كلمة هو عنوان كتاب ضخم كتبته لويس ريجيس وقدم له عضو الأكاديمية الفرنسية ميزيريس. الكتاب الذي بين يدينا مؤرخ صدوره في سنة 1880 وقد جاء على شكل يوميات كانت الكاتبة تسجل فيها ملاحظاتها، عن كل شيء، المناظر الطبيعية، السكان، العادات وغيرها مما وقفت عليه خلال رحلتها هذه. ويبدو أن الرحلة كانت بعدما يقرب من ال10 سنوات على احتلال مدينة قسنطينة من طرف الجيوش الفرنسية، ورغم أن الرحلة لم تتوقف عند مدينة قسنطينة فقط، بل شملت ميلة وبسكرة مرورا بباتنة والقنطرة، ثم العودة إلى قسنطينة، فإن الكاتبة فضلت أن يكون عنوان كتابها عن قسنطينة. وبالرغم من أنها تجعل لبعض فصول كتابها تاريخا إلا أنها تذكر اليوم والشهر دون ذكر السنة، على اعتبار أن الرحلة والإقامة لم تزد عن السنة، وإذا ما أقررنا وفق ما يستنتج من حديث الكاتبة في الكتاب بأنها جاءت الى قسنطينة بعد عشر سنوات من احتلالها، فإن ذلك يعني أنها كانت سنة .1857 إن ما يلاحظ أن كتابة لويس تمتاز بالوصف والدقة، وربما حتى الدقة المتناهية في حديثها عن السكان، والملابس، وحتى الأطعمة والأنهج داخل المدينة، وغير ذلك من الأمور. إنها تكتب أدب الرحلات بامتياز، وبأسلوب مشوق، ربما كانت تتوجه به الى القارئ الفرنسي قبل أي قارئ آخر، مما جعل الكتاب في النهاية يبدو كأنه تقرير، عن الوضع العام لهذه المدن التي قامت بزيارتها، كما يوحي كذلك بأن الكاتبة ربما كانت عضوة في البرلمان الفرنسي، وأن زيارتها كانت سياسية أكثر منها سياحية. في حديثها عن الكولون وصفتهم بأنهم كسالى وأن العمل الإنتاجي يعتمد بالدرجة الأولى على الجزائري، القبائلي - وتعني بالقبائلي هنا كل من يسكن خارج أسوار المدينة، في حين سكان المدينة تقول إنهم - عرب - ويبدو أن صفة القبائلي - كانت مستخدمة حتى قبل الاحتلال الفرنسي من طرف حكام الاحتلال العثماني، وربما تعني كلمة قبائلي في الغالب البدوي. الكتاب به معلومات قيمة، وحديث عن مدينة قسنطينة في تلك السنوات، وعن سكانها وعاداتها، وأعراسها، وعائلاتها، وسورها وأبوابها، والفرق الدينية فيها، وغير ذلك كثير. كل ذلك دفعنا للعمل على ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، رغم صعوبة لغته التي تعود الى القرن التاسع عشر، وهي غير لغة اليوم، لكننا نرى بأن ما نبذله من جهد في هذه الترجمة شيء قليل أمام ما قد يقدمه الكتاب من خدمة للقارئ باللغة العربية، خاصة الذي لا يعرف القراءة بالفرنسية، أولا وثانيا لعدم وجود الكتاب في السوق والمكتبات حاليا حتى في لغته الأصلية، ثم خدمة لتاريخ الجزائر وبالأخص أنه في بعض أجزاء الكتاب تبدي الكاتبة تعاطفها مع الجزائريين، الأمر الذي جعل كاتب مقدمة الكتاب، يتمنى لو أنها دافعت عن الكولون كما دافعت عن الجزائريين، إذ يقول هل تسمح لنا لويس ريجيس باعتراض واحد وملاحظة واحدة؟ ألم يكن حكمها قاسيا على الكولون الجزائري، إننا نصدق بكل حرية كل الجميل الذي تقوله عن العرب، ولكننا كنا نأمل لو كان لها رأي أفضل عن مواطنينا إننا نرغب أحيانا في الدفاع عنهم ضدها. إن كل ما نرجوه من ترجمة هذا الكتاب هو أن نتمكن من خلالها وضع صورة تقريبية لحالة قسنطينة في القرن التاسع عشر ومباشرة بعد احتلالها، كيف كانت؟ وماذا فعل الاحتلال فيها، ما الذي دمره وما الذي بناه؟ وكم نحن في حاجة الى معرفة هذه المدينة العريقة التي كانت عاصمة للدولة النوميدية قبل أن تتوالى عليها الفتوحات والاحتلالات المتعددة. ج. علاوة وهبي (1) يقولون في الغالب أثناء السفر، يجب الابتعاد عن الانطباعات الأولى، لأنها لا تكون منطقية.. كانت خيبتي كبيرة، حينما وبعد خمس ساعات من رحلة سابقة، تمكنت من رؤية الساحل الإفريقي، كانت السماء ذات زرقة باهتة، غير صافية والروابي التي يسبح فيها البحر تعطي انطباعا بخضرة باردة كامدة، كنت معجبة أكثر بمارسيليا ومقاطعتها، بجوها الدافئ، لا شك أن أرض الجزائر ليست هي الشرق، لكن لا يجب الاعتقاد أبدا بأنها بلد مثل بلدان أخرى كثيرة. إننا نجد أن لها، بعد أن نتأملها كثيرا، طابعا له خصوصية، وألوان خاصة به. ميناء فيليب فيل - سكيكدة حاليا - لم يكن مكتملا، سفينة شركة فاليري التي نقلتنا، ترسو على بعد نصف ساعة من مكان الركوب، وتأتي القوارب المالطية لتنقل الركاب من المسافرين الى طرف امتداد خشبي يفضي الى رصيف ميناء فيليب فيل، المدينة الصغيرة، لم يتم بناؤها لتعجب، أسسها الفرنسيون منذ الاحتلال، وليست لها أية خصوصية هندسية. بعض الأنديجان / الأهالي/ يقفون في الساحة المربعة التي تنتهي الى البحر، إنهم بؤساء بثياب رثة، يعملون عتالين لتحميل السلع على البواخر أو ينقلون الخضر من الشركة الى السوق. يستندون لفترات طويلة على الحاجز الذي يفصل الساحة عن البحر، ولا يوحون للأوروبي الذي يصل للتو سوى بنموذج بئيس للجنس العربي. ربوتان دائريتان، تقومان على منحدر سهل من جهتي الميناء، نبتات جميلة تغطيهما، والدروب الفسيحة التي توجد بهما تقود الى مستشفيين كبيرين. من هذه المرتفعات، النظرة رائعة وجميلة للتقسيمات المتنوعة للساحل، ونشاط القوارب في البحر، التي تأتي لنقل حمولات الصوف أو القمح، والبواخر البخارية القادمة من الجزائر أو مارسيليا والتي ترسو عدة مرات في الأسبوع عند السور الجميل ل''سطورة''. السكة الحديدية التي تبدأ من فيليب فيل وتنقل الركاب خلال ثلاث ساعات الى قسنطينة تتبع وادي هام لأكثر من سبب، أولا أنها تعطيك فكرة حقيقية عن احتلال هذه المقاطعة الجزائرية ويمكننا القول كذلك إنها مثل مقدمة لقصيدة افريقيا الفرنسية. الطبيعة تغير وجهها وتتجمل في كل لحظة، وتنقلك بدرجات متتالية حتى الإثارة، روعة الصخرة التي تجثم عليها مدينة قسنطينة، الجبال في بداية المنحدر الأخضر تصبح شيئا فشيئا، مجروحة وأكثر صلابة. في فصل الربيع، الحقول التي تغطي الجزء الأكبر من الأرياف هي بصورة خاصة جميلة المنظر، ألف زهرة باشكال مختلفة تنمو بشكل كبير لنقل أنها تزين بألوانها الأراضي الخصبة للسهل، هنا وهناك نشاهد ضيعا صغيرة محاطة بأسيجة أوبفرنوقيات حول أشجار الصبار التي بعول ستة أمطار، الخباز الوردي في البساتين يخالط بشبيبات النهار أو الشونيز الاسباني ''الشقيقات'' الأجمل زرقة وجريسات الليلك أو الأحمر لعدة اصناف، منزلقا في الاعشاب وانواع أخرى عديدة من الورود، التي كانت سرعة رحلتنا تمنعنا من التعرف عليها، لكنها تعطي جوا احتفاليا للمشهد. نحو منتصف الرحلة ترتفع الجبال، وفي منحدراتها قطعان ترعى بحرية، محروسة من طرف رعاة عرب فقط، ملتفين في برانسهم الصوفية المتآكلة بفعل أمطار المواسم، على بعد مسافات نشاهد بيوتهم والتي ليست سوى خيمة مصنوعة من قماش مطلي بالزفت، وأبعد منها قرى المزارعين من الأهالي وهي موجودة بالقرب من منابع المياه، وتتكون من أكواخ ذات مظاهر بائسة، أكوان ضخمة من التراب