قال مرافقي مبالغا: نحوّل العاصمة إلى تامنراست ومن هناك نتمكّن من حماية حدودنا وتبديد المخاوف القادمة من الجنوب، ونعيش آفاقا واسعة بعيدة عن الضيق والنّكد اليومي وطوابير السيارات، ونتخلص من أشباح العمارات التي تملأ كل مكان ولا تكاد الشركات الوطنية والأجنبية تبدأ سلسلة منها حتى تشرع في أخرى مشابهة، ولا شيء في الأفق يدلّ عن قرب انتهاء أزمة السكن. مثل هذا الانطباع أو الاقتراح حول العاصمة الجزائرية كثيرا ما يتردّد سواء بين زوّار العاصمة أو حتى بعض قاطنيها، خاصة في أوقات الذروة وجحيم الاكتظاظات المرورية التي كانت في سنوات ماضية علامة خاصة بمناطق وأوقات بعينها، فإذا بها الآن شبه دائمة، وتمتد أحيانا إلى الأطراف البعيدة عن قلب العاصمة. هذا هو النهار في العاصمة الجزائرية، فكيف هو حال الليل؟.. هل هو أسواق مفتوحة وليالي هادئة وأمان واطمئنان ومنتزهات وشواطئ مهيأة بعناية تجد فيها العائلات راحتها وتعوّض بعض ضيق المساحات والشّقق السكنية، خاصة تلك المحلّقة في الفضاء، في الطوابق ما بعد العاشر. للأسف الشديد.. لم يتحقق هذا الأمر بعد وإن كانت السلطات المعنيّة تتحدث عن العاصمة في آفاق ألفين وثلاثين، وكيف سيتحوّل وجهها الحالي إلى وجه آخر يسرّ الناظرين ويضاهي العواصم العالمية والعربية، وحتى المغاربية، التي اشتهرت بالأمن والأمان وحسن النظام والخدمات المتنوعة في الليل والنهار. سأنقل هنا ما كتبته صحفيّة جزائرية جريئة قبل فترة، بعد جولة ليليّة في أحياء العاصمة.. تقول: زعندما أكملنا تمشيط آخر أحياء العاصمة لم تكن الساعة بعد قد وصلت إلى منتصف الليل، رغم ذلك فالمدينة كانت قد كشّرت عن أنيابها وألغت آخر صفات الآدمية من قاموس شوارعها، فهي لا تنام باكرا إلا لتستيقظ نزواتها أيضا باكرا.. مدينة قد يكون لها علاقة مع كل شيء إلا أن تكون عاصمة للبلدس حكمٌ قد يكون قاسيا جدا على عاصمتنا، لكنّ.. دعونا نتفهّم مشاعر الزميلة الصحفية بعد جولة ليلية في عاصمة كبيرة مثل الجزائر، ودعونا نعتبر حكمها نوعا من التحريض على الخير لا أكثر.. فلا فائدة من جلد أنفسنا أكثر من الحدّ المعقول. عنوان روبورتاج الصحفية، آنفة الذكر، كان مخيفا: صنّفتها تقارير دولية ضمن أسوأ مدن العالم في العيش.. العاصمة ليلا.. مدينة أشباح في قبضة المجرمين.. أما مقدمتها فهي: زليلة في واحدة من أسوأ مدن العالم، قد يبدو هذا عنوانا جيدا لقصة أو رواية أو حتى فيلم سينمائي يمكن أن يُرشّح لجائزة محترمة، غير أن واقع العاصمة الجزائرية ليلا قد يحيلنا إلى أكثر من قصة ورواية تستحق أن تُحوّل إلى رائعة سينمائية بامتياز.. طرقات خاوية.. أكوام من القمامة تحاصر مداخل العمارات والبنايات وتنتشر في شوارعها الرئيسية.. لا فنادق لا نقل ولا حياة وكأننا في حرب.. في الليل تختفي مظاهر الحياة الطبيعية وتبرز مظاهر الحياة