لم أشأ أن أتحدث مع أيمن عن الأمور العامة وواقع السرد في الأردن، ولا عما يتعرض إليه الجيل الجديد من الروائيين الأردني من تعتيم إعلامي من قبل رموز »أصنام« السرد الأردني، ولا حتى عن محاولات الرقابة في منع بعض كتاباته. أردت من هذه الدردشة أن أجعل القارئ الجزائري يكتشف هذا الاسم السردي المتميز، لا من خلال إصداراته السردية والشعرية فحسب، بل أيضا من خلال شخصية هذا الكاتب القوية، التي هي ما صنعت التميز والتفرد في أعماله لاسيما الروائية، ولهذا السبب أيضا أستحي أن أقدمه تقديما »سيراتيا« أتناول فيه مولده وإصداراته، فهذه تعرف من دون هذا الحوار... . يرتبط اسمك بعد إصداريك »يسمعون حسيسها« و»يا صاحبي السجن« بأدب السجون. هل كان هذا خيارا تكتيكيا للتسويق لاسمك أم أنّ لأيمن العتوم غاية أخرى من الكتابة في موضوع السجن بكل ما يعنيه من بشاعة في عالمنا العربي؟ في الحقيقة لم تكن لديّ نيّة مبيّتة للكتابة في أدب السّجون، وروايتاي في هذا الفنّ لهما قِصّة، بالنّسبة لرواية: »يا صاحِبَي السّجن» كانت عملي الرّوائيّ الأوّل، والدّافع لكتابتها هو رواية جزء من تجربتي التي انسحبتْ على الواقع السّياسيّ في الأردنّ بين عامَي »1996 ? 1997م»، وهي تكشف القِناع عن كثيرٍ من الحركات السّياسيّة والاجتماعيّة في تلك الفترة المهمّة من تاريخ الأردنّ؛ وكنتُ أنا أحدَ شهوده لأّني كنتُ قد زاملتُ في تلك الفترة من سجني كلّ عمالقة العمل السّياسيّ في الأردنّ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. هذا بالنّسبة لهذه الرّواية. أمّا بالنّسبة لرواية »يسمعون حسيسها» فلم يكن الدّاعي لكتابتها هو نجاح روايتي الأولى في أدب السّجون؛ بل كان لها قِصّة مغايرة؛ ذلك أنّني قرأتُ كتاب «بالخلاص يا شباب» للكاتب ياسين الحاجّ صالح، وقد روى تجربتهى في سجون سوريّة، وكان الكاتب قد قضى فيها ستّة عشر عامًا، منها خمسة عشر عامًا في سجون مختلفة، والعام السّادس عشر قضاه في سجن تدمر، فقال: إنّ سنةً واحدةً في سجن تدمر تعادل خمسة عشر عامًا فيما عداه على مستوى الألم والوحشيّة. وقال في ثلاثة مواضع أخرى من الكتاب إنّ ما عانيناه نحن الشّيوعيّين في سجن تدمر لا يُساوي ما كان يعانيه الإسلاميّون في السّجن نفسه، لكنّنا وثّقنا تجاربنا من خلال الكتب والدّراسات والرّوايات إلاّ أنّ الإسلاميّين لم يفعلوا ذلك وأظنّهم لن يفعلوا. «انتهى كلام الحاج صالح». استفزّتْني العِبارة الأخيرة مع أنّها صادقةٌ إلى حدّ كبير، وهُرعت أسال أن أحد مساجين تدمر إذا كان موجودًا على الأرض الأردنيّة، وبالفِعل أرشدني إليه بعض الأصدقاء، والتقيتُ السّجين، وسجّلتُ معه حوالي خمسًا وعشرين ساعةً صوتيّة. وتفرّغتُ شهرًا كامِلاً لأقرأ ما يقرب من ثلاثين كتابًا وروايةً من الرّوايات الّتي تحدّثت عن السّجون السّوريّة لتكون رؤيتي للموضوع أكثر شموليّة. وبعدها كتبتُ هذه الرّواية «يسمعون حسيسها»؛ وتلك هي قصّتي معها!! . لنبدأ من روايتك »يسمعون حسيسها». لماذا اخترت الحديث عن السجون السورية في هذا العمل، حتى أن الكثيرين ممن لم يقرؤوا العمل بتفاصيله، يقولون إنّ نجاح رواية القوقعة خاصة وتناولها للسجون السورية مَن دفعك إلى هذا الخيار؟ في الحقيقة بعد أن أخذتُ شهادات البطل الرّئيسيّ «إياد أسعد» لإنجاز الرّواية شرعتُ بقراءة كلّ ما استطعتُ أن أصل إليه من الأعمال الّتي تتحدّث عن الفترة نفسها ومن ضمنها رواية «القوقعة»، ومع أنّ رواية «القوقعة» حفلتْ بالمشهديّة العالِية، وبالتّصوير السينمائيّ الاحتِرافيّ إلا أنّها لم تُغطّ المساحة الأوسع مِمّا حدث في تلك الفترة البئيسة من تاريخ سوريّة والتّي تمثّلتْ في صورتها الأبشع في سجن تدمر. ومع اعترافي بأنّ الفترة الّتي تتحدّث عنهما الرّوايتان هي نفس الفترة، والجلاّد هو ذات الجلاّد، والمكان هو ذات المكان، إلاّ أنّ من يقرأهما ستتكشّف له عوالَم لم يطّلع عليها صاحب القوقعة، ذلك أنّه كان كما قال عن نفسه قد صنع لنفسه تلك القوقعة، وثقبَ في جدار السّجن ثُقبًا وتلصّص من خلاله على كلّ ما كان يدور أمامه في السّجن من خلال ذلك الثّقب. أمّا بطل رواية «يسمعون حسيسها» فقد تهيأتْ له ظروف أوسع وأرحب، وهو على الأقلّ لم يكنْ ينظر من خلال ثقبٍ فحسب، ولا يرى من خلال عينيه وحدهما، بل هُيّئتْ له عيون كثيرٍ من المساجين الّذين نقل عنهم الواقع المُرعب الّذي عاشه مع رفاقه هناك، ثمّ إنّ علاقاته الطّيّبة مع السّجناء من الإخوان المسلمين أتاحت له عددًا من المشاهدات والمشهديّات لم تكن لتتوافر لصاحب القوقعة. وتبقى تلك الفترة مع كلّ ذلك واسعة لم تُغطّ بالشّكل الّذي تستحقّه، ولعلّ آخرين يأتون فيُكمِلون المشهد من جميع جوانبه. . في »يسمعون حسيسها»، تتفنّن بوصف طرق التعذيب، هل كان كل ما ذكرت حقيقيًّا، وبنفس البشاعة التي وصفتها أم مجرد خيال منح نكهته للعمل؟ لقد قال الأوّل: لا تشكُ للنّاس جُرحًا أنتَ صاحبهُ لا يُؤلم الجرحُ إلاّ مَنْ به ألمُ بلا شكّ منْ عاش الجرح ليس كمن وصفه، وهذا يصدق على الوصف في هذه الرّواية، إذ إنّ كلّ هذا الوصف لا يُساوي عشر ما كان يحدث، وهو كما قال بطلها في أوّل صفحات الرّواية، إنّه ما رأيتُه أنا وهو جزء منه، فتخيّل معي إذًا مستوى فداحة الأمر بعد ذلك. إنّ ما كان يحدث هناك من ألوان التّعذيب واصناف الأذى، وأشكال الإهانة، وطرائق الإعدام كان لا يُمكن بأيّ حالٍ من الأحوال أن تجود به قريحة أوسع مؤلّفي أفلام هوليود خيالاً، وأجنحهم إثارة. إنّها وسائل قادمة من القرون الوسطى حيثُ الوحشيّة المُطلقة، أو من محاكم التفتيش حيثُ التّقنيات المُفرِطة في اللإنسانيّة. ولعلّ ما كان يحدث في معسكرات الاعتِقال أيّام النّازيّة يُعَدّ أكثر رحمةً، وأوسع حِلمًا أمام ما كان يحدث في تدمر. باختِصار لم يكنْ للحرف الّذي صُغت به المشهد من فضلٍ إلاّ تلك المُحاولة في رسم الصّورة أو تقريبها إلى أذهان المتلقّين في حين أنّ الواقع كان أبشع وأفظع مِمّا يُمكن أن يخطر بالبال. . لماذا تُصرّ أن تُظهر قناعاتك الإيديولوجية في كتاباتك، أعتذر عن كلمة إيديولوجيا ولكنّنا ونحن نقرأ لك نشعر أنك تجبرنا من خلال عناوين فصولك وعناوين أعمالك ذات الإيحاء الديني أنه علينا أن نكون نبنفس عقائدك لنقرأ لك. إذا كنتَ تقصد بالأيديولوجيا فِكر الكاتب واعتِقاده؛ فأنا على