أو تحدثوا بها إلى الناس، ولم تقتصر تلك اللوثة عليهم وحدهم، بل أصابت أجيالا متلاحقة بما يُشبِه الانفصام في الذات، البعض منهم ركب اللغة للحصول على وظيفة يعتقد أنه يضمن بها حياته وحياة أبنائه، بينما ركبت اللغة البعضَ الآخر بسبب عقدة النقص الذي نقلها إليه- عن طريق العدوى- المرضى بفقدان الشخصية، والبعض الثالث مركوب باللامبالاة، فهو تائه يبحث عن أيِّ شاطئ مهما كانت مخاطر الرُّسوّ فيه، غير أن السيّئ في المسألة اللغوية أن يكون المسئول أميًّا في لغته، ولكن الأسوأ منه أن يتخلّى المسئول عن لغته ويعير لسانه إلى لغة أخرى يخاطب بها شعبه، ولا أكون مبالِغا إذا قلت إن التفريط في اللسان الوطني كان إحدى كُبَرِ المأساة الوطنية، لأن اللغة- كما قال العلماء وذكرناه في أكثر من مرة-هي وعاء الفكر، ومَن لا وِعاء له لا فِكْر له، ومَن جعل وعاء غيره حيِّزًا لتفكيره أضاع نفسه وأضاع معه من يُفكِّر لهم، والمسألة لا تحتاج إلى برهنة فالجزائر التي كانت تُرشِّحها كل الدراسات للخروج من دائرة التخلف مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، جعلها الفكر العقيم المقيم في ذهنية وسلوك بعض المسئولين الجزائريين تقترب من الحالة الصومالية في نفس الفترة، لولا لطف الله ويقظة المخلصين الأوفياء لتضحيات أولئك الذين استُشهِدوا من أجل جزائر أصيلةٍ تُبدِع في إطار »وعائها« الجامع الواحد الموحِّد . لم تكن للمرضى بحب لغة الغالب المغلوب، ولا للمستلبين المفصولين عن جذورهم الحضارية، الشجاعة الكافية كي يُعلنوا عن حالتهم الشاذة إلا مع حكومة "الإصلاح" الأولى الذي قاد سفينتها إلى قلب العاصفة مولود حمروش طيّب الله ذِكْرَه، وتركها تصارع الأمواج وحدها من غير أن تكون هناك وسائل للنجدة أو الإنقاذ، فقد شرّعت »للمثلية« اللغوية التي كانت محرَّمة في الجزائر، وبدأ بعض المسئولين الجزائريين- الذين كانوا يتحرجون من الحديث باللغة الأجنبية لنقصٍ في معرفة لغتهم، أو لخوفٍ من أن يُتهَموا بالترويج للغة الاستدمار- يتسابقون في الحديث بالفرنسية،عبر الاجتماعات الرسمية وعلى شاشة اليتيمة دون ترجمة أو دبلجة، مما جعل رئيس الحكومة يومئذ يتجرّأ على القول إنها لغة وطنية، وعندما ثارت ثائرة المجتمع المدني الحقيقي في ذلك الوقت، تدخل الراحل عبد الحميد مهري رحمه الله ليُفسِّر ما لا يُفسَّر: بأن رئيس الحكومة ما كان يقصد أن يجعلها في منزلة اللغة العربية، إنما كان قصده أنها في التعامل اليومي، تُعتبَر نشاطا وطنيا كأيِّ ممارسة وطنية، وذلك في دفاعه عن حكومة الجبهة المركوبة دائما من كل الحكومات الباحثة عن شرعية لم تستطع اكتسابها شعبيا، وشيئا فشيئا تحوَّل الشذوذ إلى قاعدة في غيابٍ مُريبٍ لتطبيق القانون، حتى راح معظم الجزائريين البسطاء يتسابقون في الحديث بهذه اللغة، ولو كانت فرنسية عرجاء أو هجينا من عدّة لغات، وأصبح لهذه النزعة أنصار من حزب المصلحة الذي ظل يكبر على حساب مبادئ الأمة . تتعرّض اللغة الوطنية الرسمية إلى هجْمةٍ شرسة لم يسبق أن شهدتها، لا لنقص في عدد الدارسين والمتخرِّجين بها، ولا لضعف أصابها كلغة عمل وعلم واتصال، في نفس الوقت تعمل جهات- تبدو نافذة- على تسويقٍ محكم الإعداد للغة الفرنسية، كلغة إبداع وتكنولوجيا وتطور لا يمكن إبدالها بأيِّ لغة أخرى ولو كانت وطنية أو رسمية، وقد ساعدها في ذلك انعدام الإرادة السياسية في توطين واحد من أهم أسس السيادة الوطنية وهو اللغة، وغياب صرامة الدولة، وتحييد القوانين الضابطة، حيث تعدّى استعمال اللغة الأجنبية،جلسات العمل الرسمية في الإدارة، وتجاوز تمدّدها النتن البرامج السمعية البصرية، سواء في التلفزيوني العمومي أو في تلك الفضائيات المستنسخة منه، والتي لا تخضع للقانون الجزائري، مع أنها ترمي المجتمع من فوق بما يرمي به الطير الجالسين تحته، وتخطَّى نشرها كل الحدود إلى أن وصل حدّ تلقين الأطفال في دُور الحضانة أو في سنِيِّ التدريس الأولى الأناشيد والأغاني الفرنسية التي تقوم الدكاكين الفضائية المشبوهة بإرسالها عبر الأثير، ويضطر القادمون للعمل في الجزائر من مختلف الجنسيات، إلى تعلّم اللغة الفرنسية وإن لم يقدروا على ذلك تطوّع أو أُجبِر محيط الإدارة الجزائرية على تعليمهم إياها، حتى يمكنهم التواصل مع بعض شرائح المجتمع المهمة، بينما تُقصى اللغة الوطنية وتُحجَب، وتُحشَر- في دارها- بين طقوس الدعاء للأموات ومراسيم قراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، ولأن حال اللغة في أهلها كذلك، فقد استغنى أيضا عنها بعض الأجانب المقيمين في الجزائر، ولا بأس أن نقدِّم مثالا واحدا من شارع الشهداء، حيث سفارة الصين- التي يرتبط شعبها بالجزائر بعلاقات قديمة متينة- فقد استبدلت هذه السفارة- لوحات مداخلها التي كانت من قبل مكتوبة باللغتيْن العربية والصينية- إلى الفرنسية والصينية، دون أن يسألها أحد ممن بيده طبعا حق السؤال عن سر هذا التحوّل المبني على المصلحة الصينية أولا وأخيرا. ما دامت الإرادة السياسية منعدمة، سواء من الجهاز التنفيذي أو الأحزاب التي تدّعي الفاعلية، فإنه لم يبق إلا أن تنتفض النخب الحقيقية، من أكاديميين باحثين، وسياسيين مخلصين،وإعلاميين مهنيين، ومثقفين أصيلين حداثيين، وليتخذوا من نظرائهم الفرنسيين- أليست فرنسا بوابة بعضنا نحو الغرب وربما العالم- مثالا وقدوة، أو يتسنّنوا على الأقل بمسئولي فرقها الرياضية، حيث فرض فريق فرنسي لكرة القدم على أحد لاعبيه الأجانب، إتقان اللغة الفرنسية إذا ما أراد قيادة الفريق، فقد نستطيع تصحيح المسار الذي تكاثرت اعوجاجاته، وربما نفكِّك الألغام- التي زرعها المحتل الراحل، ورعيناها نحن بالتواطؤ والصمت واللامبالاة، ونزيلها من على طريق الأجيال القادمة، التي قد تتنكر لكل ما يجمعها بالتاريخ في لحظة تيه أو جنون، نتيجة تناقضات سيرة ورثته، فتضع كل الجغرافيا في مزادات البيع العلنية، وتلك-إن حدثت- ستكون أكبر لعنة من لعنات الشهداء التي يصيب بها السفهاء الأمة في وحدتها لا قدّر الله ... [email protected]