دخل موسوعة غينس للأرقام القياسية بكل جدارة واستحقاق بعد أن تجاوزت أحكام الإعدام التي أصدرها الألف ومائتين.. كما أصدر أحكاما هي الأولى من نوعها في تاريخ القضاء المصري حين حكم على متهمين بالتظاهر والتجمهر بالسجن ما بين سبعة وخمسين وثمانية وثمانين عاما مع أن الحد الأقصى للعقوبة في قانون التظاهر لا يتجاوز الخمسة وعشرين عاما، وبشرط تلقّي المتظاهر المتّهم أموالا من الخارج. في أيّ مستوى من مستويات الجنون يمكن تصنيف مثل هذه الأحكام التي أصدرها مؤخرا القاضي المصري، غريب الأطوار، سعيد يوسف صبري؟ وإن لم تكن جنونًا، فأيٌ قدر من الاستهتار وصل إليه القضاء المسيّس في مصر؟ وإن لم يكن الأمر كذلك فأيٌ قذارة سياسية يمارسها الإنقلابيون وهم يرفعون السقف إلى هذا الحدّ فيرهبوا الأبرياء ويُدخلوا ملايين المصريين في متاهات القلق والانتظار، وعندما يتحقّق حلم المشير السيسي في الرئاسة يتكرّم بالعفو العام فيدرك الناس رحمة ورأفة العسكري الرومانسي!! ولأن البعض قد صرّح بأن الرجل فوق البشر؛ فعندها قد يفتكّ لقب المسيح المخلّص بكل جدارة. تتواصل غرائب القضاء المصري، ما بعد الثالث من يوليو، حين تصدر أحكام إعدام المئات في جلستين؛ الأولى لم تستغرق سوى عشرين دقيقة، أما الثانية التي صدر فيها الحكم فكانت دون متّهمين ولا محامين وهكذا أصدر القاضي (النّزيه) حكمه دون الاستماع إلى دفاع أو شهود ولم يكلّف نفسه حتى فضّ أحراز القضية، واكتفى بشاهد واحد هو ضابط شرطة يقول دفاع المتّهمين إنه لم يكن موجودا يوم الحادث الذي يعتقد القاضي أنه يوجب إعدام المئات. تتواتر وتتصاعد التنديدات الإقليمية والعالمية بأحكام الإعدام الجزافية في مصر، وتتحرك وجوه انقلابية بثقة عالية، على ما يبدو، وتدافع عن القضاء المصري وشموخه ونزاهته التي لا يرقى إليها الشك، وأكثر من ذلك دولة المؤسسات والديمقراطية التي تنفصل فيها السلطات بعضها عن بعض، وهكذا فالأحكام القضائية في مصر، بعد الانقلاب، لا تشوبها شائبة لأنها بعيدة عن أيّ تأثير سياسي أو أيديولوجي.. هكذا يتشدّق هؤلاء. نعم.. إذا ذهب الحياء أباح الناس لأنفسهم أيّ شيء.. وفعلا دعت الخارجية المصرية إلى احترام استقلالية القضاء المصري ردا على سيل الانتقادات والاتهامات التي انطلقت من عواصم عربية وإسلامية وأوروبية وحتى من واشنطن والأمم المتحدة، وقال المتحدث باسم الخارجية المصرية متبجّحًا بأنه لا يستطيع التعقيب على أحكام القضاء وأن مبادئ الديمقراطية زتتحدث عن ضرورة الفصل بين السلطاتز.. آه ثم آه.. ما أحوجنا إلى وسام عالمي للكذب، يُمنح كل عام لأكذب كذّابي العالم.. ولا أشكّ أن الفائر الأول به سيكون إنقلابيا مصريا لأنّ العالم تابع الإنقلابيين وهم يكذبون ثم يصدقّون أكاذيبهم، حتى انتقلوا إلى مرحلة تعليم الدول الديمقراطية معنى استقلال القضاء والفصل