يسمونها في لغتهم ''الڤربي''. قرى الكولون، تتواجد بالقرب من السكة الحديدية، وهي تتشابه كثيرا مع قرى المقاطعة، عبر الطرقات يمر العرب الذين يذهبون من مكان الى آخر وهم يركبوا بغالا نحيفة لا تسرع أبدا. بعد قليل سوف نطل على وادي جميل تحيط به الاشجار ومقسم بالبساتين والطواحين والضيع، وبعض اشجار النخيل وهي الاولى التي نراها، تبدو أعلى من الأشجار الأخرى بقوامها الممشوق ورؤوسها المشعرة. ينتهي الوادي عند كتلة مربعة مكونة من صخرة ذات منقار، ونشاهد في أعلاها بيوتا بيضاء متلاصقة الواحدة بالأخرى. إنها قسنطينة الضجيج الذي أحدثه القطار جعل غربانا كثيرة تخرج من جحورها، وراحت تحلق فوق المهوى، وقبل أن نتمكن من تحديد عمق المهوى بنظرنا دخلنا في النفق الذي شق عبر الجبل المجاور للمدينة، وتنتهي السكة الحديدية بعد ثوان في الجهة المعاكسة، تحت أقدام المنصورة. لكي ندخل الى قسنطينة لابد من عبور جسر حديدي واسع أقيم بجرأة على ارتفاع ثلاثمائة قدم فوق وادي الرمال، الباب التي ينتهي عندها تسمى باب القنطرة، والتي تعني بالعربية باب الجسر. المدينة مقسمة في كل عرضها بنهج فرنسي، شق بالصدفة في وسط أحياء العرب، وهو غير مزين حتى الآن بالمنازل على الجانبين، وفي الفضاءات التي بقيت شاغرة نشاهد البيوت الموريسكية التي لم يبق قائما منها سوى جزء صغير، واحيانا نصف الفناء فقط مع اثنين أو ثلاثة أقواس تشد الجدار، وفي أماكن أخرى الأقواس قائمة كإطار لنهج عربي صغير مليء بالحركة، ولكي يعدل النهج قليلا تحتم الحفر في بعض أقسامه بعمق، وتم تعديل الحفرة بالبناء وتم وضع أدراج صغيرة لكي يتم ربط هذا الجزء من المدينة بذلك الذي يوجد معلقا فوق قمة الهضبة.. الأثر حقا جد رائع، عندما نرفع أعيننا نشاهد أحيانا الباب الدائري لمسجد صغير وأخرى جدران بيضاء وغير متساوية، تنفصل عن السماء الزرقاء وتبتعد في شكل إبداعي، ومظهر التناسق في البناءات الفرنسية التي تؤثث جانب النهج، المنازل الأوروبية ليست لها فناءات وهي مثقوبة بنوافذ عديدة معرضة لشمس منتصف النهار، وتبدو بعيدة عن التلاؤم مع الجو الحار. أناس بعقليات مثل مواطنينا عليهم أن يدركوا بأنه لابد قدر المستطاع أن يقلدوا في بناءاتهم سكنات البلاد التي زرعوا فيها مع إدخال التغيرات الضرورية لنوع من حياة تختلف قليلا. إنه من المؤكد أن الأنهج الصغيرة الملتوية والضيقة للبلدان العربية تعطي مجالا صغيرا للرياح والغبار وحرارة الشمس، وأن المنازل التي بها ثقوب قليلة للنوافذ الخارجية محسوبة بطريقة ذكية حتى تحمي من يسكنها من أضرار السيروكو ''ريح السموم''. قسنطينة من النظرة الأولى تتجاوز بكثير من الأصالة ما كنا ننتظره، وكل يوم فيها يحمل للغريب موضوعات مهمة ودوما أكثر حيوية ودوما جديدة. إن ما يبهرك أولا هو الطابع ذي الخصوصية العربية لمدينة تحكمها فرنسا منذ 1847 - للأسف هذا الطابع المحلي ينطمس، ليترك مكانه للأحياء الأوروبية التي تتزايد أكثر فأكثر. إننا مرغمون على تهديم منازل هي ملك لأكبر العائلات الأهلية، ومن ثمة ننزع منهم طعم امكانية البقاء، حيث يوجد الى جانبهم، مقر الادارة العسكرية والمدنية. قادة الجنود متعودون منذ سنين طويلة على المجيء للاقامة في قسنطينة لمدة شهر أو شهرين خلال الصيف، عندما تصبح حرارة الصحراء غير محتملة، وهم يدخلون بالضرورة في علاقة يومية مع السلطات الفرنسية، وهذا التواصل يعودهم