انفجر الشارع المصري في 18 و 19 يناير 1977 احتجاجا على خيبة الأمل من النتائج الاقتصادية الاجتماعية الهزيلة بعد حرب أكتوبر، ويقول اللواء فؤاد علام، الوكيل الأسبق لجهاز مباحث أمن الدولة عنها في حديث له على صحيفة الأحرار المصرية في يناير 2010، ونقلته القدس العربي أول أمس، بأنه: ((عاد من مأمورية خارج البلاد (..) فوجد متغيرات كثيرة حدثت في المجتمع (..) كان حُكم جمال عبد الناصر (..)حكما سادت فيه الاعتبارات الوطنية على كل فئات المجتمع ومن هذا المنطلق كانت القرارات (..) تنبع من الوطنية والصالح العام. (لكن) الوضع الحالي مخيف ولا يبشر بخير، وارتفاع الأسعار ليس وحده المحرك والسبب الرئيسي لقيام ثورة شعبية تشمل أنحاء مصر بالكامل، لكن هناك عدة أسباب أهمها التغييرات الواضحة في سلوكيات الإنسان المصري، الذي اتجه نحو العنف بشكل غير عادي في كل تصرفاته (..) ومن الممكن أن يؤدي إلى كارثة (لأن) التفاوت الطبقي ارتفع بشكل غير طبيعي في مصر وبدت الهوة كبيرة بين الفقراء والأغنياء، فهناك بضعة أصبحوا مليارديرات، مقابل أكثر من 42 في المائة تحت خط الفقر هذا بالإضافة إلى التفاوت الكبير في الأجور، واستغلال الأغنياء للثروة بشكل سيئ يثير مشاعر الفقراء، فالأوتوبيسات مكدسة بشكل غير لائق في الوقت الذي تمتلئ فيه شوارع القاهرة بالسيارات الفارهة التي يتعدى ثمنها الملايين، بالإضافة إلى ما يُنشر من أخبار الأغنياء الاستفزازية، فنقرأ عن حفلة عيد ميلاد تتكلف 2 و3 ملايين جنيه في الوقت الذي يعيش فيه الكثيرون في المقابر. كان هذا هو التحليل الصحيح لما أصبح يُسمّى انتفاضة الخبز، لكن الرئيس أسماها ((انتفاضة الحرامية)) وقد كان يتصور، كما يؤكد هيكل، أن ((أكتوبر أعطاه شهر عسل طويلا نسبيا، وإذا به يكتشف أن مصداقيته اهتزت وكرامته مسّتْ، وبدا مُستقبله السياسي مهددا، حتى أن الشاه اتصل به هاتفيا يعرض عليه اللجوء إلى طهران إذا أراد)) والرئيس المصري لا ينسى، فقد حرص على استضافة بهلوي عندما فرّ من بلاده إثر ثورة الخميني ورفضت بلدان العالم قبوله بما في ذلك حليفه الكبير، أمريكا، تماما كما تنبأ هواري بو مدين لفيديل كاسترو. وقال السادات أن استضافة الشاه كانت تقديرا لموقفه، عندما زوّد مصر بالنفط خلال حرب أكتوبر، وهو ما يُكذبه هيكل، الذي روى بأن الوقود الإيراني كان يزود الدبابات الإسرائيلية، وهكذا كان كرمُ السادات في واقع الأمر ردّا على مكالمة محمد رضا بهلوي إثر أحداث يناير 1977، وربما تذكيرا له بها، ويمكن لمن أراد أن يُفسّر تصرف السادات كما يريد، وهل كان وفاء وتقديرا أم تشفيا وانتقاما. وطلب رئيس الوزراء المصري آنذاك إنزال الجيش إلى الشارع للسيطرة على الأوضاع التي فشلت الشرطة في مواجهتها، لكن الفريق الغمسي، وهو واحد من أبطال أكتوبر الحقيقيين، رفض ذلك، ولعل هذا كان وراء التخلص منه بعد فترة لم تطل كثيرا. ونصح الغمسي بإلغاء الزيادات التي طرأت على أسعار المواد الاستهلاكية أولا، وهو ما استجاب له الرئيس صاغرا، لكن اضطراره للموافقة أحدث جرحا كبيرا في