رمضان ضيف خفيف لطيف مبارك كريم يزورنا كل عام بخيراته وحسناته، ويمضي ويعود فيجدنا أو يجد بعضنا أو يجد أناسا آخرين بدأوا يصومونه. رمضان هذا العام يشرف على الانقضاء، وها نحن نودعه على أمل أن نلقاه العام القادم، وكلٌّ بما لديه فرحون.. لقد حقق كلٌّ منا مبتغاه. فمنا من أراد صيامه إيمانا واحتسابا طمعا في رحمة الله ورضاه والجنة، وسعى إلى ذلك سعيه واجتهد في أوله ووسطه وضاعف الجهد في آخره. ومنا من أراده شهرا للكسب والربح فصام عن الأكل والشرب وسعى للدنيا سعيها يلهث وراء فرصة رمضان التي لا يرى أنها تتكرر في غيره، باع واشترى وربح من الدنانير ما يعتقد أنه النجاح الكبير. ومنا من صام عن الأكل والشرب والعمل، ونام من الفجر إلى المغرب وأصبح ليله نهاره، وهكذا يرى رمضان شهرا مُتعبا لا يريحه منه إلا النوم، حجته في ذلك أنه يصوم ولا يفسق ولا يرفث ولا يسب ولا يتشاحن ولا يخرج من بيته حتى لا يرى إبليس ولا يتعوذ منه أو هكذا يمني نفسه. ومنا من ليس من صومه إلا الجوع والعطش.. ومنا وهذه هي الطامة الأخرى من سمع برمضان لكنه لم يعشه لا ماديا ولا روحانيا، ظل منغمسا في الملذات والشهوات والمحرمات والملاهي والعياذ بالله. رمضان فرصة العمر.. تتكرر كل عام رمضان، نعم استثناء سنوي وفرصة يثري فيها الصالحون كتابهم، ويتذكر فيها الساهون ويجتهد فيها المتهاونون، ويعود فيها إلى الله الضالون، وهو موعد أيضا لجرد الحصيلة السنوية، وتقدير حصاد الاستثمار ونتائج العمل، ومراجعة الحسابات وضبط ميزانية الأعمال، وتقيم علاقة الانسان مع ربه، خاصة وأن كل الأعمال الأخرى التي يقوم بها الإنسان في سبيله إلى الله وابتغاء الجنة هي له، أما الصيام فإنه لله وهو يجزي به كما قال عز وجل. هذه القيمة الفريدة من نوعها هي التي لا يقدرها الكثير منا أو يسهى عنها أو قد لا يعيرها الاهتمام التي تستحقه. ثواب الصوم والحصانة الإلهية.. ففي الحديث القدسي الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن المولى عز وجل أنه قال:" كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" (البخاري). فما معنى أن كل العبادات الأخرى للإنسان باستثناء الصوم فإنه لله وهو يجزي به؟ فحتى الأعمال الصالحة الأخرى الله وحده الذي يجازي عبده عنها.. الإجابة عن هذا السؤال هي التي من المفروض أن يركز عليها الدعاة والأئمة حتى يتبين الناس أهمية هذا الشهر العظيم وما خصه له من مكانة دون الأشهر ودون العبادات حتى يضاعفوا فيه الأعمال ليستدركوا في شهر واحد ما ضاع منهم في سنوات وسنوات. ولعل أول هذه المعاني أو التفسيرات التي ذهب إليها المفسرون هي أن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لا يطالها جزاء القصاص فهي محصنة للمرء بثوابها وحسناتها لا يُنقص منها شيء. فالمعروف والثابت أن القصاص يوم القيامة بين الظالم والمظلوم هو أن يأخذ المظلوم من حسنات الظالم من سائر أعماله الصالحة باستثناء تلك المترتبة عن الصوم، حتى