على المعيشة التآلفية والذكية مع الفرنسيين من كل الأصناف، وهكذا يخبرونهم بمسيرة الحضارة وضرورة أن يتعلموا الحديث بلغة المنتصر، وتحس بهذا عندهم، وهكذا تجدهم وبحب يمدون ابناءهم بتربية فرنسية. السلطات العسكرية من جهتها تجد فائدة كبيرة في أن تتعرف على ما يفكر فيه كبار القادة الأقوياء، والذي يهمنا أن يكونوا معنا، وإذا هدمنا منازلهم العائلية فليس هناك شك في أنهم سيكفون عن المجيء الى قسنطينة، التي ستصبح في زمن قصير مدينة فرنسية خالصة مثل الجزائر، إنه طموح العديد من الكولون، ولكنه طموح غير صائب وغير مفكر فيه. توجد قسنطينة بين وادين كبيرين يفصلان ما يشبه البرزخ أو لسان أرضي ضيق، اليوم هو اكثر اتساعا، وهو الذي يصل المدينة بالجبل المسمى كدية عاتي، ومن هذه البقعة الجرح تمت مهاجمة المدينة أثناء الحصار الثاني. من جهة الغرب يمتد وادي الحامة الجميل منتهيا بسلسلة جبال جرجرة، والتي تذكر خيالاتها الرائعة بتقطعات الألب بسفوحها، من الجهة الشرقية ينساب وادي الرمال مكونا كوعا، وبعد تعرجات عديدة نحو جنوبالجزائر وباتجاه الصحراء الكبرى لا شيء أكثر تنافرا من هذين الوادين. وادي الحامة كان مزروعا منذ زمن الباي، هنا كانت بيوت العرب الريفية والبساتين التي تمدهم بالرمان والتين والزيتون، هذه البساتين الجميلة أغلبها بقية ملكية لكبرى العائلات الأهلية والتي لم تشوه بالتسوية والتعديلات التي تعود طبعا لحظائرنا الحديثة، وادي الرمال الذي تم غرسه منذ الاحتلال الفرنسي لا يقدم تلك المظاهر الجنوبية التي كنا نتوقع وجودها في كل أنحاء الجزائر، وهي ليست أقل جمالا في الربيع عندما ينساب الوادي بغزارة تحت الظلال التي يشكلها شجر صفصاف الحور واللوز المتحد مع اشجار السلط ''ميموزا'' الوردية وأشجار العنب، والكثير من الأشجار الأخرى، أزهار من كل الأنواع، ومن كل الدول، وبيوت جميلة بناها الكولون، الذين ضحكت لهم الثورة بفضل مبدأ، ساعد نفسك تساعدك السماء، بيوت تقوم وسط أراضي مسورة تحيط بها أشجار الورد الريفية وتغطيها الأزهار كل فصل الصيف، الأرض التي بنيت عليها قسنطينة، تشكل مربعا يكاد يكون متكاملا لكنه مدمج أحيانا، يمكن دخولها من ثلاث نقاط - باب القنطرة مقابل السكة الحديدية - باب لابريش في الجهة المعاكسة، ومابين الاثنين عن طريق باب خفي احتفظ باسمه العربي باب الجابية. الحي الفرنسي للأسف مازال لم يوسع بعد، ويسمح للمسافر - وهو يعطيه انطباعا بمتعة بلده - أن يتلذذ بقدر استطاعته بجاذبية الحياة الشرقية وجديد عادات العرب. 15 ماي رغبة أي غريب عندما يستيقظ في مكان جديد هي فتح النافذة، والنظر لما يجري في الخارج، واحيانا يغلقها غير راض عما يراه، وأحيانا يبقيها مفتوحة اعجابا باللوحات التي تجري مشاهدها تحت نظره. مسترشدة بالأشعة البيضاء لبداية بزوغ النهار كان انطباعي وأنا أرفع ستائر الآسل الأخضر التي تتدلى أمام الزجاج، غير معينة لا من من قريب ولا من بعيد بأي الإحساسين، لا مشاهد طبيعية أمام عيناي، بل مشاهد مثيرة لحب اطلاعي، حركة مدينة تستيقظ سيدة، رغم أن الوقت لم يتجاوز الخامسة صباحا. أولا كانت هناك أحمرة تمر بسرعة بعضها يحمل الأجور في ''تليس'' أو أكياس تتدلى على الجانبين وأخرى تحمل قربا مملوءة بالمياه، أرجلها المستدقة تحدث قرقعة على أرضية الشارع الجافة، وتتردد كلمة ''بالك'' احذر عدة مرات على أفواه قيادها، لتحذير العرب