كبريائه، جعله لا يتوقف عند السبب الحقيقي للمظاهرات بل يحاول أن يتخيل المدبر لها، وهكذا، وكما يقول هيكل ((بدلا من أن يتجه إلى تفسير اجتماعي لما حدث اختار أن يلجأ إلى تفسير بوليسي له)). وبداية، فكر في أن ينسب الأحداث لمؤامرة سوفيتية، ولكنه لم يجد دليلا مقنعا على ذلك. آنذاك كان الاتحاد السوفيتي ينتظر، بعد أن طُوي الملف العسكري، أن يكون له نصيب من عقود تعمير كان تمويلها العربي جاهزا، وكان ذلك مطلوبا لأسباب مرتبطة باستيراد قمح ضروريّ من كندا، وأحس عرفات بالقلق السوفيتي وتشاور فيه مع قادة آخرين، كان من بينهم القذافي، الذي وافق على تعويض موسكو بشراء صفقة سلاح كبيرة من موسكو يُدفع ثمنها نقدا، وهو ما حدث. وعرف السادات ذلك فقال، بجحوده المألوف(هيكل ص 313) متشفيا في السوفييت، الذين حارب بسلاحهم وكان طياروهم يتولون حماية العمق المصري من الضربات الإسرائيلية: ((أولاد ال؟؟؟؟، ليسوا عاجزين فقط ولكن مفلسين)) في تلك الآونة كان الرئيس كارتر قد وصل إلى اليقين، وهو ما أعلنه في 16 مارس، بأن الوصول إلى تسوية شاملة يجب أن يكون هدف كل الأطراف، وبأن إسرائيل يمكن أن تحقق أمنها داخل حدود ما قبل يونيو 1967، وأن مصر لا تستطيع أن تمضي وحدها في سلام منفرد إلا إذا بدت شواهد بأن عملية السلام ممكنة، وبأن من حق الفلسطينيين أن يكون لهم دور في عملية السلام، وأن يكون لهم وطن قومي (Homeland) وهو التعبير الذي استعمله بالفور في رسالته الشهيرة المؤرخة 2 نوفمبر 1917 ، ولكن الوطن القومي كان آنذاك لليهود، الذين تمكنوا من قلب المعادلة لصالحهم لأنهم آمنوا بمطلبهم وجعلوه دينا جديدا، ولم يكن لديهم من ينتحل لقب بطل الحرب على حساب الأبطال الحقيقيين، وهم عشرات الآلاف ممن عبروا القناة وركبوا خط بارليف بقيادة نخبة من خيرة الضباط في العالم كله. وأكد الرئيس كارتر أفكاره للرئيس السادات الذي زاره في الرابع من أبريل، مؤكدا أنه لا يجد سبيلا للنقاش سوى إطار مؤتمر جنيف، لكنه صدم فيما بعد من نجاح حزب الليكود في مايو 1977، وقيل له أن مناحم بيغين قد يكون هو شارل دوغول المرحلة (وهي مقولات تشاوسيسكو) ولكن الرئيس الأمريكي سيتراجع عن كل وعوده لأن أصحاب الحق تهاونوا في حمايته والزود عنه. أما الرئيس السادات فلم يكن مقتنعا بمؤتمر جنيف، وكانت أوهام نتائج إيجابية عن اللقاءات السرية مع إسرائيل عبر المغرب ورومانيا تمسك بكل مشاعره، بقدر ما كانت آثار انتفاضة يناير في الشارع المصري تؤرقه، وكان همه الأول بالتالي حلّ المشكلة المصرية الاقتصادية التي تهدد بتكرار ما حدث في بداية عام 1977. وفجأة تسرب إلى فكره اقتراح كان الوفد الإسرائيلي قد همس به إلى الوفد المصري في لقاء جنيف أواخر 1973، وكان محوره أن على مصر ألا تنظر شرقا، حيث المشاكل كثيرة والمردود محدود، لكن عليها أن تنظر غربا لأن الفائدة هناك مضمونة والمخاطر محدودة. ويقول هيكل (عواصف الحرب والسلام) بأن السادات توصل إلى حلّ بالغ الغرابة فقد خطر له أن يغزو ليبيا، وفي ذهنه أن يحتل الجانب الشرقي من ولاية