احتفل العرب يوم 18 ديسمبر الماضي باليوم العالمي للغة العربية، هذه اللغة السامية الحية التي بلغ عدد المتكلمين بها أكثر من 420 مليون نسمة، مما يجعلها في المركز الخامس بين أكثر اللغات البشرية استخداما في العالم، متجاوزة بذلك اللغتين الروسية والفرنسية المدرجتين بين اللغات الست الرسمية في منظمة الأممالمتحدة (الصينية، والانجليزية، والاسبانية، والعربية، والروسية، والفرنسية)، وقد مضى أكثر من أربعين سنة على إدراجها في 18 ديسمبر 1973 بين لغات الأممالمتحدة الرسمية بفضل جهود الوفود العربية في منظمة اليونسكو وخصوصا جهود الوفد الجزائري الذي ترأسه الدكتور أحمد طالب الابراهيمي وعضوية رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الراحل الشيخ عبد الرحمان شيبان - عليه رحمة الله - في دورة سنة .1966 ولكن المتأمل في وضع اللغة العربية اليوم على امتداد الوطن العربي يكاد يصاب بالصدمة والإحباط من حجم التناقض بين وضعها الدستوري الذي يجعلها اللغة الوطنية والرسمية في كل الدول العربية، ووضعها الحقيقي في المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية حيث تتعرض في الغالب إلى المزاحمة والاهمال وحتى الإهانة من طرف أبنائها، ويتزايد الاتجاه إلى جعل تدريس التخصصات العلمية في الجامعات والمعاهد العليا في الدول العربية حكرا على اللغات الأجنبية (الفرنسية في دول المغرب العربي، والانجليزية في ليبيا ودول المشرق العربي) وأصبحت حتى اللهجات العامية المتداولة في الأسواق والشوارع وأماكن النشاط اليومي تتعرض إلى تهجين وتغريب متصاعدين يتضافران على توسيع الفجوة بين اللغة العامية ومصدرها الأصلي اللغة العربية الفصحى أو نموذجها الراقي كما كان عليه الوضع في عصور الازدهار وفي مرحلة صعود الوعي القومي والنهوض الاسلامي. ولم يصبح لجوء أغلب المسؤولين الجزائريين إلى استعمال اللغة الفرنسية في تصريحاتهم الرسمية داخل الوطن وخارجه يثير الانتباه، فضلا عن إثارة الرفض أو الاستنكار، فكلما تكاثرت القوانين والنصوص الموجهة لحماية اللغة العربية وترقية استعمالها وتفعيل دورها، كلما تناقص حرج المسؤولين من إقصائها وتفضيل اللغة الفرنسية عليها في المناسبات الرسمية والشعبية! لكن أمر إهانة اللغة العربية لم يصبح يقتصر على الجزائر فحسب كما قد يتبادر إلى أذهان البعض ولكنه بلوى امتدت آثارها بين مشرق العالم العربي ومغربه. ففي مصر أم الدنيا أرض الأزهر الشريف وحضن المعاهد والجامعات والمجامع اللغوية والصحف والمجلات والمطابع التي أثمرت ثقافة عصر النهضة العربية وكانت بمثابة قاطرة الوحدة العربية، وصل فيها الأمر إلى حد أن عجزت لجنة الخمسين المكلفة بتعديل الدستور أو على الأصح بإعادة صياغته عن كتابة دستور خال من الأخطاء اللغوية والإملائية! ولم تستطع الصحف المصرية الرسمية من إخفاء تذمرها من فداحة الفضيحة اللغوية التي شانت صياغة الدستور المصري الجديد المطروح للاستفتاء في يومي 14 و15 جانفي المقبل. فقد كتب الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي مقالا نشر في الأسبوع الماضي بجريدة الأهرام انتقد فيه الأخطاء اللغوية والتعبيرية والنحوية الواردة في مسودة الدستور المصري الجديد. وقد تساءل البعض عن الحكمة من تكليف أحد شعراء اللغة العامية بكتابة ديباجة الدستور في الوقت الذي تتوفر فيه مصر على فطاحل في اللغة العربية، وهل لذلك علاقة بالصراع السياسي الدائر في مصر والذي امتدت آثاره الى مختلف نواحي الحياة وفئات الشعب المصري؟ ومن أغرب ما سمعت أن صحفيا مصريا كان يتكلم بحماس عن قيمة اللغة العربية وأهميتها في التواصل الحضاري وكان يتأسف بشدة على الوضع الذي آلت إليه بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثانية لليوم العالمي للغة العربية، ولكن عندما سألته منشطة الحصة في القناة التلفزيونية التي كان يتحدث من خلالها عن رأيه في الأخطاء اللغوية التي أثارها البعض في مسودة الدستور المصري، راح يشن هجوما ضاريا على حركة الإخوان المسلمين ويتهمها بأنها هي مصدر الإتهام، مؤكدا بأن ما يهم الشعب المصري هو الاستقرار والأمن والتطور الاقتصادي وليس الأخطاء اللغوية والصياغة السليمة للدستور! وأمام هذا الوضع المتردي والتفكك الحاصل في المجتمعات العربية يصاب المرء بالذهول من قدرة اللغة العربية على الانتشار والتجدد ومواجهة التحديات بما فيها مكائد أعدائها وإهانات أبنائها وإهمالهم لها، هذا الوضع الاستثنائي يجعل اللغة العربية لغة معجزة إضافة إلى كونها لغة المعجزة القرآنية الخالدة. ولعل هذا الارتباط والحفظ الرباني لها هو ما يجعلها لغة الماضي والحاضر والمستقبل، فلا ترثوا اللغة العربية ولكن أرثوا أنفسكم وهوانكم على الناس!