يتبادل المتعلمون والمثقفون التفاؤل والتشاؤم في حديثهم عن مدى انتشار لغتهم الوطنية الأولى اللغة العربية في بلادها وبين أهلها، وراحوا يتفاوتون في أحكامهم على مدى استجابتها لمتطلبات العصر، ومهما كان منهم من تباين فإن الثابت أنه لن يستقيم الظل والأصل أعوج ! مازالت اللغة العربية تتعثر بين أبنائها، رغم ابتعاد فترة الاحتلال التي عانت فيها ُهويّة الشعوب كثيرا، إذ تعرضت اللغة باعتبارها جوهر هذه الهوية، إلى التشويه والإقصاء والنعت بكل النعوت المنحطة، وتعاني هذه اللغة في الدولة العربية الوطنية الحديثة من عقدة العُصَب الحاكمة تجاه لغة المحتل، حيث تتقاسم اللغتان الإنجليزية والفرنسية جغرافية العرب وتحتلان مواقع متقدمة في تفكير النخب التي تدير مختلف شئون هذه الدولة، فبدت هذه الحالة غير السوية وكأنها امتداد طبيعي للأحقاب السابقة، مما أثر سلبا على الانتشار اللغوي الواجب حدوثه في تنمية المجتمع العربي من أجل استعادة لسانه وهويته، ومن ثم المرور السلس إلى مستقبله الذي وضع له معالمه الشهداء، وجعلت النخب المنتجة تصاب بالكسل والخمول والإعراض عن الإبحار في محيط هذه اللغة، فخلال ما يناهز الأربعين عاما لم يزد إثراؤهم للغتهم من اللغات الحية الأخرى عن سبعة آلاف بحث فقط، احتلت العربية بهذا الكمّ الهزيل المرتبة السابعة والعشرين من بين لغات العالم، رغم أنها مصنفة من طرف منظمة اليونسكو السادسة عالميا من حيث الانتشار وعدد المتكلمين بها، وبذلك تكون العربية- وهي آخر ما يوحّد الأمة الغارقة فيما بين مياه المحيط والخليج- تدل بضعفها على انحطاط هذه الأمة، خاصة منذ العشريتين الأخيرتين من القرن المنصرم، وليس أدل على ذلك من الانتفاضات التي تظهر هنا وهناك من أجل العربية سواء في مغرب الشعوب أو في مشرقه، لكون اللغة أحد ملاذات الأمة عندما تفقد توازنها، أو تضيع من أرجلها الطريق بفعل الشذوذ السياسي الذي يتمادى في ممارسته الأبناء عليها . ابتدأ مشكل اللغة العربية في الجزائر- ومصيرها بين أيدي أبنائها- منذ أن أبقى النظام السياسي بعد استرجاع الاستقلال على إعاقة المعاقين فيها، بحجة الاستفادة من لغة اعتبرها أقطابه غنيمة حرب، سرعان ما تحوّلت إلى جدار لغوي عنصري، زاد في رفع عدد المنفيين داخل سجن لغة الاستدمار، حتى كادوا أن يصبحوا جالية لغوية تشكل خطرا على نسيج الوحدة الوطنية، وهم الذين ساروا على ما كان عليه آباؤهم، من أن الفرنسية هي لغة الدنيا وأن العربية هي لغة للآخرة، غير أنه وبعد ما يقارب الخمسين عاما، يتجلى أن لا الدنيا أصاب الجزائريون كما يجب، ولا هم ربحوا الآخرة، فقد انسد الأفق السياسي أمامهم في بداية العشرية الأخيرة من القرن الماضي، مما جعلهم يرتكبون أبشع الجرائم في حق أنفسهم مما تحرّمه تعاليم الدين وترفضه شرائع الدنيا، ولم ينفعهم تأجيرهم للغة الفرنسية- التي أبقوْها حيّة وإن كانت تحتضر- للخروج من التخلف، بل ازدادوا توغلا بها فيه، وابتعادا عن طريق التنمية المستدامة الشاملة، برغم كل ما يملكون من أسباب النهضة التي طالما حفّزت غيرهم للتربّص بهم . لقد كانت القشّة التي قصمت ظهر اللغة، هي وجود تصنيف لغوي قسّم النخبة إلى ُمعرَّب وُمفرنَس، ساندت السلطة هذا الأخير، وعززت مواقعه بالوافدين من ساحة تخلو من المبادئ والقيّم، مما أثر على تعميم استعمال اللغة العربية، ومن ثم حدّ من تمددها التلقائي، كي لا تكون لغة وظيفية وإنتاجية وبحثية، وحوّل اللغة الفرنسية من لغة أجنبية- حسب الدستور والقوانين- إلى لغة أقلية فاعلة أو معرقلة، راحت تتوسّع على حساب اللغة الوطنية والرسمية، لا أقول في حديث المسئولين وتعاملهم الإداري والإعلامي اليومي بها، ولا في إدارتهم الو رشات والملتقيات والبحوث بهذه اللغة، التي هاجرها أبناؤها الباحثون الفرنسيون أنفسهم وظل مسئولونا وحدهم متشبثين بها، ولا في جعلها وسيلة تفاهم وتخاطب بيننا وبين كل من يأتينا من الأجانب، ولكن حتى في إعلام المسافر الجزائري بأخبار رحلاته الوطنية والمحلية عبر جزائره العميقة، في محطات النقل سواء بالقطار أو الحافلة أو الباخرة أو