لن أتوقف عند الهراء الوقح الذي جاء على لسان زثدييةس إعلامية في مصر ضد المغرب الشقيق، لأنه يعكس واقعا فكريا يعيش في أذهان الكثيرين هناك حول كل البلدان العربية نتيجة لعملية شحن إعلامي تتواصل منذ سنوات وسنوات، هدفها الحقيقي تدعيم الولاء لنظام الحكم على أساس أن الشعب محاط بالأعداء والخصوم والحاقدين والغيورين والحاسدين وقليلي الأصل عديمي الوفاء. ما يهمني اليوم هو الترحم على الجنود المصريين، الذين قيل أنهم استشهدوا في منطقة زالفرافرةس على الحدود الليبية المصرية، غير أن كانت جنازة الضحايا، الذين نحتسبهم عند الله، فرصة لاستعداء الشعب المصري على المقاومة الفلسطينية، للتغطية على الموقف الحقيقي للنظام من العملية الإجرامية التي أقدمت عليها إسرائيل بعد اغتيال ثلاثة مواطنين إسرائيليين لم تثبت مسؤولية المقاومة عنه، وبعد الكثير من علامات الاستفهام التي تفجرت حول مبادرة مصرية تم خلالها تجاهل طرف رئيسي في الصراع، وهو المقاومة الفلسطينية وشهداء غزة، وهو ما يؤكده وصول عملية التحريض الإعلامي إلى درجة توجيه التحيات علنا للقيادات الإسرائيلية. ولأن الشعب الكريم هناك سجين الإعلام الأحادي متعدد المنابر والقنوات والمهارات لم يقرأ الكثيرون رواية أخرى نشرت في أكثر من موقع إعلامي وزعمت أن الضحايا المصريين لقوا مصرعهم على الأرض الليبية، خلال الصراع القائم بين الثوار الليبيين وعناصر الجنرال زحفترس، الذي قيل أن استجداء دعمه كان هو السبب الحقيقي وراء (توقف) طائرة المشير في الجزائر وهو في طريقه إلى قمة إفريقية، بينما لم تكن الجزائر، جغرافيا، نقطة متوسطة بين مصر وجمهورية غينيا الاستوائية. وواقع الأمر أن الإعلام هناك واصل نفس الدور الذي عُرف به منذ سنوات طويلة، والذي تناوله محمد حسنين هيكل في كتابه عن حرب أكتوبر (ص 281 وهو يروي بأن كيسنجر كان يقول لكل من يُقابله أن : زالسادات يملك مرونة هائلة في اختيار مواقفه، فهو غير مقيد بتوجهات الرأي العام العربي، وإنما يهمه الرأي العام المصري، وهو يستطيع التحكم في توجهاته بوسائل الإعلام المحلية، ولعل مما ساعده على ذلك إلى أقصى حدّ عنصران رئيسيان، أولهما قوة الإعلام المصري الحكومي والتزامه المطلق بتوجهات السلطة، وهو ما يجعل منه أحيانا أكثر ملكية من الملك، أما الثاني فهو عنصر الوفرة الكبيرة للمادة الإعلامية المحلية التي تجعل المواطن المصري يكتفي بها ولا يبحث عن وجهات نظر مخالفة، وبهذا لا يسمع إلا صوتا واحدا هو صوت أبواق السلطةس. وكما يُقال: شهد شاهد من أهلها. وسنجد دائما أن العنصرين سيتحكمان إلى حد كبير في وضعية العلاقات المصرية مع الوطن العربي، خصوصا عندما تمكنت الشعوب من معرفة التفاصيل التي لم يكن الشعب المصري يعرفها، برغم أن الكثير منها كتب في مصر، لأن جل القوم هناك لا يحيدون عن خط الإعلام الرسمي. كان الشعب المصري آنذاك ينتظر الكثير مما وعد به إثر إجهاض نتائج حرب أكتوبر، التي أعلن الرئيس المصري أنها آخر الحروب، وهو بكل المقاييس خطأ سياسي جسيم، لأن مجرد معرفة العدو بأنك لست مستعدا لقتال جديد يجعله أكثر اطمئنانا وبالتالي أقدر على المساومة والمزايدة، وكان هذا ما