إذا انتهت الحسنات أُضيف للظالم من سيئات المظلوم، لكنه لا يأخذ من حسناته المترتبة عن الصيام على الإطلاق فهي محصنة وخالص جزاؤها لصاحبها. تجارة بين العبد وربه ولا مع غيره... كما يذهب بعض المفسرين إلى القول بأن الصيام عبادة سرية بين العبد وربه، عبادة غير مرئية عكس بقية العبادات كالصلاة، والزكاة، والحج وغيرها.. عبادة يترك فيها الانسان شهواته وطعامه، وشرابه استجابة للمولى عز وجل، ويتفانى في ذلك دون أن يذيعه أو يعلنه. ويضيف آخرون أن من معاني هذا الحديث أن الصيام هو العبادة الوحيدة التي يتقرب بها الإسنان لربه وهي مخصوصة به دون غيره أي أنها العبادة الوحيدة التي لا يقدمها المشركون، والكفار، والوثنيون وغيرهم لآلهتهم المعبودة، فلم يسجل التاريخ أن هؤلاء كانوا يصومون لآلهتهم أو أصنامهم أو لتماثيلهم التي ظلوا عليها عاكفين.. دورة مكثفة وامتحان استدراكي... وإذا تأملنا في هذه التفاسير فإنها تجعل من رمضان فرصة استثنائية لا مثيل لها يمنحها المولى عز وجل لكل عباده دون استثناء للعودة إليه من أقصر الطرق وأضمنها وأأمنها. وقد أوضح لنا المولى عز وجل معالم هذا الصيام ومحاذيره ووضع الوصفة المثالية لإتباع ذلك فإن عرف المرء كيف يستغل هذه الفرصة وفق الوصفة المرفقة فإنه سيكون لا شك من الفائزين برضى الله ورضوانه. رمضان مثله مثل برامج التكوين المكثفة، أو التحضيرات المركزة، أو الدورات الممتازة، فعندما يريد الإنسان أن ينجح ويتقن لغة ما في وقت قياسي فإنه يعزم ويلتحق بإحدى المؤسسات المختصة فيدفع ويتابع الدروس ويُحَصِّل في بضعة أسابيع ما فاته في سنوات الدراسة، وهكذا في الرياضة أو غيرها من الفنون والحرف، كذلك هو رمضان إلا أنه يختلف عن تلك الدورات بأنه تجارة رابحة مع الله، ولا تكلف صاحبها مالا ولا معدات، عملتها الإيمان والاحتساب، وجزاؤها لا يقدر بثمن.. ملخص الرسالة وطرقة الاستعمال فطوبى لمن تابع الدورة بنجاح، ومسكين من فاته ذلك، إنها الأيام الأخيرة وهي فرصة متفرعة عن الفرصة الكبرى، فلنلحق أنفسنا ولا نترك الفرصة تضيع، فقد أهدرنا الكثير من الفرص في عدة مجلات فلنبدأ بوضع حد للعنة الفرص الضائعة التي غدت تطاردنا نحن الجزائريين حتى اشتهرنا بتضييع الفرص. لقد فوتنا فرص التنمية والخروج من التخلف، وفرص القضاء على الفقر والجهل، وأهدرنا فرصة بناء الدولة الوطنية، وأضعنا فرصة تنمية الاستقلال الوطني لاستكمال أعمدة السيادة الوطنية الكاملة ليكون لنا مكان بين الأمم المؤثرة في التاريخ، وفشلنا في استغلال فرصة تقوية اللحمة الوطنية وبناء مجتمع قوي بتعاضده وقيمه وثوابته وهويته. فلماذا لا ننطلق من أنفسنا من رمضان لإعادة البناء وإقامة الجسور لأن رمضان هو بناء للإنسان في مختلف الاتجاهات بناء للإنسان تجاه ربه وتجاه أخيه وتجاه العالم، إنه اختصار للرسالة المحمدية إنه بناء وتربية لأمة، إنه المعادلة الجميلة للإسلام، إنه رسالة للإنسانية، لذلك خصه الله بنفسه وهو الذي يجزي به.