هي صفقة تداخل فيها الابتزاز، كما المصالح، والضغوط كما الوعود، والترغيب كما الترهيب، وتذكرنا الواقعة بحكاية تلك الراقصة التي قدمت رأس يوحنا المعمدان على طبق من ذهب لأعدائه•• وفي حالتنا هذه، فإن يوحنا المعمدان، هم أولئك الأطفال البرءاء ضحايا جرائم اسرائيل في غزة•• صفقة بخسة تم حبكها بأسلوب مخابراتي، فهناك الحادثة الفضيحة، ولكن من يقف وراءها لا يزال لغزا•• لأول مرة منذ ستة عقود، تجد اسرائيل نفسها في مقعد الاتهام وكل الأصابع تشير إلى جرائمها - غير أنه ولسخف الأقدار يأتي طرف من المفروض أنه الضحية أو يمثل الضحية ليمنح البراءة للجلاد•• إن الغموض المريب الذي ساد ظروف وملابسات عدم تقديم تقرير القاضي غولدستن حول حرب غزة إلى التصويت إثر مناقشات حامية في جنيف، بطلب من جهة تتعمد الغموض مع أنها بائنة، وتسعى إلى التمويه على أنها مكشوفة ليس فحسب كان صدمة للكثير، إنما يكشف عن إغراءات بخسة، وعن ابتزازات رضخت لها السلطة في رام الله، و أطراف من السلطة• ومن الصعب تحديد المقابل بالضبط•• لكن هناك مؤشرات لبعض الأثمان البخسة، إن قورنت بالدم والدمار والجريمة التي حدثت في غزة•• والسيد فولك مقرر الأممالمتحدة لحقوق الانسان في غزة كشف عن خيط فيها حين تحدث عن ملف الهاتف الخلوي في الضفة الغربية•• كما أن بعض الصحف الأمريكية كشفت أن خيطا آخر يتعلق بتسجيل بالصورة وبالصوت اللقاء الذي جمع محمود عباس ويهود باراك في أوج العدوان على غزة•• كانت المبررات أولا•• أن هذا التأجيل لإتاحة الفرصة لكسب تأييد المزيد من الدول المتحفظة•• ثم بعد ذلك يأتي قرار الرئيس محمود عباس بتشكيل لجنة تحقيق حول ظروف هذا التأجيل•• ثم بعد ذلك يطلب من مجلس الأمن دراسة التقرير بموافقة السلطة في رام الله• سيناريو مهزوز ومهترىء من البداية، ذلك أن مجلس الأمن في حالة كهذه لا يمكنه دراسة ملف كهذا إلا حين يصادق عليه المجلس الدولي لحقوق الانسان وهو المؤهل لإحالته عليه•• أمر لم يحدث لأن هناك طرفا خفيا ظاهرا في نفس الوقت طلب عدم المصادقة في جنيف•• ضيع فرصة ليس لكشف جرائم اسرائيل، إنما توثيق هذه الجرائم لأول مرة في تاريخ القضية•• الصدمة لم تصب الشعب الفلسطيني وحده، ولم تمس الأمة العربية والاسلامية فحسب•• إنما أذهلت وفاجأت المئات من منظمات وجمعيات حقوق الإنسان عبر العالم وفي اسرائيل نفسها، التي تجندت وناضلت وكافحت وتحملت ضغوطا من أجل إدانة هذه الدولة العنصرية الاستعلائية•• شهداء العدوان على غزة جريمة حرب•• وحصار غزة جريمة ضد الإنسانية•• هكذا وصف تقرير القاضي غولدستن ما قامت وتقوم به اسرائيل التي حوصرت في جنيف•• ويأتي قرار غامض نتيجة اتصال هاتفي لطرف لم يتبين بعد ليوقف كل شيء في مقايضة لا نعرف أهميتها ولا قيمتها وثمنها أو مقابلها•• ولو كان مقابل رفع الحصار عن القطاع لربما أدى ذلك بالتبجح أن هناك ثمنا ومقابلا•• والمأساة أو الملهاة في كل هذا، أن الكل الآن يقول لست أنا•• والكل يتباكى، فمن سرق المصحف إذن كما قال مالك ابن دينار ذات يوم•• في الفلسفة منهجان•• من الجزء تصل إلى الكل•• أو من الكل