الطائرة، مما ينذر بخطورة خلق لوبي لغويّ يجد دعمه في أرباب المال والمصالح التجارية التي لا جنسية لها إلا ما تكسبه من مال بكل الوسائل، خاصة إذا ما بقيت الأمور التنفيذية- على مختلف المستويات- في أيدي مناضلي حزب المنفعة الشخصية الضيقة الذي يعتبر أكبر الأحزاب نشاطا، وأشدها خطورة على تطوّر الدولة وانسجامها . إن الاستعمال الشحيح للغة العربية من طرف أهلها، جعلها تنكمش في أفواه أبنائها بعدما تقلصت في تفكيرهم، وتحوّلت بذلك إلى عملة كاسدة في سوق يتداول أصحابة عملة أخرى، على حد الوصف الدقيق الذي قدّمه المفكر الكبير الدكتور العربي ولد خليفة رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، وأنا هنا أتساءل: ألم يسأل الراكنون إلى ُعقَد التمسك بآخر بقايا الاحتلال أنفسهم: لماذا لم ُتطرَح المسألة اللغوية في ألمانيا واليابان، الأكثر تقدما بلغتيْهما بعد محو كاد يكون كاملا إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية؟ ولماذا لم نجد إشكالية اللغة عند الكوريين الجنوبيين والفيتناميين، الخارجتيْن بلغتيْهما من بين أنقاض أبشع احتلال؟ بل لماذا لم تعق المسألة اللغوية الاتحاد الأوروبي، وهو الذي يتخاطب أعضاؤه بأكثر من خمسة عشر مترجما على الأقل، دون أن يفرّط أحد في لغته، وقد حكّموا مصالحهم الاقتصادية وقيّمهم المسيحية اليهودية فيما يظهر بينهم من إشكال؟ إن المقروئية باللغة العربية في الصحافة الجزائرية- وحسب نتيجة آخر سبر للآراء قام به معهد فرنسي متخصص في دراسة الخبرة والإحصاء وعمليات سبر الآراء والاستشارة في ميدان التسويق- تفوق بمرتين نظيرتها بالفرنسية، وهي التي كانت تستحوذ على القراء اليوميين، أو هكذا كان يقول لنا من أراد خدمة الفرنسية بدون مقابل، وهو يبرر بقاءها- كمشكل وليس كلغة- بدعوى كثرة من لا يعرف غيرها ! إذا كان مبرّر إبقاء اللغة الفرنسية بيننا علميا عند البعض، فإن حضورها في فضاء الشبكة العنكبوتية مثلا، لا يتعدى نسبة الأربعة(04) في المائة، من حجم المعارف والمعلومات المتداولة التي تستحوذ فيها اللغة الإنجليزية، على ما يفوق السبعة والأربعين(47) في المائة من تلك المعلومات، أما إذا كان السبب هو وجود لهجات وطنية مختلفة عند البعض الآخر فإننا نتحدث- منذ أن اختار أجدادنا الإسلام- لغة موحِّدة، تعتبر لغاتنا المحلية فيها روافد عذبة تغذي نهرها الكبير، أما إذا كان ذلك رغبة مبطنة للنخب المتسللة إلى مواقع غير مؤهلة لها، فتلك مشكلة أعوص وأخطر، علينا الاعتراف بها أولا ثم إيجاد الحلول المستعجلة لها قبل أن يستفحل داؤها، خاصة بعد أن انتقل حديث القلة القليلة من النقيض إلى النقيض، فالنخبة الجزائرية أيام الاحتلال الفرنسي، كانت- في اعتقادي- أقوم وأصح وأصلح، حينما أعلنت أن اللغة الفرنسية التي اكتسبتها عنوة وليس تفضلا من الاحتلال، هي منفاها اللغوي المؤقت، ولكن نسلا من تلك النخبة هو من يغذي المشكل اليوم، ويبقيه حيا فينا يؤْلِم، عندما يجاهر بأن الفرنسية- التي صرف عليها الشعب من حر ماله- هي مستعمرته الجميلة! وعلى كل حال فإن وضع الأمة العام- الذي لا يخفى بؤسه على أحد- ينبئك بحال اللغة العربية، التي لم ينفعها حتى الآن دعاتها، نظرا لسلبية آلياتهم وسريان روح الاتكالية فيهم، ولن يضرّها- على الإطلاق- مكر ُعداتها وتنكّرهم لإحدى مقومات وجود أمتهم، و لكن ما دامت معظم المعاملات والتعاملات التي تقوم بها الحكومة تتم بغير لغة هذه الأمة، وما دامت الدولة لا ُتلزِم إطاراتها بتحرير ما يستوجب عليهم تقديمه في إطار مهامهم المتنوعة، ولا تشجّع الباحثين والمبدعين والمخترعين على الإنتاج بلغتهم، ولا تؤسس دارا كبرى للترجمة إلى العربية من مختلف لغات العالم كي ترافق آخر مستجدات العلو م الدقيقة والإنسانية ومخترعات التكنولوجيا وتتفاعل معها، وما لم يقم َمنْ بيده الأمر كله أو بعضه، بتفعيل قانون تعميم استعمال اللغة العربية المجمّد في أحد الأدراج المجهولة، ما لم يتم كل ذلك فعلا، فإنني أقول وبعيدا عن لحظات الانفعال العاطفي العابرة: لا.لا إن العربية في دارها للأسف ليست بخير!