«تانوت» اسم مختصر قديم قي الجغرافيا المحلية ورد ذكره في السجلات والخرائط التي أعدتها فرنسا وخصصتها لمنطقة الأوراس في نهاية القرن التاسع عشر بعد أن أخضعته لسلطتها التي سبقتها جولات من المقاومة والصد. وأما الاسم الكامل فهو مركب في أصله، وهو: «عين تانوت». وإن كانت لفظة العين تدل على منبع الماء الجاري الذي مايزال أثره قائما، فإن الشق الثاني من الاسم: «تانوت» لا يفسر إلا بالاستعانة بالتخمينات والاجتهادات التي تلوي أحيانا معاني الكلمات، وتحملها على غير وجهها السليم. ومن غير المستبعد أن يكون هذا الاسم مستصدر من اللهجة الشاوية المحلية التي عفا الزمن عن بعض كلماتها لخروجها عن نطاق التداول اليومي الذي يحفظ حياة الألفاظ في أية لغة من لغات الأرض. تتاخم «عين تانوت» حدود ولاية سطيف من جهة الشمال الغربي من الأوراس، وهي في الأصل مجموعة من المشاتي المنتشرة التي لا تتزاحم فيها السكنات لانخفاض نسبة الكثافة السكانية في ربوعها. وقد ارتضت هذه المشاتي الصغيرة أن تنضوي تحت عباءة شقيقتها الكبرى مشتة «عين تانوت»، وأن تقبل بها كعنوان دال عنها ومنتدب للإرشاد عنها. تتميز «عين تانوت» بسعة سهولها قياسا بسهول منطقة أولاد سلام المرتمية في أقصى جنوبها، وجبالها أكثر اخضرارا وازدهارا بفضل غطائها النباتي المؤلف من الأشجار والشجيرات التي تشكل مناظر طبيعية خلابة. وتمتد مساحة «عين تانوت» حتى حمام السخنة شرقا، ولا يفصلها عنها سوى مسطح مائي سبخي من ملح الطعام. وإلى عهد قريب كانت مؤونة سكانها وجيرانهم من مادة ملح الطعام التي لا يمكن الاستغناء عنها تأتيهم من هذه السبخة التي ترتفع فيها كميات الملح كلما زاد تهاطل الأمطار. ومثلما نفعت هذه السبخة السكان ووفرت لهم الملح المستعمل في طبخ طعامهم وفي تمليح ما يدخرونه من اللحم والسمن وبعض الخضر، فإنها أضرت بمياه آبارهم التي تسرب إليها الملح المنحل عن طريق عروق الأرض الباطنية، وتسبب في ملوحتها، مما جعل مشكلة التزود بالمياه الصالحة للشرب وللسقي مشكلة تؤرقهم، وتنغص عنهم حياتهم. وقلما تنجو مزروعاتهم من التأثر ذبولا، وخاصة في الشريط الذي يجاور السبخة. رغم العسر الذي طال المياه التي تسربت إلى الطبقات السفلية من أراضي «عين تانوت» من جراء تسلل أملاح سبختها إليها، فإنها تعد محظوظة من منظور التاريخ؛ لأن الملح حاضر في العادات الغذائية للناس منذ القديم. وبسببه قامت خصومات ومنازعات بين بني البشر. ففي الهند، ونظرا لسوء التغذية، وقع عصيان مدني سنة 1875م بسبب وضع الإنجليز أيديهم على كل مصادر الملح في البلاد، واحتكاره. والملح مادة له أهميته، ولعله يكفيه أن لفظة salaire باللغة الفرنسية وكلمة salaryباللغة الإنجليزية اللتين تعنيان مرتب العامل وأجرة الموظف مشتقة من كلمة sel، وهي في الأصل الراتب الذي يتقضاه الجندي الروماني ليشتري به ملحا. ثم عمم الاسم على كل مرتب. لم تعد سبخة «عين تانوت» غير المعروفة عند الكثيرين تدر ملحا كما كانت في ماضيها. ولعل الصخور الملحية التي كانت تغذيها قد تنازلت عن كل ذرات ملحها، ولم تستبق منها شيئا. وكان السكان يطلقون على عملية تصاعد الملح في السبخة إلى السطح وتجمعه مصطلح: «الترويب»، وكأنهم يعقدون تقاطعا تشابهيا بين اندفاع الملح صاعدا في السبخة وتخثر اللبن مما يخفف من لزوجته. حللنا بمشتة «عين تانوت» في بداية فصل الصيف الذي يؤذن لانطلاق أعمال الحصاد وجمع السنابل الصفر من الحقول. ومع