تبين بعد رسالة السادات الشهيرة إلى كيسنجر يوم 7 أكتوبر، أي اليوم التالي لاندلاع الحرب، والتي أكد فيها، عبر حافظ إسماعيل، محدودية تحركه العسكري. ويفاجأ الشعب برفع أسعار المواد الاستهلاكية يوم 17 يناير ,1977 وهناك ينفجر الشارع المصري في الانتفاضة الشهيرة أطلقت عليها الصحافة الدولية اسم انتفاضة الخبز، لأن خلفيتها كانت قرار حكومة عبد العزيز حجازي برفع ثمنه. وكان هم السادات الأول بالتالي حلّ المشكلة المصرية الاقتصادية التي تهدد بتكرار ما حدث في بداية عام .1977 وفجأة تسرب إلى فكره اقتراح كان الوفد الإسرائيلي قد همس به إلى الوفد المصري في لقاء جنيف أواخر ,1973 وكان محوره أن على مصر ألا تنظر شرقا، حيث المشاكل كثيرة والمردود محدود، لكن عليها أن تنظر غربا لأن الفائدة هناك مضمونة والمخاطر محدودة. ويقول هيكل (عواصف الحرب والسلام) بأن السادات توصل إلى حلّ بالغ الغرابة فقد خطر له أن يغزو ليبيا، وفي ذهنه أن يحتل الجانب الشرقي من ولاية برقة حيث معظم منابع البترول الليبي (ص 328 ولعل السادات نسي هنا أن من أكبر أخطاء أدولف هتلر، الساعي إلى الحصول على مزيد من النفط، هجومه على الاتحاد السوفيتي في ,1941 والذي نسي فيه أن ثلوج موسكو أنهت أسطورة نابليون من قبله. وهكذا أصبحت ليبيا هدفا للنظام المصري، وكانت قوته الرئيسية ترسانة الإعلام الهائلة التي ورثت من مرحلة أحمد سعيد أسوأ ما فيها، ولم تأخذ عنها إيجابية رئيسية واحدة. واستشهد الإعلام المصري بمجلة أمريكية (Aviation week) مشيرا إلى أن الطائرات التي تملكها ليبيا لا تجد طيارين ليبيين لقيادتها (..) وكان الاستنتاج الآليّ أن من سيقودونها هم السوفييت (..) وكان هذا، كما أكدت أبواق الإعلام المصرية، يُمثل خطرا شديدا على الأمن المصري، المؤكد أنه كان أكثر خطرا، إذا صحّ وجوده، من خطر حماس في العشرية الثانية من الألفية الثالثة على الأمن القومي المصري، لأن الدبابات الفلسطينية لا يمكن أن تمر عبر أنفاق رفح!! وليس هناك في غزة مطار صالح للاستعمال تقلع منه طائرات الفانتوم والميراج الفلسطينية لضرب مصر. وفي يوم 19 يوليو يُنشر في القاهرة أن قوات ليبية قامت بالإغارة على مواقع مصرية في منطقة السلوم، على الحدود مع ليبيا، ثم يُعلَن أن قوات مصرية ردّت عليسالعدوانس وقامت بالدخول إلى المواقع التي انطلقت منها العمليات ضد المواقع المصرية، وقامت بتدميرها وعادت إلى قواعدها بعد تنفيذ مهامها ضد القوات الليبية المعتدية !! (..و) عاد النظام الليبي زواستأنف قصف مواقعنا الأمامية بنيران المدفعية (..) وقامت قواتنا بالردّ عليها بالنيران حتى أسكتتها، وفي صباح 22 يوليو قامت الطائرات الحربية الليبية بثلاث غارات جوية (..) ولما كان النظام الليبي مستمرا في اعتداءاته بطريقة تهدد أمن قواتنا وأراضينا (..) قامت قواتنا الجوية بمهاجمة قاعدة زالعضمس الجوية (ولم يقل البلاغ المصري أنها أصبحت منذ قيام الثورة الليبية تسمّى قاعدة جمال عبد الناصر، ولم يتذكر أحد أن الهجوم تم خلال أيام الاحتفالات بثورة يوليو) وأسفر هجومنا عن تدمير شديد للقاعدة ومنشآتها وبعض الطائرات فيهاس وكان الهجوم تقليدا هزيلا للهجوم