قناعةٍ من أنّ أحدًا من الكُتّاب العمالقة لم ينجُ من ذلك، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، فكلّ كاتبٌ يُخرِج الماء الّذي تمتل به بِئرُه لا بئرُ جاره!! ولا حاجة لأن نتذكّر معًا مثلاً أنّ مئات الرّوايات لكُتّاب روسٍ حفلتْ بالأيديولوجيّة الّتي يؤمنون بها وحينَ وفدتْ مُترجَمةً إلى العالَم العربيّ لم يقف أحدٌ ليُنكِر على أولئك الكُتّاب أيديولوجيّتهم؛ وأنا مع ذلك؛ أعني. أمّا بالنّسبة لرواياتي ففي الحقيقة مع أنّ النّصّ القرآنيّ نصّ مُقدّس، إلاّ أنّه في النّهاية نصّ. وإذا أردتَ أن تُشرِكَ معه النّصوص الأخرى فإنّه عل المستوى الفنّيّ والبلاغيّ يتفوّق على ما عداه، وإذا كانت هذه حقيقةٌ لا يُماري فيها اثنان فإليكَ إذًا أسباب إيرادي هذه العناوين لفصول رواياتي: أوّلاً: أنا أكتب ما أنا مؤمنٌ به، وهذا معيارٌ فنّي في الصّدق، قد يُشعر القارئ بوهج هذا الصّدق مِمّا يجعل مساحة التّأثير تتّسع. ثانِيًا: من الغريب أنّ عددًا من روائيّينا العرب الكِبار ليس أوّلهم نجيب محفوظ وليس آخرهم إبراهيم الكوني يُصدّرون الصّفحات الأولى أو عناوين الفصول من الإنجيل أو من بعضه ولم أسمع أحدًا من نُقّادِنا الكِبار ينتقدونهم في ذاك، أو يقفون منهم موقف الواعِظ!! ثالثًا: لماذا يُعدّ من يأخذ من الإنجيل أو التّوراة أو منهما ويُدخله في نصّه الرّوائيّ بأنّه مثقّف نوعيّ وأنّه مُطّلع، ويُحسب له هذا الامتِداد المعرفيّ، في حين أنّ من يفعل الشّيء ذاته مع القرآن يُعدّ رجعيًّا، ومُتحجّرًا ومتقوقعًا، وخارج إطار الزّمن!! رابِعًا: نعرف جميعًا أنّ العالَم كلّه احتفى بروايات دان بروان الأخيرة، والّتي انتشرت انتشارًا غير مسبوق، وهي في أغلبها مستندة إلى النّصّ الإنجيليّ روايةً ومشهديّة وفِكرًا وفنًّا. مع أنّه لا أحد من النّقّاد الغربيّين عاب عليه ذلك، بل على العكس أشادوا به وبجّلوه وقدّموه إلى العالَم بأكمله حتّى دخلتْ رواياته إلى كلّ حارةٍ وزُقاق. فلماذا نعيب على أنفسنا نحن العرب المساكين أخذنا من نصّنا الأكثر بلاغةً وجمالاً وفنّيةً في حين أنّهم لم يعيبوا على من أخذ من نصوص الإنجيل...!! خامِسًا: هل تستطيع أن تُحصي لي عدد الرّوايات الّتي تأخذ عناوين فصولها من شكسبير أو ملتون أو موليير... أو غيرهم، وهذا الأمر لا ينطبق على الرّواية الغربيّة كما ينطبق على الرّواية العربيّة!! إنّك حينئذٍ ستتيه في العدّ قبل أن تُكمله، أفرأيتَ بعد ذلك علامات الإعجاب الّتي ترتسم على وجوه القرّاء والنُّقّاد على السّواء وهم ينشغلون بتعداد مآثر هذا الكاتب الّذي تجاوز الإقليميّة والدّوليّة إلى العالَمية بهذه الأساليب!! سادِسًا: أعتقد أنّ فكرة الانهِزاميّة على الصّعيد الثقافي الّتي يعيشها المثقّفون العرب هي الّتي جعلتهم ينظرون هذه النّظرة... في حين أنّ هذه النّفسيّة ليست موجودة عند مثقّفي الغرب فلا تجد من يجد فيها حساسيّة عندهم. سابِعًا: ألا ترى أنّ مَنْ يأخذ من المُعجِز فإنّما يبغي لنصّه الإعجاز، ومن يأخذ من السّاحر فإنّما يبغي له لك، ومن يأخذ من الخالد فهو يبغي لنصّه الخلود؛ والقرآن معجزٌ وخالدٌ وساحرٌ؛ فلذلك أفعل!!