تستنتج الجزئيات•• وفي حالة هذه الصفقة غير المنظورة ولكنها محسوسة••يجدر بنا استقراء بعض الخيوط المتشعبة التي أدت إلى أن يؤول الوضع إلى هذا المستوى•• السيد فولك مقرر الأممالمتحدة لحقوق الانسان في غزة تحدث عن رخصة الهاتف الخلوي، وقد تكون إحدى فصول المقايضة، وقد تكون المقاولات وبعض الشركات التي تمتلكها أطراف فلسطينية بالسلطة في رام الله أو محسوبة عليها ومرتبطة بها•• ذلك أن جدار الفصل العنصري وكذا العشرات من ورشات بناء المستوطنات في الضفة وفي القدس تساهم في إنشائها مقاولات بناء أشغال عمومية فلسطينية• هل لنا أن نتحدث عن تواطؤات؟ كان المرحوم ياسر عرفات خلال تاريخ كفاحه الطويل يقول كلمة كلما كانت القضية الفلسطينية تمر بعسر - نحن ندخل عنق الزجاجة• لكن هذه المرة فإن القضية في عنق الثعبان الذي سهلت له عملية ابتلاعها•• للقضية تداعيات دون ريب•• لكن أليس لهذه الفضيحة خلفيات؟ قبل نحو شهرين فجر أبو اللطف فاروق القدومي قنبلة داخل السلطة الفلسطينية في رام الله عندما كشف عن رسالة للمرحوم ياسر عرفات هي بحوزته تتحدث عن متآمرين ضد حياته من شخصيات نافذة في السلطة، ولست في حاجة لذكر الأسماء التي ذكرها هو ووجّه أصابع الإتهام لها•• فقط أود أن أقول أنه لم يتم تشكيل لجنة تحقيق مع أن ما قاله فاروق القدومي خطير بكل المقاييس•• لكن ما حدث أن استبعد هذا القيادي البارز والتاريخي من كل هياكل فتح ونزعت منه الدائرة السياسية لمنظمة التحرير•• أين نحن من زمن أولئك النجوم•• نجوم القضية الفلسطينية•• من الراحل أبو عمار إلى جورج حبش إلى أبو إياد إلى أبو جهاد وقبل ذلك كمال عدوان وغسان كنفاني وأبو يوسف النجار•• الثلاثة الأخيرون كان الموساد قد اغتالهم في شارع فردان في بيروت عام 1968 وكان وقتئذ الكومندو الاسرائيلي ايهود باراك الجنرال حاليا ووزير الدفاع الذي تقول مصادر صحفية أمريكية واسرائيلية أن محمود عباس حين اجتماعه معه إبان العدوان على غزة طلب منه إكمال العملية حتى النهاية••!! كل الذين وقفوا مع غزة مع أبنائها وأدانوا ونددوا بالعدوان الوحشي عليها هم مصدومون الآن، هم مذهولون•• وأكيد فإن ذلك العثماني الأصيل الطيب رجب أردوغان الذي يذكرنا بسلطة السلطان عبد الحميد، سيكون أكثر المصدومين•• ذلك أن الرجل الذي بهدل بان كي مون في بروكسل حين ترك شيمون بيريس يبرر جرائم غزة ورمى الأوراق وانسحب من المنصة•• هو نفسه الذي يطالب المجتمع الدولي بإخضاع منشآت اسرائيل النووية للتفتيش ومطالبتها بالكشف عن ترسانتها النووية أسوة بالحملة الغربية الاسرائيلية على إيران•• وهو موقف لم يفصح عنه هكذا وبوضوح أي زعيم عربي•• على الأقل تكتيكيا مقابل تأييدهم للغرب ضد برنامج إيران النووي! قد يكون للحديث بقية•• لكن الجرح تعفن وذر الملح عليه يزيده آلاما•• لكن أليس حال العرب اليوم هو: ما بالجرح بميت إيلام؟! وهو يستقبل جورج ميتشل مبعوث الرئيس أبوما للشرق الأوسط، قال ليبرمان موجها الكلام لضيفه•• ليس هناك أمل في حل مع الفلسطنيين•• إنه إجابة من الراعي لتلك الراعية التي أهدته في جنيف نعجتها الوحيدة!