الإسرائيلي صباح 5 يونيو 1967 على القواعد الجوية المصرية، تماما كما كانت عملية زلارناكاس في قبرص تقليدا سخيفا ومأساويا لعملية زعنتيبيس الإسرائيلية، ولكن ما حدث قدمه الإعلام المصري كانتصارات ساداتية على الإرهاب العربي. وأحدث الهجوم على القاعدة الليبية خسائر كبيرة، ومن المُحزن أن الجرحى نقلوا إلى مستشفى طبرق، الذي كان يضم مجموعة من الأطباء المصريين كان تصرفهم رائعا ونبيلا، ليس فقط من الناحية المهنية بل من الناحية الوطنية، ويقول هيكل(ص 331 أن : زالصورة كانت مأساوية لدرجة أن الجراح المصري الدكتور مصطفي الشربيني بعث ببرقية إلى السادات يقول له فيها أنه كان يُجري العمليات للجرحى من الليبيين وهو لا يكاد يرى مواقع جراحهم، لأن الدموع كانت تملأ عينيهس. وانتهت العملية بالتدخل المعروف الرئيس الجزائري هواري بو مدين، لكن كره السادات لليبيين تزايد فيما بعد عندما احتضنت طرابلس قمة الجبهة القومية للصمود والتصدي، التي تم تشكيلها بعد زيارة السادات للقدس المحتلة. ولا بد هنا، للأمانة، من التذكير أن صياغة خطاب الرئيس المصري في الكنيست كانت ممتازة، حيث قال رأيه للإسرائيليين في عقر دارهم، ولكنّ ردّ بيغين كان خبيثا ولم يكن فيه التزام بشيء، وهكذا عاد السادات إلى مصر خاوي الوفاض، إلا من بقايا ما أسماها هيكل : زليلة العرسس، وإن لم يقل عرس منْ على منْ؟ واجتمعت في ليبيا القمة التي تهرب صدام حُسين من المشاركة فيها وتنكر لنتائجها، وأتذكر هنا أنني سمعت بو مدين يقول خلال اجتماعها الأول : زيجب في كل الإجراءات التي يمكن أن نتخذها أن نتذكر أن هناك شعب مصر، الذي يجب أن نحرص عليهس، ويعلق هيكل بعد ذلك قائلا أنه : لم يكن ممكنا لأية عبارات بالتحية لهذا الشعب المصري أن تخفف من وقع الصدام، خصوصا إذا كانت هذه التحية لن تصل إليه (وهذا هو بيت القصيد المرتبط بموضوع هذا الحديث. ويُذكّر هيكل بمقولة بو مدين، التي لم يتناولها الإعلام المصري، من أنه : زإذا نجحت المبادرة في تحقيق المطالب العربية، فسوف يذهب إلى القاهرة، حتى بدون إخطار مُسْبق، ومن هناك يُعلن أنه كان على خطأ، وإذا فشلت المُبادرة، وكان هناك رجوع عنها، فإنه لن يتردد في الذهاب إلى القاهرة ليضع إمكانياته وإمكانيات الجزائر في خدمة المرحلة القادمة من العمل العربي المُوحَّدْس. ومع الهستريا التي أصابت الإعلام في مصر ضدنا كتبت أقول في 23 ديسمبر 1977 عبر مجلة المجاهد: إننا نعترف للإعلام المصري بقدرته الرهيبة (..) على تلوين حركة جماهيره كما يريد، ولعل مشكلتنا الحقيقية مع هؤلاء القوم أننا لم نقع أسرى للإيقاع الذي يريدون (..) ومن حقهم أن يُصفقوا للحاكم وأن يؤيدوه طالما كان في الحكم، وأن يلعنوه بعد ذلك ليصفقوا للقادمين الجدد، ولكن ليس من حق أحد أن يفرض علينا تحمل ذلك باسم العروبة والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني (..) القسط الأكبر من الأسلحة التي حاربت بها مصر لم يدفع ثمنها شعب مصر (..) وأن مصر حقنت بأموال ضخمة ذهبت كلها إلى جيوب حفنة من السماسرة والمنتفعين، ومنها كميات معتبرة ذهبت إلى جيوب عدد من عمالقة النظام وحساباتهم البنكية في الخارجس.