الصباح، كانت السنابل تتمايل مسلمة أمرها للريح التي تلهو بها في كل الاتجاهات تحت دفء أشعة الشمس التي اشتاقت إليها سابقا. وكانت تتصادم وتتشابك أحيانا، ثم تنفصل طروبة في ارتجاج كمن يستعيد أنفاسه لمعاودة هذه اللعبة ثانية، وهي آخر لعبة تؤديها قبل أن تقتطعها الأيدي بالمناجل المعكوفة أو بآلات الحصاد الحديثة، وتفرض عليها الخمود في الأكوام إلى أن يفصل حبها عن سفاها، وثَمَّ ترمى في ظلمات المطامير أو تطرح محفوظة في أكياس داخل أجواف المخازن. قال مستضيفنا الأستاذ نور الدين فيلالي، وهو واحد من المربين المثقفين الذين يزحفون في طريق النهوض الاجتماعي بصبر وحكمة، ويطمعون إلى إعادة إشراقات الأمل إلى قلوب أبناء تلك المشاتي، قال: في السالف من الزمن، لم تكن الحقول المزروعة تعرف الهدوء في مثل هذه الأوقات. وإنما كان ينشط فيها دبيب الحركة بعيد انتشار أولى خيوط الضوء، حيث ينطلق الفلاحون في نشاط لقطع أعناق السنابل بالمناجل الحديدية التي يهتمون بشحذها على المسنات الحادة أو طرقها بالمطارق بعد وضعها في الجمر الملتهب حتى الاحمرار. وتستمر عملية الحصاد إلى أن يقترب موعد صلاة العشاء. وكان الفلاحون وأبناؤهم يتخذون من ساعات يومهم وجزء من بداية ليلهم معاشا يصرفونه في الاشتغال بوتيرة لا تنقطع. ولا يقتطعون من هذه المدة الطويلة سوى سويعة يتناولون فيها غداءهم، ويسترخون في قيلولة قصيرة. وكان أبلغ ما يجدد حيويتهم، ويقوي عزائمهم هو تنافسهم الذي تعبر عنه قعقعات المناجل وصريرها. وكلما أحس أحدهم بفتور زملائه وتراخيهم، أطلق صيحات حادة يكررها عدة مرات تهيج فيهم طاقة النشاط وتشعلها من جديد. ولم يكونوا يدفعون حرارة الشمس الحارقة التي ترتطم بأجسامهم سوى بارتداء الألبسة ذات اللون الأبيض النابذ لأشعة الشمس بقدر كبير، والاحتماء بمظلات مصنوعة من السعف أو طاقيات صوفية يضعونها على رؤوسهم. وما يشفي غليل معاناتهم من الحرارة هو الحرص على التهام البصل في كل وجبة غذائية، وشرب كميات معتبرة من ماء القِرب البارد بين كل فترة وأخرى. حينما تكون الأيدي منشغلة بتحريك المناجل وربط الأغمار وتكديسها، لن تكن الألسنة والحناجر تتوقف عن بعث الأهازيج التي يتجاوب معها الحصادون. وكثيرا، ما تتوافق تلك الأصوات الرقيقة مع حركات المناجل في الأيدي لترسم لوحة فنية باهرة يمتزج فيها الصوت والإيقاع والحركة. ولا تظهر هذه الأغاني إلا تعلق الفلاحين بحقولهم التي تمثل مورد عيش أسرهم. بعد أن تجمع أكوام السنابل في البيادر، يشرع في فصل الحبوب عن التبن بأظلاف الحيوانات كالأحصنة والبغال. ولكن، عند الضرورة توضع السنابل على حجر كبير، وينزلون عليها ضربا بأخشاب غليظة بعد أن يؤلفوا حول الحجر حلقة من الرجال والنساء. وما أن ينتهي الحصاد، حتى تنتشر الحيوانات في الحقول لتلتهم ما تبقى من سوق السنابل الجوفاء البارزة فوق سطح الأرض. وأما الجذور، فتتحلل بفعل مهاجمتها من طرف ميكروبات التربة التي تفنيها عن آخرها وتحولها إلى سماد ملحي طبيعي يغني تربة الحقول، ويجدد لها مخزونها وشبابها. في السنوات التي تبخل فيه السماء بمائها، لا تنمو السنابل نموا عاديا، وتقصر فيه السلاميات الممتدة بين عقد سوقها. وتحتفظ بمظهر قزم يجعل غلالها قريبة من سطح الأرض. وفي هذه الحالة، تبقى المناجل معلقة على الجدران تشكو الهجران والصدأ ينخرها؛ لأن الفلاحين لا يعرفون من حيلة لاستعمالها استعمالا سليما يقيهم مخاطر إصابة أصابعهم