غير المبالين في الغالب، وإلى هذه القرقعة يضاف الصراخ الأجش - ثغاء الماعز ذي الشعر الأبيض والبني الطويل، والذي يتجمع في قطيع عند الرصيف في انتظار أن يأتوا لحلبها. ومع تقدم الوقت تزداد الحركة، مجموعات من القبايل ''إنها تسمي قبايل وقبائلي كل من لا يسكن المدينة'' تعبر الطريق متجهة الى الجهة المقابلة أين توجد الحقول التي يريد حرثها. بغال محملة باللحوم تتجه الى سوق العرب أين لا يبيعون سوى الحيوانات التي تذبح مع ذكر اسم الله حسب مبدأ القرآن. الأقل نشاطا من الأنديجان ''الأهالي'' يخرجون من بيوتهم ويتجهون لاستنشاق الهواء النقي، ويجلسون في الساحات العمومية أو أمام محلات تجار من معارفهم، ولا يترددون في تبادل الأخبار التي تتردد في الوسط العربي، الجنود يسيرون رفقة جيادهم حتى حي المنصورة خارج المدينة. الكولون الأوروبيون يبدأون في الجلوس أمام المقاهي متناولين كؤوس مشروب الإبسنت، أطفال عرب يحملون قففا - نوع من أكياس التبن المضفور - ترافقهم نساء فرنسيات ذاهبات للتزود من سوق ساحة لا بريش ''سوق بومزو - حاليا'' أين يوجد بكثرة ما نسميه في باريس التبكيرة، في حوالي العاشرة صباحا يعم الهدوء، إنه وقت وجبات الغداء عند العرب لكن حركة الأوروبيين تتواصل. وصول القطار، يدفع نحو فندق باريس والشرق ''مدخل نهج العربي بن مهيدي حاليا - الطريق الجديدة'' بحافلات صغيرة مملوءة بالمسافرين والأمتعة. شاحنات تنقل مواد وطرودا الى المخازن. الضباط يعودون نزولا من المنصورة، القبايل يعودون من الحقول، ويجلسون أرضا في حلقات في أي مكان يجدون فيه ظلا ويقيلون بعد تناول قطعة خبز مع البصل. عند الواحدة تتوقف الحركة كلية، عرب وفرنسيون يغلقون على أنفسهم في بيوتهم، ولا تعود الحياة والحركة الا عند انحدار الشمس في الأفق الغربي في هذه الأوقات سوف يبدأ من ليس لديهم ما يعملونه في التجول أو الجلوس في الحديقة العمومية والتي اطلق عليها اسم جد حديث. الحديثة لم يتم انشاؤها الا منذ فترة قصيرة، وهي تمنح الظل الرائع للاحتماء من حرارة الشمس وقساوتها، وتوجد الحديقة في البرزخ أو المضيق الذي يفصل سهل الحامة عن الرمال خارج باب لا بريش ''خلف بومزو حاليا'' وغالبا ما يعمها تيار هوائي عليل نتلذذ به كثيرا عندما لا نجد مثيلا له في مكان آخر. هذه الحديقة الجميلة تم تشجيرها بعناية بأجمات متنوعة مشكلة من اشجار وجنبات جلبت من الدول الساخنة، وتعطي فكرة عن قوة نباتات البلاد. أشجار الرند المزدوجة، أزهار وردية وبيضاء واشجار الرمان والنخيل والياسمين الأصفر تمتزج أغصانها الصغيرة مع الليلك والخبازيات الشمالية، ويأتي الظل العلوي من الزيزفون التي يغطي جذوعها بجنبات صلبة من فصيلة البغنونيات ذات الازهار الطويلة، بلونها الناري، وتشكل تتويج ممر عبور يجعل نظرك يجول في سهل الرمال ويشد نظرك بمجرد عبور المدخل الحديدي. في وسط الحديقة، يوجد تمثال الماريشال فاليه إننا مرغمون على عذره لعدم كونه موضوع فن، بفضل قيمة من يمثله، وكذلك الأزهار والخزامى والخشخاش المزهر عند أقدامه. الحديقة يقسمها ممشى الى جزأين، الجزء الموجود جهة سهل الحامة مهمل ولا يرتاده في الغالب سوى العرب الذين يأتون للصلاة في ظل تخميساته، وتم في ممراته جمع اجزاء من المنحوتات الرومانية التي عثر عليها في الجهة وقد أحيط الحوض الموجود في الوسط بسياج حتى يمنع عرب القوافل من استخدامه كحوض للوضوء.