المتوحشة للزوايا الخلفية لمدينة يقال إنها عاصمة البلدس.. تذكّرتُ هذا الروبورتاج بعد أن قرأت، قبل أيام قليلة، كلاما مشابها عن العاصمة في جريدة وطنية، وكان العنوان مثيرا أيضا: حرب الزعامة والمخدّرات تحاصر ضواحي العاصمة.. أما الموضوع فقد حمل تفاصيل عن عصابات تتشاجر ليلا لاقتسام النفوذ عبر الأحياء، ومعارك يتسبّب فيها النزاع حول حظائر السيارات، وتحرّشات ورفع للأصوات يتحول إلى خصام بين سكان العمارات، وهلمّ جرّا.. فيا من يعنيهم أمر العاصمة، وكلّ الجزائر: إن الدول التي قطعت أشواطا على طريق البناء والتشييد الحقيقي، وليس الاستعراضي، لم تبخل على نفسها بقرارات مصيرية تغيّر حال العباد والبلاد بزاوية تصل إلى مائة وثمانين درجة، وتصنع بالتالي تلك القطيعة المطلقة مع الماضي الملوث بالفساد والإفساد والإفلاس الإداري والسياسي، وتنهي تلقائيا أيّ سيطرة غير مبرّرة لرؤوس أموال أو لوبيات حكم أو تحالفات معلنة وخفيّة تعمل جاهدة للحفاظ على مصالحها على حساب حاضر ومستقبل الشعب والدولة.. وهكذا ما أحوجنا في الجزائر إلى قرارات حاسمة في هذا السياق.. فإلى متى يستمر رهن مصير البلاد لدى مجموعة من أصحاب المصالح، وبالتالي يظل كل شيء يتدفق من العاصمة وإليها.. من الإبرة إلى القاطرة.. إن تجارب نقل العواصم معروفة في دول عديدة، وقد آتت أُكلها، ولنا في ذلك المثال والقدوة إذا صدقت نوايا صنّاع القرار في بلادنا.. وفي هذا السياق أعجبني كلام رئيس دولة كازاخستان نور سلطان نزار بايف في كتابه زالطريق الكازاخستانيس، وهو كلام يكاد ينطبق على حالتنا في الجزائر.. زأعترف لكم أنني لست متمكنا من الشعر، لكنني عندما أتذكر انتقال العاصمة من ألماطي إلى أستانة، يخطر على بالي شطرا من شعر أولجاس سوليمانوف: لنرفع السهل من دون أن نخفض الجبل.. لقد وضعنا نصب أعيننا مهمة صعبة شبيهة بمحتوى الكلمات الشعرية.. قلنا يجب علينا بناء عاصمة جديدة في السهول، مع الإبقاء على روعة المدينة المطلة على تلال ألاتا السفحيةس. وهذا هو حالنا في الجزائر.. يمكن أن نحوّل العاصمة إلى سهل فسيح، كما هو مطروح منذ سنوات طويلة، دون أن نخسر العاصمة القديمة بعد أن تتحول إلى مدينة ثقافية، سياحية، تاريخية... وفي وسعنا تجاوز العامل النفسي العاطفي كما تجاوزه الكازاخستانيون كما يقول الرئيس نزار بايف: زهناك احتمال أن يتقبل أحفادنا العاصمة الجديدة أفضل منا، باعتبار كاهلهم لا ينوء بالرموز والذاكرة القديمةس. وأخيرا.. لا أدري كيف سيكون شكل الانتخابات الرئاسية القادمة، لكنني أوجّه عناية السياسيين المتسابقين نحو قمة الهرم إلى أهمية إدراج فكرة نقل العاصمة أو إصلاحها جذريا ضمن برامجهم.. فربما يكون في الحملات الانتخابية ما يجدّد الحماس لدى المواطن.. لكنّ عفوا عزيزي القارئ.. الحماس تغيير، ومن أين سيأتي هذا التغيير؟!!..