التي تشد في العادة السنابل قبل قطعها. تنهد الأستاذ نور الدين فيلالي تنهيدة عميقة عبرت عن تأسفه عن الزمن الماضي، وأدار وجهه جهة حقل شعير بدأت سنابله ترتج وكأن الأرض التي نمت فيها هزتها زلزلة مباغتة، وأردف يقول: كان التعاون عهدا وثيقا بين الفلاحين في موسم الحصاد في السنوات التي تخرج فيها الأرض خبأها مضاعفا، وكانوا يعبرون عن هذا التعاون باسم: «التويزة» الذي يعد مصطلحا جزائريا صرفا لم تتسع له قواميس اللغة العربية. وكانت «التويزة» عرسا تبدو فيه الفرحة عارمة على وجوه الفلاحين المتعاونين. وكانت النسوة يستيقظن باكرا قبل قدوم الرجال بمناجلهم البراقة لتحضير الأكل الذي يتنوع. وكن يركزن على الأغذية الطاقوية والمنشطة حتى لا تستسلم السواعد التي تحمل المناجل للركود والكسل. أما الآن فقد ذهبت «التويزة» بعد ابتكار الآلات الحاصدة، ولم يعد لها ذكر على ألسنة الفلاحين، وأصبحت من الماضي الجميل الذي يذكر فيحمد. أوغلنا السير في السيارة صوب إحدى المشاتي المسترخية قريبا من الجبل، وفي الطريق رأينا قطعانا صغيرة من العنز الذي يفضل السكان تربيته عن الغنم؛ لأن حيوان العنز صبور على تحمل صعاب السنوات العجاف والبرد الشديد. فبفضل مشاكساته وخفته يستطيع السير فوق الصخور الجبلية المسطحة منها والمدببة وتسلق حتى الأشجار الجبلية ليغنم من أوراقها وأغصانها الطرية بغذائه. وكثيرا ما يوصى بلحم الماعز وأحشائه كدواء لبعض الإصابات المرضية التي تطال الجهاز الهضمي للإنسان كعسر الهضم والإمساك؛ لأنه يوجد في ما يقتات منه مستخلصات من الأعشاب الطبية التي لم تقف الخبرة الطبية على أسرارها بعد. استمر بنا المسير إلى كوخ حقير، واحترقت قلوبنا كمدا على أحوال المسكينة بلخيري فاطمة التي تسكنه وحيدة. ووجدنا في عظمة صبرها ما يستحق أن يروى قبل التعرض لمحنتها ومعاناتها التي تزداد تضخما بمرور الأيام. فقد أبرت هذه المرأة بوالديها ونالت رضاهما، وظلت تخدم والدتها حتى لحقت روحها ببارئها منذ عشرين سنة خلت. وبعد سنوات قليلة من فاجعتها في وفاة والدتها، داهمتها مصيبة فقدان بصرها تماما في حادث مرعب. ورغم قساوة ظروف عيشها، فإنها ظلت صائنة لوصية والدها الذي ترجاها قبل وفاتها ألا تغادر السكن العائلي الذي رأى فيه إرثا مقدسا لا يجوز التخلي عنه. وجدنا فاطمة المسكينة منهمكة في قلع سنابل الشعير في حقل ملتحم بكوخها الذي انحنت جدرانه. وما أن أحست بأزيز محرك السيارة، حتى توقفت عن العمل مديرة وجهها صوب الناحية التي يقدم منها الصوت الذي أفسد عنها سكينتها. واستطاعت التعرف على الأستاذ نورالدين فيلالي بعد أن رفع صوته قارئا السلام؛ لأنه ألف تفقدها بين الحين والآخر في إطار العمل الإنساني والجواري الذي منحه بعضا من وقته. وبعد حديث قصير معها، وجدتها تحمل في قلبها إيمانا لا يتزعزع، وتنظر إلى المستقبل بآمال متفائلة لم ينقض عليها اليأس أو يسحقها القتوط. من تواتيه فرصة زيارة المسكينة فاطمة بلخيري يقف على أكبر صوّر مغالبة العوادي ومصاعب الزمان، ويتعلم منها دروسا في الثقة بالله والهدوء والإيثار والكفاف والاعتماد على النفس والرفق بالحيوانات وحب المثابرة، وفي الشجاعة. جعلت المسكينة فاطمة من الحيوانات التي تربيها جيرانا تستأنس بهم ويستأنسون بها. وهي شديدة التعلق بعنزاتها وصغارها إلى درجة أنها تحزن وتبكي لما تداهم واحدة منها نوبة مرض، وتظل ترعاها مشفقة عليها حتى تستعيد عافيتها. وإذا ما انتابت