برقة حيث معظم منابع البترول الليبي (ص 328) وكانت الذريعة صفقة السلاح التي كانت ليبيا قد عقدتها مع الاتحاد السوفيتي بوساطة حافظ الأسد وياسر عرفات. ولعل السادات نسي هنا أن من أكبر أخطاء أدولف هتلر، الساعي إلى الحصول على مزيد من النفط، هجومه على الاتحاد السوفيتي في 1941، والذي نسي فيه أن ثلوج موسكو أنهت أسطورة نابليون من قبله. وهكذا أصبحت ليبيا هدفا للنظام المصري، وكانت قوته الرئيسية ترسانة الإعلام الهائلة التي ورثت من مرحلة أحمد سعيد أسوأ ما فيها ولم تأخذ عنها إيجابية واحدة. وكانت بداية التحرك الساداتي التضخيم الإعلامي لصفقة الأسلحة الني اشترتها ليبيا من الاتحاد السوفيتي إرضاء له على استهانة السادات به، وهكذا ضخم الإعلام، أو من زودوه بالمعلومات، حجمها من ملياري دولار إلى الضعف، وقيل أن من بين بنودها قوة مدرعة تصل إلى ألفي دبابة (..) وإقامة قواعد عسكرية برية وبحرية وجوية في ليبيا (..) واستشهد الإعلام المصري بالمجلة الأمريكية المتخصصة في شؤون الطيران الحربي (Aviation week) مشيرا إلى أن الطائرات التي تملكها ليبيا لا تجد طيارين ليبيين لقيادتها (..) وكان الاستنتاج الآليّ أن من سيقودونها هم السوفييت (..) وكان هذا، كما أكدت أبواق الإعلام المصرية، يُمثل خطرا شديدا على الأمن المصري، المؤكد أنه كان أكثر خطرا، إذا صحّ وجوده، من خطر حماس في العشرية الثانية من الألفية الأولى على الأمن القومي المصري، لأن الدبابات الفلسطينية لا يمكن أن تمر عبر أنفاق رفح !!! وليس هناك في غزة مطار صالح للاستعمال تقلع منه طائرات الفانتوم والميراج الفلسطينية لضرب مصر. وفي يوم 19 يوليو يُنشر في القاهرة أن قوات ليبية قامت بالإغارة على مواقع مصرية في منطقة السلوم، على الحدود مع ليبيا، ثم يُعلَن أن قوات مصرية ردّت على ((العدوان)) وقامت بالدخول إلى المواقع التي انطلقت منها العمليات ضد المواقع المصرية، وقامت بتدميرها وعادت إلى قواعدها بعد تنفيذ مهامها ضد القوات الليبية المعتدية!!(..و) عاد النظام الليبي ((واستأنف قصف مواقعنا الأمامية بنيران المدفعية (..) وقامت قواتنا بالردّ عليها بالنيران حتى أسكتتها، وفي صباح 22 يوليو قامت الطائرات الحربية الليبية بثلاث غارات جوية (..) ولما كان النظام الليبي مستمرا في اعتداءاته بطريقة تهدد أمن قواتنا وأراضينا (..) قامت قواتنا الجوية بمهاجمة قاعدة العضم الجوية (ولم يقل البلاغ المصري أنها أصبحت منذ قيام الثورة الليبية تسمّى قاعدة جمال عبد الناصر، ولم يتذكر أحد أن الهجوم تم خلال أيام الاحتفالات بثورة يوليو) وأسفر هجومنا عن تدمير شديد للقاعدة ومنشآتها وبعض الطائرات فيها)) وكان الهجوم تقليدا هزيلا للهجوم الإسرائيلي صباح 5 يونيو 1967 على القواعد الجوية المصرية، تماما كما كانت عملية لارناكا في قبرص فيما بعد تقليدا سخيفا ومأساويا لعملية عنتيبي الإسرائيلية، ولكن ما حدث قدمه الإعلام المصري كانتصارات ساداتية، قامت فيها القوات المصرية بعملية تعويض نفسي للجماهير على الانسحاب المخزي في منطقة القناة.