فتح المصريون والعرب أعينهم بدهشة على النّكسة عام سبعة وستين من القرن العشرين، وابتلعت إسرائيل شبه جزيرة سيناء وتلقّى الجيش المصري ضربة عسكرية كبيرة، ودمّر سلاح الجوّ الإسرائيلي نظيره على أرض الكنانة، لكنّ على الثَّرى لا قرب الثُّريّا، فقد تلقّت الطائرات الحربية المصرية الضربة وهي رابضة على مدرجات المطار في غفلة من ذلك الرهط الذي أشبع الدنيا بالخطابات التي تنذر برمي إسرائيل في البحر. في تلك الفترة التي سبقت النّكسة كان الكلام هو سيّد الموقف، ولا بأس في ذلك فالعرب تقول منذ القديم إنّ الحرب أوّلها كلام.. لكنّ المصيبة الكبرى، والمهزلة أيضا، حين يكون الكلام هو العدّة والعتاد سواء في الحرب أو السلام، وهكذا كانت صواريخ الظافر والناصر، الخشبية المزيّنة بعناية، تجوب شوارع القاهرة على متن شاحنات عسكرية وتلهب خيال المصريين بمشاهد الثأر التي ستحدثها في تل أبيب عاصمة الكيان الصهيوني وتُذهب من الذاكرة ألوان التجبّر والقهر والإرهاب التي مارسها الصهاينة ضد الفلسطينيين وجيرانهم.. وأكثر من الصواريخ قال باعة الوهم إنهم اخترعوا طائرة تصل سرعتها إلى ضعفي سرعة الصوت. هذا بعض حال القوات المسلحة المصرية والدولة التي كانت تديرها، ومع أن حرب رمضان، أكتوبر، التي تلت النكسة بستّ سنوات قد أعادت بعض الثقة للمصريين والعرب، لكنّ صفحتها سرعان ما طُويت بفعل ممارسات الرئيس أنور السادات وانخراطه في مفاوضات سلام أنجبت اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة. فهل تغيّر الحال مع مجيء الرئيس حسني مبارك وتسمّره على كرسي الحكم والجيش مدة ثلاثين عاما.. العقل والمنطق يشيران إلينا دائما بأنّ التغيير سنّة كونية وغريزة بشرية، وأكثر من ذلك هاهي رياح الثورة التكنولوجية قد هبّت على الجميع، في مصر وغيرها، وفوق ما تعرّض له سكان العالم، تعرّض الجيش المصري لنفحات ثورة الخامس والعشرين من يناير، وحتى الثلاثين من يونيو، إذا ألغينا عقولنا للحظات وصدّقنا أنّ هذه الأخيرة ثورة؟.. الأمر المؤسف أن الجواب بالنفي وليس بالإيجاب رغم كلّ ما يحدث في العالم من تغيير وتحديث.. وهاهي حليمة تظل على عادتها القديمة، حتى لا نقول إنها عادت إلى عادتها القديمة، لأنها لم تتخلص منها على ما يبدو. والدليل على هذا الجواب السالب ذلك »الاختراع العظيم« الذي فاجأنا به الجيش المصري الباسل، أو قادته على الأقل، والطريقة الدعائية التي صاحبته في وسائل الإعلام المؤيدة للانقلابيين، والتعبيرات التي جاءت على لسان من قال إنه لواء طبيب وأكّد من خلالها على أن الفريق عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع، كان يدفع فريق المخترعين دفعا كي يحقّقوا هذا الإنجاز الطبي الفريد ويسبقوا بالتالي دولا وشركات ومؤسسات طبية في الشرق والغرب. الجهاز من إنتاج السيسي إذن، والوظيفة هي الكشف عن فيروس الإيدز ومعالجته، أما النتيجة في الشارع المصري والعربي ومواقع التواصل الاجتماعي فهي كمّ هائل من السخرية والتندّر خاصة من التقرير الدعائي الذي بثّه التلفزيون المصري وظهر فيه بعض من قالوا إنهم مرضى بالإيدز وتخلّصوا منه إلى الأبد. السخرية ركّزت على الفريق السيسي بطبيعة الحال، وقال بعض المتهكّمين إن الرجل سيرشّح نفسه لجائزة نوبل في الطبّ وسيظفر بها، خاصة بعد أن حصل على رتبة المشير دون خوض أيّ حرب حقيقية أو تحقيق انتصار عدا الانتصار على الرئيس المنتخب محمد مرسي، وحتى هذا النصر ما زال موضع شك، فنتائجه الكاملة لم تتحقق بعد. الترويج لهذا الاختراع المزعوم يأتي في سياق حملة تلميع السيسي.. ولنا أن نتساءل إن كانت أوامر الرجل وراء جميع حملات التمجيد والتعظيم التي ترفعه إلى درجات أعلى من البشر وتضعه أحيانا في مصافّ الأنبياء المخلّصين؟.. ولعلّ الجواب أنه لا يفعل ذلك بالضرورة، لكن المؤكد أنه لا يرفض مثل هذه المبالغات والسخافات، وإلا لما قرّب إليه جحافل النفعيين والمتملّقين والانتهازيين الذين يحسنون الرقص والتصفيق في الوقت المناسب. في زمن الزعيم جمال عبد الناصر تطوّع أديب بتضخيم قصة، أو مسودّة رواية، وتوسيعها حتى صارت سِفرًا عظيما، وظهرت على رفوف المكتبات باسم الزعيم.. لقد كانت محاولة أدبية لعبد الناصر في شبابه، لكنّ المتملّقين أبوا إلا تحويلها إلى عمل أدبي ضخم.. كيف لا يكون الزعيم أديبا؟.. وكتب القذّافي مجموعة قصصية، وخلال السنوات الأخيرة من حكمه دأب على تقديم نفسه في صورة المفكّر، وتظهر في الخلفية، خلال أحاديثه التلفزيونية، مكتبة زاخرة بألوان المعارف والفنون.. وحول تلك المجموعة كتب الأديب الناقد الدكتور جابر قميحة سلسلة مقالات حملت عنوان )إلا القصّة يا مولاي(.. وقد استوحى العنوان من حوار متخيّل بين الشاعر النابغة الذبياني والنعمان بن المنذر ملك الحيرة، وتدور الفكرة حول تتلمذ الملك على الشاعر في فنون كثيرة، وفي الأخير قال له علّمني الشعر، وهنا صاح النابغة: إلا الشّعر يا مولاي. أيها السادة في مصر، وفي دول أخرى مشابهة: نقسم لكم بأغلظ الأيْمَان أننا شَبَبْنا عن الطّوق وبلغنا سنّ الرشد وتأثّرنا بالعولمة الإعلامية بجميع تجلّياتها وإيجابياتها وسلبياتها على حدّ سواء، وعلى هذا الأساس ابحثوا لكم عن أساليب أخرى جديدة.. تعلّموا فنون الإبداع في مخاطبة الشعوب وإقناعها واحرقوا أرشيف التجارب القديمة أو أَحْكِموا عليها أبواب الخزائن إلى الأبد.. الناس يتغيرون، وأنتم أيضا: تجدّدوا أو تبدّدوا. وعودة إلى الفريق السيسي لنلغي عقولنا بعض الوقت، مرة أخرى، ونقرّ بأنه حقق إنجازات في الانقلاب على رئيس منتخب، وخاض حربا على الإرهاب كما يقول، وطار إلى موسكو ليلعب على ورقة التناقضات الدولية.. واصل كما يحلو لك.. إلا عالم الطبّ يا مولاي.