بدعوة من "نادي الحكمة" وبحضور إدارة وبعض أساتذة وجمع غفير من طلبة المدرسة العليا للأساتذة ببوزريعة، ألقيت محاضرة حول: "أسئلة المقروئية في الجزائر"، كان ذلك يوم الثلاثاء 10 ديسمبر الجاري. * أمران أثارا انتباهي وأنا أدخل، وثم أعبر في ردهات هذه المؤسسة التعليمية التي تعد واحدة من أعرق المؤسسات في الجزائر، فقد تأسست العام 1865 وعلى مدى قرن من الزمن، وبمساعدة مدرسة المعلمين بقسنطينة التي تأسست العام 1878 ومدرسة وهران التي تأسست العام 1933، ظلت المصنع الحقيقي لتخريج المعلمين والمثقفين والمبدعين من الكتاب والشعراء والمؤرخين الذين أثروا على تاريخ الجزائر الثقافي والتربوي واللغوي. * أما الأمر الأول:"... وأنا أجتاز عتبة الباب الخارجي الكبير المهيب، وعلى الفور، تذكرت وجوها كثيرة، وعلى فترات زمنية متعاقبة ومتباعدة، مرت من ها هنا، جلست على مقاعد قاعات الدرس، في غبار الطباشير المبارك وعطور نصوص الكتب المدرسية. وجوه لطالما عبرت من هذا الباب وشاهدت هذا المنظر، وجوه كان لها كبير التأثير على أجيال متلاحقة من المثقفين الجزائريين من الشرق والغرب والوسط والجنوب، فكلمة "نورماليان" (normalien ou normalienne) لها وقعها الخاص والكبير في تاريخ الثقافة الجزائرية، فقد ارتبط بمجموعة من الكتاب الذين أسسوا للأدب الجزائري الوطني وللثقافة الوطنية. * ولعلّ أول من هجم عليّ من قائمة الذين مروا من ها هنا كان وجه المفكر والكاتب محمد بن شنب وهو أول جزائري ينال شهادة الدكتوراه، ثم وجه الروائي مولود فرعون الذي لطالما ارتبط اسمه بهذه المؤسسة، فهو الأديب الذي شُغل بالتعليم والتربية، وقد بدا ذلك في أسلوبه الروائي البسيط والعميق، فمن منا لم يقرأ روايته السيروية :"ابن الفقير"؟ ولكن الذي ربما لا يعرفه كثير من القراء هو أن مولود فرعون كتب رواية نشرت متأخرة، وقد وجدت بعد نصف قرن من كتابتها بين مخطوطاته، وهي بعنوان "حي الورود" "La cité des roses" من منشورات ياكوم 2007 وهي دار نشر صغيرة غير معروفة، وهذا ما جعل صدور الرواية، على أهميتها التاريخية والأدبية والسياسية، تمر بصمت ودون أن تحدث نقاشا كبيرا، ولم تعرف رواجا بين القراء، وهي الرواية التي تتحدث من خلال علاقة حب بين معلم عربي ومعلمة فرنسية ومن خلال ذلك نكتشف الصرامة التي يتميز بها المعلم خريج مدرسة المعلمين لبوزريعة، وهي دون شك صورة مستوحاة من سيرة الكاتب الذاتية. * وتذكرت أيضا الكاتبة الروائية أسيا جبار، وتذكرت الروائية نجية عبير التي رحلت مبكرا العام 2005 وهي في ريعان عطائها الأدبي، وقد كتبت نصا روائيا جميلا ومؤثرا عن الحياة اليومية للفتيات النورماليات بمدرسة المعلمين بقسنطينة بعنوان "باب القنطرة" Bab el Kantara وفيه استعادت الصرامة والانضباط والعمق الذي تميزت به الحياة الدراسية في مدرسة المعلمين بقسنطينة. * وتذكرت أيضا الشاعر السوري الكبير شوقي بغدادي الذي درس بهذه المدرسة سنوات عديدة وعلى يديه تخرجت مجموعة من الأدباء الجزائريين من جيل السبعينات، ولعل أبرزهم القصاص محمد الصالح حرز الله والشاعر سليمان جوادي. * أما الأمر الثاني: فهي تلك الحديقة النادرة التي تتوسط باحة المدرسة، حديقة ليست ككل الحدائق، وعلى الرغم من صغر مساحتها إلا أنها تشبه حديقة من حدائق بابل العجيبة، إنها بحق معلم من معالم مدينة العاصمة، ويقول العارفون بتاريخ الحدائق وتاريخ مدينة الجزائر العاصمة بأنها كانت ملحقة بحديقة التجارب العريقة الكائنة بحي الحامة، ومن بين أشجار ونباتات هذه الحديقة هناك شجرة نادرة لا توجد لها أخت ثانية إلا في حديقة التجارب بالحامة. وعلى الرغم من افتخار إدارة المدرسة بهذه الحديقة وبهذه الشجرة وغيرها، ويحق لها ذلك، وعلى الرغم من الاعتناء بهذا المعلم التاريخي النباتي حسب ما هو ممكن ومتوفر من دراية وإمكانيات، إلا أننا نتساءل: أما كان حري أن تسجل هذه المدرسة وحديقتها ضمن قائمة المعالم التراثية العالمية كي تكون لهما الحماية الكبيرة من اليونيسكو ونوفر لهما فرصة العناية والرعاية والخبرة وبالتالي نرفع من صورة الجزائر الثقافية والمعمارية والطبيعية والنباتية وفي الوقت نفسه نحفظ هذا التراث النادر من التلف. * شكرا لنادي الحكمة وشكرا للجميع إدارة وأساتذة وطلبة المدرسة العليا للأساتذة ببوزريعة لأنهم استطاعوا بمثل هذه الجلسة أن يثيروا في أسئلة المكان كما أثرت فيهم "أسئلة القراءة"، ربما. * * * aminzaoui@yahoo.fr