بين السلطات. صدّقنا أن الإخوان إرهابيون ظلاميون، وأنهم خطر على سكان العالم أجمع وحتى على بقية كواكب المجموعة الشمسية كما أنّ وجودهم هو الذي تسبّب في ثقب طبقة الأوزون.. لكنّ القضاء المصري (النزيه) ينتقل إلى حظر أنشطة حركة السادس من أبريل الليبرالية.. ألا تكون النزاهة إلا في مسار الانقلابيين وخدمة مشروعهم من خلال الأحكام المتتالية ضد معارضي السيسي؟.. إنّنا في زمن الرداءة فدعونا نصدّق أنّ القضاء المصري نزيه أكثر من القضاء البريطاني، وما على البريطانيين سوى التّتلمذ على يد المصريين في هذا الميدان.. وعندها يمكن تفسير أحكام المستشار سعيد يوسف صبري الغريبة على أنها سعي محموم وراء الشهرة لا أكثر، ولن يبتعد بالتالي عن ذلك الأعرابي الذي بال في بئر زمزم ليدخل التاريخ، وقد دخل التاريخ فعلا لكن من أبوابه القذرة، وهاهو حضرة المستشار يتّبع الخطوات نفسها. لا شكّ أن الفئة المغامِرة في مصر محدودة العدد مقارنة بالعدد الكبير من العقلاء حتى من الذين أيّدوا الانقلاب بشكل أو بآخر أو الذين فضّلوا الانزواء والانتظار حتى ينجلي غبار المعركة.. وعليه فإن المسؤولية بكاملها على عاتق هؤلاء العقلاء.. مسؤولية دقّ ناقوس الخطر للجميع، وتذكير الناس بأن الأفكار لا تُقاوم بالسلاح والسجون والإعدامات فقد جُرّبت في السابق وكانت نتائجها عكسية، وفوق ذلك فإن من جرّبها كان أكثر قوة ولم يكن بين يدي معارضيه يومها إعلام ولا هواتف جوالة ومواقع انترنت وتواصل اجتماعي وغيرها كحال الناس الآن. لقد جرّب الزعيم عبد الناصر اعتقال خصومه السياسيين وإعدام الكثير منهم، وحشد في سجونه ومعتقلاته الآلاف سنوات طويلة، وبلغ توجّس المصريين درجة تستعصي على الوصف من جرّاء بطش الأمن والمخابرات بالإخوان المسلمين وملاحقتهم وتتبع تحركاتهم وحتى شبكاتهم الاجتماعية التي أسسوها لدعم أسر المعتقلين في أكلهم وتعليم أولادهم وتوفير مبالغ لشراء الأقلام والكراريس. لقد بلغ الخوف درجة عظيمة جعلت المصري يصرخ إذا خاصمته زوجته: ماذا أفعل؟ أرمي نفسي من الشبّاك؟ أحزّ رقبتي بسكّين؟ أخرج إلى الشارع وأصيح الله أكبر ولله الحمد؟.. نعم.. هل يخرج أمام الملأ ويردد شعار الإخوان المسلمين.. وقطعا ستسمعه الآذان المنتشرة في كل مكان، ولن يشعر إلا عند دقات الباب العنيفة وقت الفجر، فينطلق بعدها إلى عالم السجون الحربية التي وُصفت بأن الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود. تغيّر الزمن ومات الزعيم عبد الناصر، رحمه الله، وعاد الإخوان من جديد.. فارحموا أنفسكم يا عقلاء مصر ولا داعي لتجريب المجَرّب.. الفكرُ لا يُحارب إلا بالفكر.. نافسوا الإخوان فيما برعوا فيه وتقرّبوا من الشعب كما تقرّبوا إليه لتسحبوا من تحت أرجلهم البساط.. أما ما يقوم به السيسي وزمرته فهو أشبه بمضغ الهواء أو الحرث في الماء.