واحدة من عنزاتها آلام المخاض، تلازمها حتى تضع مولودها أو مواليدها. وإن كانت الفصل شتاء، أسرعت بالمولود الجديد إلى موقد النار بعد أن تدثره بخرق بالية لحمايته من وخزات البرد، ولا تتأخر في حمله لرضاعة أمه لما تحين أوقات الرضاعة. ولا تتوقف عن التكفل به حتى يقوى جسمه ويصبح قادرا على الاعتماد على نفسه. وكذلك تفعل طوال أيام السنة مع دجاجاتها وديكها الوحيد. ولم يتوقف سخاؤها عند حدود ما تملك من حيوانات في مزرعتها الصغيرة، وإنما تعدّاها إلى كلب أحد الجيران الذي يزورها يوميا ليستفيد من خدماتها. تداوم المسكينة فاطمة على أداء صلواتها المفروضة في أوقاتها. وتستعين لتحديد أوقات الصلوات بالإصغاء إلى صوت مؤذن المسجد القريب من كوخها، أو باستعمال المذياع. وفي الصباح، تستيقظ فجرا مع أولى صيحات ديكها التي تجري لتفقده إن لم تسمع صوته يتعالى صباحا قاطعا الهدوء الذي يملأ بيئة عيشها. ولا تتوقف عن الصوم التطوعي تقربا لله تعالى يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وصيام الأيام التي أوصت السنة النبوية الشريفة على صيامها. ولا تقبض يدها عن التصدق بما يأتيها من أهل الإحسان على الفقراء والمعوزين من أقاربها وجيرانها من الأطعمة والألبسة. تعجبت من أمر هذه المرأة التي لا يمكن أن تصنف ضمن لائحة أصحاب الحاجات الخاصة، فهي تقوم بما لا يأتيه حتى الأصحاء الذين لا يعانون من أية عاهة جسمية مقعدة رغم فقدانها البصر التي تعتبر حاسة متقدمة في ضرورتها. لما توقفت بنا الرحلة في ضيعة مضيقنا، شد انتباهنا حالة العطش الشديد التي تعاني منها الأشجار والفسائل التي غرسها. وزاد إدراكنا أن الماء هو عنصر الحياة وأساسها. ووجدنا شقسقه الأخ الهاشمي وهو شاب جسور وطموح ضجر من ضغط المدينة وملوثاتها، وجاء يطلب لنفسه راحة وطمأنينة في الريف، وجدناه منهمكا في إشعال جمرات موقده الحديدي الذي صنعه بنفسه قبالة مسكنه حتى يحضر لنا وجبة الغداء. وكان الغداء لحم عنز حنيذ استسغنا أكله، واعتبرناه غذاء ودواء في آن واحد. يملك الشاب الهاشمي قلبا يتشوق في حنو إلى كل ما هو تراثي وأصيل، وينظر إليه بأحداق الإعجاب والإجلال. وقد جعل من بعض حاجات جده القديمة مقتنيات خصص لها مكانا لتعليقها وعرضها. ومما أبصرت من تلك الأشياء التي يفوح منها عطر التاريخ ركاب حصان مصنوع من الحديد لم ينخره الصدأ. عندما جلسنا على الأرض نلتهم طعام غدائنا مفترشين بساطا تقليديا، لم يتوقف الشاب الهاشمي من الخوض في سيرة جده الشيخ الطاهر فيلالي المتوفي في سنة 1974م رحمه الله بإعجاب وتعلق. لو نظرت العيون المسؤولة إلى «عين تانوت» نظرة صادقة لتمكنت من تغيير حالها، وطرد العبوس التي يسكن أرجاءها، وينام بين سهولها وجبالها. وهي من الأماكن التي ترضى بالقليل اليسير، ولا تطلب من كل يد تمد العون إليها سوى توفير الماء الذي يصلح للشرب والسقي، وبناء المدرسة التي تعلم النشء وتطرد ظلام الجهل. في طريق العودة، كانت حمائم «عين تانوت» تنزل على جنبات الطريق وتلتقط في نهم بعض حبات الشعير التي انسلخت من السنابل وسقطت على الأرض، وهي تطلق هدائلها التي تستعذبها الأذن. ولعل في أصواتها شيء مكنون من أغاني الوداع. لا أريد أن أنهي قبل أن أشير إلى أن «عين تانوت» هي مسقط رأس الأستاذ الحكيم مختار فيلالي الذي بارحنا منذ سنة إلى دار الخلود، ومربع صباه، وهي مرقده الأبدي الذي أوصى أن ينام فيه نومته الأخيرة بجوار والده ووالدته.